كان التلاميذ -كما ذكرت- يأخذون جميعًا رواتب من الحكومة؛ ترغيبًا لهم في الالتحاق بالمدارس، وكان جميع التلاميذ يأخذون هذه الرواتب أو المعاشات كما يسمونها، ولكن في السنة التي وصلت فيها: اتخذت الحكومة قرارًا جديدًا، وهو قصر الرواتب على التلاميذ القطريين وحدهم، أما غير القطريين فلا يُصرف لهم شيء.

وكان في المعهد الديني عدد من الطلاب من غير القطريين، بعضهم من الإمارات مثل: الطالب أحمد عبد الله عسكر، من خور فكّان، والطالب محمد عبد الرحمن البكر، من رأس الخيمة، والطالب محمود هزاع من اليمن، وغيرهم.

وتحدثت مع الشيخ عبد الله بن تركي عن هذه القضية، وقلت له: يجب أن يستثنى طلاب المعهد الديني من قرار قصر الراتب على القطريين؛ تشجيعًا للتعليم الديني، فقال لي: إن هذا الأمر بيد الشيخ خليفة، وأنا أرى أن نذهب معًا لزيارته ليتعرف عليك، ولتحدثه في هذا الأمر بنفسك، وأعتقد أنه سيقتنع بمنطقك.

وفعلًا ذهبت مع الشيخ ابن تركي إلى الشيخ خليفة، فحياني الرجل ورحَّب بي، وقال لي: سمعنا عنك قبل قدومك، وأرجو أن تجد في قطر وطنك الثاني، وشكرته على المجاملة الطيبة، وقلت له: يا طويل العمر، أريد أن أشرح لكم موقف المسلمين من العلم الديني طوال العصور الماضية، فقد وقفوا عليه الأوقاف، والصدقات الجارية؛ ليستمر علم الشرع موصولًا متوارثًا جيلًا بعد جيل، فهو فرض كفاية على الأمة، إذا قام به عدد كاف يلبي الحاجة؛ رُفع الحرج عن الأمة؛ وإلا أثمت الأمة كلها.

وقد جرت عادة أهل الخير من المسلمين أن يخصوا الطلبة الغرباء بعناية أكبر من غيرهم؛ لشدة حاجتهم في غربتهم؛ وتشجيعًا لهم أن يتفقهوا في الدين وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، ونحن -طلبة الأزهر المصريين- في كلياتنا، لا يُعطى لنا شيء، على حين يُعطى طالب البعوث الإسلامية قدرًا من المعونة يساعده على معيشته، وبعضهم يأخذها رغم أنه يسكن في مدينة البعوث الإسلامية التي خصصها لهم الأزهر، وهذا امتداد لنظام «الأروقة» الذي كان متبعًا في الأزهر من قديم، فهناك في مباني الأزهر نفسه: رواق للمغاربة، ورواق للأكراد، ورواق للشوام، وهكذا.

وأنا لا أطالب سموكم بإعطاء الطلبة الغرباء، وحرمان القطريين... بل أريد التسوية بين الجميع في ذلك، وتكون هذه ميزة لطلبة المعهد الديني، وتفهم الرجل قصدي، واستجاب له في الحال، بل ظلت هذه الميزة لطلاب المعهد مستمرة، حتى بعد أن أُلغيت الرواتب من الطلاب القطريين أنفسهم بعد ذلك.

زيارة الشيخ الأنصاري في مجلسه:

وقد ذكرت أن أول من زارني في مكتبي كان الشيخ عبد الله الأنصاري؛ فكان الواجب أن نرد إليه الزيارة في مجلسه؛ والله تعالى يقول: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ فَحَيُّواْ بِأَحۡسَنَ مِنۡهَآ أَوۡ رُدُّوهَآ} (النساء:86)، وذهبت إلى فضيلة الشيخ في مجلسه القديم، وكان مجلسًا ومكتبة في الوقت ذاته، فقد كانت المكتبات جزءًا من البناء، أو من جدران المجلس، مكسوّة بالخشب والزجاج، ومصنفة على العلوم، فبعضها للتفسير، وبعضها للحديث، وبعضها للعقيدة، وآخر للفقه، وآخر للنحو والصرف واللغة، وغيره للأدب والتاريخ.

ووجدنا الشيخ يقرأ في أحد كتب الحديث على ما أذكر، فعلقت على الموضوع تعليقًا ضافيًا بما فتح الله عليَّ في ذلك الوقت، وتلقاه الشيخ ومن حوله بالرضا والقبول، وأصبحت أتردد على مجلس الشيخ بين الحين والحين، أحيانًا وحدي، وأحيانًا مع فضيلة الشيخ عبد المعز، أو الشيخ أحمد العسال، وبعد قليل بُني بجوار الشيخ مسجد الشيخ غانم بن علي آل ثاني، وهو مسجد جمعة، كان يخطب فيه الشيخ رحمه الله ، ويقيم فيه الندوات الدينية ويدعونا للمشاركة فيها، ويحيي بعض الذكريات الإسلامية، مثل ذكرى الهجرة النبوية، أو ذكرى المولد النبوي.

وفي إحدى السنوات، قامت مناقشة علمية حامية بين الشيخين ابن محمود الذي اعترض على الأنصاري في الاحتفال بالمولد، والأنصاري الذي دافع عن الاحتفال بالمولد بالدروس والمحاضرات، وكتب الأنصاري رسالة علمية رصينة شرح فيها وجهة نظره، موثقة بالأدلة الشرعية؛ مما دل على أصالته وتمكنه، ورد الشيخ ابن محمود برسالة أخرى عنوانها: "كلمة الحق في الاحتفال بمولد سيد الخلق".

ثم أنشأ الشيخ الأنصاري ندوة قرآنية مساء كل خميس للتدريب على حسن تلاوة القرآن، وتعليم أحكام التجويد، وتنتهي بدرس قرآني، وقد استفاد منها الكثيرون فأحسنوا تلاوتهم، وكثيرًا ما شاركت فيها، بالتلاوة وإلقاء درس في ختام الندوة.

القاضي الشيخ أحمد بن حجر:

وأما القاضي الفاضل، والعالِم المطلع، المدافع عن عقيدة السلف، والواقف في وجه الملاحدة واللادينيين: الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي البنعلي؛ فقد زرته -مع الشيخ عبد المعز والعسال- في بيته القديم الذي أسسه في منطقة السد، وقد كان حديث الانتقال إليه، ثم توالت بعد ذلك الزيارات، وتوثقت الروابط، وقد صنف الشيخ عدة كتب ورسائل في موضوعات شتى، يدافع فيها جميعًا عن الدين، ويقاوم شبهات المبطلين، وأكاذيب المفترين.

وأعتقد أن الشيخ ابن حجر قد حط رحاله في قطر، منتقلًا من إمارة رأس الخيمة قبل مجيئي إلى قطر بسنة واحدة، وهي سنة 1380هـ - 1960م، وقد عاش بحي «البدْع» مدة قليلة، ثم انتقل إلى بيته الجديد، كما تشير الملحمة، التي أنشأها ابنه الدكتور حجر أحمد حجر، الذي جمع بين الطب والشعر، ووزير الصحة الآن في دولة قطر.

عودة إلى تطوير المعهد:

وفي هذه الفترة بدأت أعد العدة لتصحيح النظرة إلى المعهد، وتطويره، تطويرًا يساعد أبناءه على أداء رسالتهم الدينية والدنيوية، ويبدأ تصحيح النظرة بإلغاء اعتبار المعهد مرحلة ثانوية مدتها خمس سنوات متصلة، إذ ليس قبلها مرحلة ابتدائية كمعاهد الأزهر.

تقسيم المعهد إلى مرحلتين إعدادية وثانوية:

وبدا لي أن أقسم المعهد إلى مرحلتين: إعدادية وثانوية، كل مرحلة منهما ثلاث سنوات، مثل مراحل التعليم العام، يدرس الطالب في المرحلتين ما يدرسه الطالب في التعليم العام تقريبًا، إلا ما لا ضرورة إليه مما يوفر لنا بعض الحصص.. وتدرس نفس الكتب المقررة على الإعدادي والثانوي في العلوم والرياضيات والمواد الاجتماعية، واللغة الإنجليزية ونحوها، وفي الثانوي تدرس مناهج القسم الأدبي.

على أن نزيد الجرعات التي يأخذها الطالب من العلوم الشرعية والعربية؛ وهنا لا بد أن نبذل جهدًا في تيسير هذه العلوم وتقريبها بحيث لا نرهق الطالب بتعقيداتها، ولا بد من تقرير الكتب المناسبة لذلك، وقد يضطرنا هذا أن نزيد حصتين في الخطة الدراسية.

ومعنى هذا: أن علينا أن نهيئ الطالب في الصف الثالث بالمعهد هذا العام لامتحان الشهادة الإعدادية، وحصول الطالب على هذه الشهادة سيشعره بأنه قطع مرحلة دراسية مهمة، وحصل على شهادتها، وكلمت الشيخ عبد الله بن تركي في هذا التغيير، ورحب به ووافقني عليه، وقال: علينا أن نقابل مدير المعارف وتقنعه بهذا الأمر.

وكان مدير المعارف هو الأستاذ عبد الرحمن عطبة «أ. د. عبد الرحمن عطبة، أستاذ اللغة العربية الآن»، وقد كان مفتشًا للغة العربية، وأبدى نشاطًا ملحوظًا، فعينه الشيخ قاسم مديرًا للمعارف، وكنت قد لقيته في القاهرة في الصيف لقاءً عابرًا، وكان الأستاذ محمد المبارك أوصاه بي؛ فذهبت إليه، وشرحت له فكرتي، فشد على يدي، وشجعني على سرعة التنفيذ.


                                                                                                                                                                                                                            في المعهد

كتب جديدة للمعهد:

وفعلًا شرعت في التنفيذ، فغيرت الكتب المقررة من قبل على الطلاب، وطلبت كتبًا جديدة، منها: كتاب: «النحو الواضح» للأستاذ علي الجارم، والأستاذ مصطفى أمين بأجزائه ومستوياته الثلاثة، وألغيت دراسة المنطق والبلاغة وابن عقيل، أو قل: أجلتها إلى الثانوي، حسب التيسير.

وقررت تغيير كتاب الفقه من «الروض المربع» إلى كتاب: «منار السبيل شرح الدليل»، وهو كتاب سلس سهل العبارة، يهتم بالأدلة، ومطبوع على ورق فاخر في جزأين، وموجود في قطر، فقد طبعه الوجيه قاسم درويش على نفقته، وقررت أن يدرس نصف الكتاب في المرحلة الإعدادية، ونصفه في المرحلة الثانوية، ولم يتطلب مني ذلك أن أزيد في خطة الدراسة غير ساعتين، واحدة يوم السبت، وأخرى يوم الأحد.

وكان هذه التطوير المقابل لتطوير الأزهر، إلا أن الأزهر طور العلوم الحديثة، ولم يمس العلوم الشرعية والعربية القديمة، فبقيت على حالها، واضطر الأزهر أن يبقى سنوات الدراسة كما هي: أربع سنوات للإعدادي، وخمس سنوات للثانوي، أي أنها أزيد من التعليم العام بثلاث سنوات، وقد اضطر الأزهر بعد سنوات وسنوات أن يقترب منا في قطر، ويختصر بعض السنوات في المرحلتين.

استبشر طلاب المعهد بالتغيير الذي حدث، وأقبلوا على الدراسة بالمعهد بجد وحرص، وكنت أدرس لهم بعض المواد بنفسي. وقد لمست فيهم ذكاءً وانتباهًا وتجاوبًا كبيرًا، وشارك الطلبة في أنشطة ثقافية واجتماعية، أبلوا فيها بلاءً حسنًا، وبرزوا فيها، بل تفوقوا على كثير من زملائهم. وصدقت وعدي للطلبة بالتغيير إلى الأحسن، وقد كان.

وبعد أشهر دخلت أول دفعة من طلبة المعهد امتحان الشهادة الإعدادية، ونجحوا جميعًا، وجلهم -إن لم يكن كلهم- من النابهين المتفوقين، الذين صاروا بعد ذلك وزراء، أو سفراء، مثل: عبد العزيز بن عبد الله تركي، ومحمد سالم الكواري من قطر، ومحمد عبد الرحمن البكر من الإمارات.

وكان عدد من المدرسين مثبتين، وعدد آخر ينتدب من المدرسة الإعدادية الثانوية، مثل: مدرس العلوم والرياضيات والمواد الاجتماعية والإنجليزية.. ولم أطلب تغيير أحد من المدرسين الذين كانوا بالمعهد من قبل، وإن كان لي ملاحظات على بعضهم، ولكن قلت بالتوجيه يمكن أن يتحسنوا ويتطوروا، وإلا طلبت التغيير، وقد كان.

الشيخ عبد اللطيف زايد:

لكني طلبت مدرسًا واحدًا، رجوت أن ينضم إلى أسرة المعهد؛ ليكون عونًا لي فيما أريده للمعهد من رسالة، وقد عرفته مربيًا بالفطرة والأسوة، ونموذجًا مجسدًا للإخلاص والبذل والعطاء دون منٍّ ولا أذى، ذلكم هو الأخ الحبيب الشيخ عبد اللطيف زايد، الذي عرفته من قبل في معسكر التدريب بالأزهر، وفي تل بسطة بالشرقية في معارك القناة ضد الإنجليز، وقد سبقني إلى قطر، وهو يعمل مدرسًا للعلوم الشرعية بمدرسة أم صلال عليّ الابتدائية، وأهلها محبون له متمسكون به، ولكني وسَّطت الأستاذ أحمد رجب عبد المجيد «د. أحمد بعد ذلك» ليشفع لي عند الشيخ عليٍّ بن جاسم شيخ أم صلال، ليسمح بانتقال الشيخ عبد اللطيف إلى المعهد لشدة الحاجة إليه واستجاب الشيخ عليٌّ رحمه الله.  

وبعد ذلك دعاني الشيخ عبد اللطيف إلى زيارة الشيخ عليٍّ بن جاسم، فزرناه معًا في مجلسه بأم صلال، وهو رجل كبير السن، كبير القدر، وقد وجدناه يقرأ بعض كتب الفقه المالكي، فقد كان مالكي المذهب، على خلاف عموم آل ثاني، فهم حنابلة، وقد أنس الرجل بي، وطلب إليَّ أن لا أقطع زيارته، وكنت أزوره مع الشيخ عبد اللطيف بين فترة وأخرى، حتى توفي رحمه الله، وكان الشيخ عبد اللطيف نعم العون لي في توجيه الشباب بالمعهد، وخصوصًا في الرحلات التي نقضيها مع الشباب يوم الجمعة، أو يوم الجمعة وليلتها.

ونال المعهد سمعة طيبة بين الناس، فأثنى عليه الشيخ ابن مانع، والشيخ عبد الله بن زيد، والشيخ الأنصاري وغيرهم من المشايخ، ومنهم الشيخ داود حمدان، الذي قال: إن المعهد أصبح بفضل الله ثم بفضل فلان معهدًا: للعلم والدعوة معًا.

الشيخ داود حمدان:

وبمناسبة ذكر الشيخ داود حمدان، فقد كان من الشخصيات العلمية الدعوية التي تعرفت عليها في قطر، وكان الشيخ داود من علماء فلسطين، الذين لهم اطلاع جيد على العلوم الشرعية، ولهم قلم جيد في كتابة بعض الأبحاث العلمية والفقهية، وله بحث جيد في التأمين، رجح فيه الجواز، مستندًا إلى ما ذكره الحنابلة من ضمان حارس السوق، كما له جملة أبحاث أخرى.

وكان الشيخ داود من أعضاء حزب التحرير النشيطين، بل من مؤسسيه، ولكنه انفصل عنه وتركه، وقد بدأ بزيارتي وعرفني بنفسه، وزرته بعد ذلك، وتوثقت صلتي به، حتى مات رحمه الله، ولقد قرأ كتابي «الحلال والحرام» وأُعجب به، وكتب لي بعض الملاحظات عليه تناقشنا فيها، وقال: إنه كتاب يحمل روح اجتهاد حقة، وكثيرًا ما زارني في بيتي مع صديقه الشيخ عبد الله عَنَبْتاوي المدرس المرموق، وكثيرًا ما زرته في بيته رحم الله الجميع.

الشيخ مبارك سيف الناخي:

وكان من خيرة الأشخاص الذين عرفتهم في قطر وأحببتهم، كما أحبوني: الشيخ مبارك بن سيف الناخي، وهو من أهل الشارقة، ويعمل منذ زمن بالتدريس في قطر، كغيره من أبناء الإمارات، مثل: الشيخ محمد بن سعيد بن غباش، ومحمد بن علي المحمود، وأحمد بن علي المحمود، وغيرهم، وكان الشيخ مبارك من أصفى الناس نفسًا، وأنقاهم سريرة، وأرضاهم خلقًا، يألف ويؤلف، لا تصدر عنه كلمة سوء، ولا فعلة سوء، ولا خصلة سوء.

كان غيورًا على الإسلام: على عقيدته، وعلى شريعته، وعلى حضارته، وعلى أمته، وعلى قضاياه في كل مكان، وقد تتلمذ على مدرسة «المنار» السلفية المجددة، ولم يكتف بذلك، بل اجتهد أن يمد شعاعها لكل من له به صلة، فيوسع دائرتها، ويكثر أتباعها، وكان صهر الأخ الصديق الشيخ عبد الله بن عليّ المحمود، عالِم الشارقة وداعيتها، رحمهما الله رحمة واسعة.

زيارة الشيخ أحمد حاكم قطر:

اقترح علينا أخونا الأستاذ عبد البديع صقر: المقرب من الشيخ أحمد بن عليّ آل ثاني حاكم قطر، أن نزور الحاكم، فليس لائقًا برجال في منزلة الشيخ عبد المعز، والشيخ القرضاوي، أن يجيئوا إلى قطر للعمل فيها، ولا يزوروا حاكمها. قلت له: أيضًا لا يليق بنا أن نقحم أنفسنا على الرجل، أو نفرض أنفسنا عليه، ولم تأت مناسبة معينة لذلك. قال: أنا آخذ لكم موعدًا منه.

وأخذ لنا موعدًا لنزوره في مكتبته التي كان يشرف عليها الشيخ عبد البديع، وكان لقاءً طيبًا، استقبلنا فيه الرجل استقبالًا حسنًا، ورحب بنا في بلدنا الثاني، وتحدث معنا حديثًا كله مودة ومحبة، وكان غاية في الدماثة والتواضع وحسن الأدب، ثم دعا بالعشاء فتعشينا معه، وأصبحت هذه عادة متكررة كل مدة، حوالي كل شهرين أو ثلاثة، أو نحو ذلك، أذهب مع الشيخ عبد المعز، والشيخ العسال، لزيارة الشيخ أحمد، وكثيرًا ما تنتهي الزيارة بالعشاء.


                                                                                                                                                                                            الشيخ أحمد بن عليّ آل ثاني رحمه الله 

وفي إحدى الزيارات تحدث سمو الشيخ الحاكم عن الربا وتشدد بعض العلماء فيه، واضطررت أن أرد عليه، وأبين له أن تحريم الربا أمر قطعي، وأن الفوائد هي الربا، وأن الله تعالى لا يُحرِّم على الناس إلا ما يضرهم، وأن الواجب على المسلمين: أن يُحرِّموا ما حرَّم الله ورسله... إلخ ما قيل في هذه الجلسة.

وكان حديثي واضحًا حاسمًا، لا مجاملة فيه ولا تهاون، وكان بعض الحضور ينظر إليَّ وأنا أتكلم، كأنما هو مشفق عليَّ: أن أعارض حاكم البلاد بهذه الصراحة، وهذه القوة. وذاع حديث هذه الجلسة وهذه المناقشة بين الناس، وخشي بعضهم عليَّ من عواقبها، وقال بعضهم: كان عليه أن يراعي المقام، كما راعاه آخرون من الحضور، ولكني عرفت بعد ذلك من الشيخ عبد البديع: أن الحاكم أعجب بحديثي، وزاد احترامه لي، وقال: هذا رجل يقول ما يراه حقًّا، ولا يخاف في الله لومة لائم، فمثله يجب أن يُقدَّر، ويُحرص عليه، ولا يُفرَّط فيه.

وعرفت من هذا أن قول الحق لا يحرم الإنسان من رزق قد كُتب له، ولا ينقص من قدره حتى عند من يجبههم بكلمة الحق، كما لا يُقدِّم أجله أو يُنقص من عمره لحظة، {وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِذَا جَآءَ أَجَلُهَا} (المنافقون:11).

الشيخ عبد البديع صقر:

وبمناسبة ذكر الشيخ عبد البديع صقر، يحسن بي أن أذكر أني عرفته في معتقل الطور سنة 1949م، فكان من دعاة الإخوان المعروفين في مصر، وهو من أبناء الشرقية، شأنه شأن الشيخ عبد المعز عبد الستار، فهو من «أبو كبير»، وعبد المعز من فاقوس، وقد ألف رسالة صغيرة الحجم، ولكنها نافعة، لما حوته من أفكار وتجارب عملية في حقل الدعوة، وعنوانها: «كيف ندعو الناس؟»، وكان عبد البديع على صلة طيبة بالإمام حسن البنا، وقد عمل فترة بالمركز العام للإخوان.

وكان الوجيه قاسم درويش في عهد الشيخ علي بن عبد الله الحاكم السابق لقطر، ووالد الحاكم الحالي الذي تنازل له عن الحكم قبل مجيئي إلى قطر بسنة واحدة، هو المسئول عن المعارف قبل الشيخ قاسم بن حمد، وكان له صلة بالعلامة السيد محب الدين الخطيب صاحب مجلتي «الفتح» و«الزهراء»، فأرسل إليه يطلب منه ترشيح شخصية إسلامية قوية تتولى إدارة المعارف، فرشح له في أول الأمر: الكاتب الإسلامي الصاعد محمد فتحي عثمان، ولكن ظروفًا خاصة حالت دون استجابة الأستاذ فتحي، فطلب من الإخوان أن يرشحوا له شخصًا للقيام بالمهمة المطلوبة، فرشحوا له الأستاذ عبد البديع.

وسافر الشيخ عبد البديع إلى قطر مبكرًا سنة 1954م، وعُيّن مديرًا للمعارف مع الشيخ قاسم بن درويش، وكانت المعارف في ذلك الوقت محدودة جدًّا، عدة مدارس ابتدائية للبنين، محدودة العدد، ولا توجد مدرسة إعدادية بعد، وكان تعليم البنات محدودًا جدًّا، فقد قامت معركة جدلية بين المشايخ في تعليم البنت، وإلى أي حد يجوز لها أن تتعلم؟

فكان بعضهم يحبذ أن تتعلم البنت كما يتعلم شقيقها الابن، فطلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وبعضهم يقول: يكفيها التعليم الابتدائي، ولا حاجة إلى ما بعد ذلك، وقد قال الله تعالى: {وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (الأحزاب:33)، وظلت هذه المعركة محتدمة، ولم تُحسم إلا قبيل قدومي إلى قطر، وقد حُسمت في صالح التوسع في تعليم المرأة.

ومن الغريب أن الشيخ عبد الله بن زيد المحمود، صاحب الفتاوى الجريئة في الحج وغيره، كان من أنصار التضييق والتشديد في تعليم المرأة، وكان الشيخان: ابن تركي، والأنصاري، من القائلين بإتاحة الفرصة للفتاة لتتعلم كل علم نافع تريده وتقدر عليه.

وقد عشت في قطر حتى رأيت الشيخ عبد الله بن زيد، يكتب إلى مدير جامعة قطر - أ. د. إبراهيم كاظم -رحمه الله- يستغرب منه كيف توضع الشروط والعقبات في سبيل تعليم الفتاة، ويطالب بأن تفتح الجامعة أبوابها على مصاريعها لكل فتاة ترغب في استكمال تعليمها، فقلت: سبحان الله، ما أسرع ما يتغير الإنسان!

وقد انضم إلى عبد البديع بعد ذلك عدد من الإخوان الذين فروا من جحيم عبد الناصر بمصر، فكان منهم من ذهب إلى دمشق، ومنهم من ذهب إلى السودان، وغيرها، ومن هذه البلاد جاءوا إلى قطر. كان ممن جاءوا من دمشق: عز الدين إبراهيم، وحسن المعايرجي، ومحمد الشافعي، وعبد اللطيف مكي، وممن جاءوا من السودان: كمال ناجي، وعليّ شحاتة، ومصطفى جبر.

وكان الشيخ قاسم درويش، ومعه عبد البديع صقر، وغيره من جهاز إدارة المعارف؛ حريصين على ألا يعينوا إلا مسلمين متدينين، فكان المدخنون مثلًا لا يجدون فرصة للتعاقد معهم، وكان بعضهم يدخن، ولكنه يخفي ابتلاءه بهذا الداء، ولا يستطيع أن يدخن في المدرسة، إلا إذا استخفى في دورة المياه.

وقد تعاقد الشيخ عبد البديع مع عدد من أبناء فلسطين، معظمهم من الإسلاميين الذين أصبح لهم شأن ومكان فيما بعد، منهم: رفيق شاكر النتشة، الذي عمل مديرًا لمكتب وزير المعارف الشيخ قاسم بن حمد، وكان له سطوته ونفوذه، ومنهم: محمد يوسف النجار، الذي عمل أيضًا في مكتب الوزير، وكان له أثره في حركة فتح وتأسيسها فيما بعد، حتى استشهد في بيروت رحمه الله، ومنهم: أحمد رجب عبد المجيد، وغيرهم وغيرهم، وكان عبد البديع صقر شخصية مرحة متميزة باليسر والمرونة وخفة الروح، كان يزور الشخص ولا يطيل، ويقول: أعتقد أننا شرفنا! ثم يستأذن وينصرف.

وكان يعزم الناس على الغداء عنده، ثم ينسى أن يخبر أهل بيته، فيفاجأ بالناس وقت الغداء يدقون عليه الباب، فيرحب بهم، ويأكلون ما حضر، ويقول لهم: نسيت أن أبلغ وزارة الداخلية! وأحيانًا يقول لأهله: اصنعوا لنا ثريدًا، ويقول: إن قصعة الثريد تقبل القسمة على أيّ عدد!

وقد بقي مديرًا للمعارف حتى تغير الوضع، وأعفي الوجيه قاسم درويش، وجيء بالشيخ قاسم بن حمد، واحتضن الشيخ عليّ، ثم الشيخ أحمد الشيخ عبد البديع، ليشرف على مكتبته الخاصة، وعلى المكتبات العامة في قطر.

وقد دخلت قطر، وهو مدير لهذه المكتبات، حتى تغيرت بعد عدة سنوات إلى «دار الكتب القطرية» التي أصبح لها مقر متميز، وكان هو أول مدير لها.