في هذا الموسم (موسم حج 1384هـ) لقيت عددًا من الشخصيات، لعل أبرزهم وأهمهم: العلامة الفقيه الداعية القائد: الشيخ مصطفى السباعي، قائد الدعوة الإسلامية في سوريا.

وقد جلست معه طويلًا، وتحدث إليَّ طويلًا، وتحدثت إليه قليلًا، وأفضى إليَّ بذات نفسه، وأسمعني من قصائده العاطفية التي تفيض حبًّا وشوقًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل قصيدته الشهيرة:
احملوني إلى الحبيب وروحوا  **  واتركوني ببابه واستريحوا

وكان الشيخ ينشد هذه الأبيات ودموعه تسيل على خديه تأثرًا وحبًّا للرسول الكريم.

وذكر الشيخ لي عن معاناته وآلامه في المدة الأخيرة، وكيف ذهب إلى أوروبا للعلاج، وكيف وجد في كل مدينة يذهب إليها إخوة ينتظرونه، وقد رتبوا له كل شيء: الفندق الذي ينزل به، والمستشفى الذي سيعالج فيه، والطبيب الذي سيتولى فحصه والإشراف عليه، وكل ما يلزمه من دقائق الأمور وجلائلها، يقول: فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم، وبدافع من الأخوة الإيمانية، وأنا والله لا أعرفهم، ولا هم من بلدي، ولكنه سر الدعوة التي أزالت الحواجز بين الناس، وقرّبت أهل الإيمان حتى كأنهم أسرة واحدة، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

كانت هذه هي المرة الثالثة التي ألقى فيها العلامة السباعي، فقد لقيته أول مرة عندما زارنا في مدينة المحلة سنة 1953م على ما أذكر، وألقى محاضرة رائعة شهدها جمهور كبير، واستمر نحو ساعتين، والناس مشدودون إلى المحاضر بأعينهم وعقولهم ومشاعرهم، لم يبرح أحد مكانه. وقلما يحدث هذا ولا سيما لداعية غير مصري.

والمرة الثانية كانت عندما جمعني به الأستاذ الدكتور محمد البهي على حفل شاي في فندق شبرد على ما أذكر، وأهداني كتابه: «الاشتراكية في الإسلام»، والثالثة هذه المرة في رحاب المسجد النبوي الذي جعله الله مثابةً للناس وأمنًا.

وكان هذا هو اللقاء الأخير بالأخ الكبير، والأستاذ الجليل، وكانت أحاديثه معي، كأنما هي أحاديث مودع، فما هي إلا أشهر قليلة، حتى اختار الله الشيخ لجواره، ولحق بالملأ الأعلى راضيًا مرضيًّا إن شاء الله. أحوج ما تكون الأمة إلى مثله في علمه وفكره وإيمانه وخلقه وتوازنه، ولكنها سنة الله في خلقه، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (آل عمران:185)، وكذا قال الله لخاتم رسله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} (الزمر:30).

ولكن عزاءنا فيه: أن العلماء الربانيين لا يموتون، تذهب أجسامهم، وتبقى آثارهم، في كتب تقرأ، أو أشرطة تسمع، أو مواقف تؤثر، أو تلاميذ يعلمون الناس؛ وبهذا يضيفون أعمارًا إلى أعمارهم، فإن عملهم موصول، وأثرهم لم ينقطع بالموت.
ففز بعلم تعش حيًّا به أبدًا  **  الناس موتى وأهل العلم أحياء!

كان الشيخ السباعي أحد الشخصيات الإسلامية النادرة: في علمها وفكرها، وفي عواطفها ومشاعرها، وفي أخلاقها وسلوكها، وفي دعوتها وجهادها. كان خطيبًا وسياسيًّا يهز أعواد المنابر، ومحاضرًا يأسر سامعيه بعميق فكره، وجميل أسلوبه، ومؤلفًا متمكنًا يوثق أقواله بالأدلة العلمية، وزعيمًا شعبيًّا يقود الجماهير بكياسة وحكمة... وقائدًا إسلاميًّا يقود سفينة الدعوة بوعي وصبر وثبات.

كان للشيخ السباعي عدة مؤلفات مهمة في موضوعها، أصيلة في فكرتها، منها: كتابه «السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي»، وقد رد فيه على خصوم السنة قديمًا وحديثًا، وفند شبهاتهم، رد على المعتزلة، ورد على المستشرقين، وعلى أحمد أمين، وعلى أبي رية، وكتابه «أضواء على السنة المحمدية» الذي كشف زيفه، وعرّاه، وأسقطه مثخنًا بالجراح، بالبراهين العلمية، وبالرجوع إلى المصادر الموثقة لا إلى كتب الأدب والتاريخ ونحوها كما فعل أبو رية.

وقد حدثني الشيخ السباعي - كما أشرت من قبل - أن أبا رية زاره عندما جاء إلى مصر، وقال له: إنه كان شديد القسوة عليه، وأن ضرباته له كانت موجعة، وقال الشيخ: إني لم أحُد عن المنطق العلمي قيد شعرة، ولم أعتمد على مصدر تافه، ولا على قول واهن السند، ولا على قول أحد مطعون في علمه أو دينه. وهل تريدني أن أرفق بك، وأنت لم ترفق بسنة رسول الله - بأبي هو وأمي - ولا بأصحاب رسول الله، ومنهم أبو هريرة أكثر الصحابة رواية عن الرسول الكريم، ولا بأئمة المسلمين المتفق على جلالتهم وفضلهم وسعة علمهم وأمانتهم؟ هل تريد مع هذا أن أسميك «شيخ الإسلام»؟!!

ومِن كتب الشيخ المهمة والذائعة الصيت «اشتراكية الإسلام»، وهو كتاب علمي أصيل يعتمد على الأصول الإسلامية من القرآن والحديث وقواعد الشريعة ومقاصدها، وللشيخ فيه آراء عميقة، واجتهادات متميزة، وإن خالفها بعض مشايخ سوريا المعروفين مثل: شيخ حماة وخطيبها محمد الحامد. ومِن العلماء من لم يعترض على مضمون الكتاب، إنما اعترض على العنوان، وهو نسبة الاشتراكية للإسلام، ورسول الإسلام لم يكن اشتراكيًّا ولا رأسماليًّا، ولكن كان حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين.

وإنما اختار الشيخ هذا العنوان حين فُتن الناس بالاشتراكية، وزعم من زعم أنها هي المذهب الذي حد من طغيان الأغنياء، ورفع من مستوى الفقراء، ووقف في صف الكادحين أمام جشع الرأسماليين المستغلين؛ فأراد أن يقول لهم: إن الإسلام سبق بهذه المبادئ التي تنصف الفئات الضعيفة، والطبقات المسحوقة، وتأخذ بأيديها، وتصون حقوقها، بل تشعل الحرب من أجلها، حتى إن الدولة الإسلامية هي أول دولة في التاريخ تُجيِّش الجيوش وتعلن القتال من أجل انتزاع حق الفقراء من براثن الأغنياء كما قال الخليفة الأول: «والله، لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه».

وهذه المبادئ في الإسلام على أحكم وجه، وأكمل صورة، وأقرب شيء إلى العدل والتوازن، دون غيرها، من اشتراكية، مادية أو ملحدة أو مجحفة، بل الاشتراكية التي تقيم عدل الله في أرض الله، على جميع عباد الله، وهي الجديرة بأن تُنسب إلى الإسلام. فهي اشتراكية مادية روحية، فردية اجتماعية، اقتصادية، أخلاقية، إنسانية وربانية، واقعية مثالية، وليست مثل الاشتراكيات المقطوعة النسب بالله عز وجل.

وقد استغلت ثورة 23 يوليو في عهد عبد الناصر الكتاب، وطبعت منه عشرات الألوف، ترويجًا لاشتراكيتها الثورية الخاصة، ولعل هذا ما أساء إلى الكتاب، حيث استغل ما فيه من حق، لتأييد ما عند القوم من باطل، وهو ما شكا منه الشيخ في أواخر حياته، غفر الله له ورحمه وتقبله في عباده الذين أنعم عليهم من الصديقين والشهداء والصالحين.

ومِن كتب الشيخ «المرأة بين الفقه والقانون»، و«شرح قانون الأحوال الشخصية»، و«من روائع حضارتنا»، وهو كتاب فريد في مضمونه وفي أسلوبه، و«أخلاقنا الاجتماعية»، وغيرها من الكتب والرسائل التي أسهمت في وقتها في تثقيف الأمة، وتوعيتها وتنوير عقولها، ودعوتها إلى المنهج الوسط الذي لا غلو فيه ولا تفريط.

وكان من الآثار الطيبة التي تركها الشيخ؛ مجلة «حضارة الإسلام»، التي أسسها لتكون منبر «الإسلام الحضاري» الذي يدعو إليه، وليس إسلام الدروشة أو الرهبنة، ولا إسلام العنف والنقمة، ولا إسلام التعصب والانغلاق. وإنما هو الإسلام الذي يقيم حضارة عالمية إنسانية ربانية أخلاقية، تصل الأرض بالسماء، والدنيا بالدين، والمخلوق بخالقه.

مشرف جديد:

كان من الأمور التي تهمني وتشغل بالي، وأنا في قطر: ما يتعلق بدراستي العليا في الأزهر، ورسالتي للدكتوراة، فكنت أتابع الأمور من قطر، لأعرف ماذا جرى.

وقد عينتْ إدارة كلية أصول الدين مشرفًا جديدًا، يشرف على رسالتي من أساتذة الكلية، بعد وفاة مشرفي الأول الشيخ أحمد علي رحمه الله، كان المشرف الجديد هو أحد شيوخي في الكلية، الذي درّسني مقرر التفسير في أكثر من سنة، وقد تحدثت عنه من قبل، ذلكم هو فضيلة الأستاذ الشيخ محمد أمين أبي الروس، فقرأ الرسالة بعناية، وأرسل إليَّ كتابًا يتضمن بعض ملاحظاته، ومنها: ملاحظات لغوية، وبعضها ملاحظات علمية، وأخرى ملاحظات شخصية، اعتبرها الشيخ بمثابة مقترحات، إن شئت أخذتُ بها، وإن شئت لم آخذ.

ولقد سرّني من شيخنا أبي الروس اهتمامه بالرسالة وسرعة قراءته لها، وإبداء ملاحظاته عليها، وإن اختلفتُ معه في أكثرها، أو على الأقل في الكثير منها، ومما أذكره من رسالته: أني كنت كتبت تمهيدًا عن «مشكلة الفقر»، موقف الديانات والفلسفات والأنظمة منها، وموقف الإسلام منها، وكيف تصدى الإسلام لعلاجها بوسائل عملية تشريعية وأخلاقية... إلخ.

وقد اعترض الشيخ أبو الروس على اعتباري الفقر مشكلة، وقال: إن الفقر ليس مشكلة، وإنما هو ابتلاء يبتلي الله به الإنسان، كما قد يبتليه بالغنى، وكان هذا من أثر النزعة الصوفية عند الشيخ أبي الروس، فإن الصوفية لا يعتبرون الفقر مشكلة، بل يعتبرون الغنى هو المشكلة وهو الداء والمرض، وقد أُثر عنهم قولهم: إذا رأيت الفقر مقبلًا؛ فقل: مرحبًا بشعار الصالحين! وإذا رأيت الغنى مقبلًا؛ فقل: ذنبٌ عُجِّلت عقوبته! وهو عكس ما ذهبت إليه في بحثي، فقد رأيت الإسلام اعتبر الفقر بلاءً، يُستعاذ بالله من شره، وقد علَّمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ بالله من شر فتنة الفقر، ومن شر فتنة الغنى، ونعوذ به من القلة والذلة.

وقال عليّ رضي الله عنه: لو تمثّل لي الفقر رجلًا لقتلته! وقال أبو ذر رضي الله عنه: إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر: خذني معك، ولا سيما إذا كان الفقر ناشئًا من سوء توزيع الثروة، فالذين يعملون لا يملكون، والذين يملكون لا يعملون!

واقترح الشيخ عليَّ أن أحذف هذا التمهيد، وكان في اقتراحه الخير، فاستجبت له، وطورته وأضفت إليه، وأصدرته في كتاب خاص تحت عنوان «مشكلة الفقر، وكيف عالجها الإسلام؟»؛ وبحذف هذا التمهيد خففت حجم الكتاب أو البحث الذي طال كثيرًا.

كما اقترح الشيخ أبو الروس عليَّ أن أحذف معظم المقدمة التي تتضمن أشياء أكثر تعلقًا بعلم أصول الفقه، مثل: الحديث عن مقاصد الشريعة، والأخذ بالمصلحة، وغير ذلك، وقد أجبته إلى هذا الاقتراح أيضًا، ولكن شاء الله أن ينتقل الشيخ أبو الروس إلى رحمة الله تعالى، قبل أن أكمل المشوار معه، مع ما لمسته فيه من جدية وإيجابية، وهذا هو حظي، كالمرأة التي كلما تزوجتْ رجلًا وأنست به: اختطفته المنية من بين يديها.

اختيار الشيخ البحيري مشرفًا على رسالتي:

وكان على الكلية أن تختار لي مشرفًا آخر، يحل محل الشيخ أبي الروس؛ فاختارت في هذه المرة أستاذًا من أساتذة الحديث، فالقسم الذي سجّلت فيه: يشمل التفسير والحديث معًا، ذلكم هو فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الوهاب البحيري رحمه الله.

ويبدو أن أستاذنا الشيخ البحيري قرأ نسخة الرسالة الموجودة بالكلية، فأزعجته إزعاجًا شديدًا، وكتب إلى فضيلة عميد الكلية شيخنا الأستاذ الدكتور عبد الحليم محمود؛ رسالة يبلغه فيها اعتذاره عن عدم إشرافه على هذه الرسالة «لما تتضمنه من آراء دينية خطيرة لا يستطيع أن يتحمل مسئوليتها».

وأرسل إليَّ عميد الكلية - بواسطة مراقبة البحوث والثقافة بالأزهر - نص رسالة الشيخ البحيري. وحين قرأتها لم أملك إلا أن أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! لقد اعتبر شيخنا اجتهاداتي في الأموال الجديدة: مثل الأسهم والسندات والمستغلات من العمارات والمصانع، ورواتب الموظفين التي أدخلتها ضمن المال المستفاد، ونحو ذلك: «آراء دينية خطيرة» لا يحتمل تبعتها، مع أن المشرف - وفق التقاليد الجامعية - لا يتحمل مسئولية آراء الطالب في رسالته لا قانونًا ولا عرفًا، ولكن يبدو من سياق الأحداث: أن شيخنا عبد الحليم محمود كلم الشيخ البحيري أن يقبل الإشراف على الرسالة، ويتفاهم مع مقدمها على ما يقترحه من تعديلات.

وهذا ما كان، فعندما نزلت إلى القاهرة في صيف سنة 1964م أخطرتني الكلية أن ألقى الشيخ البحيري لأتفاهم معه على ما يريده من تعديل. وبالفعل سألت عن منزل الشيخ، وكان قريبًا مني في شارع شبرا الرئيسي، وزرته في بيته، فرحب بي وأحسن استقبالي، وجلسنا نتحدث بمودة ومحبة، كما يتحدث الأستاذ مع تلميذه، وقال لي الشيخ البحيري: «اسمع يا شيخ يوسف، لقد سمعت عنك من الثناء الكثير ما يشجعني أن أتعاون معك لإنجاز رسالتك، ولكن أرجوك أن تستجيب لما أطرحه عليك. قلت له: تفضل يا مولانا، فكلي سمع وإصغاء إليك. قال: أقترح عليك أمرين:

الأول: أن تحذف هذه الفصول التي تحمل آراءك واجتهاداتك الجديدة، وذلك لسببين أحدهما: أن هذه الآراء والاجتهادات جريئة أكثر من اللازم، ومخالفة للمألوف في فقهنا التقليدي، وتحتاج إلى مجامع تقرها، وثانيهما: أنها ألصق ما تكون بعلم «الفقه» وليس بالتفسير ولا الحديث، وأنت طالب في شعبة التفسير والحديث في كلية أصول الدين، ولست طالبًا في شعبة الفقه وأصوله في كلية الشريعة.

قلت له: إذا كانت هذه الفصول هي العقبة؛ فلا مانع عندي من حذفها، رغم أن ذلك شاق على نفسي، ولكن حذفها لا يعني موتها وإعدامها، فأنا أستطيع أن أنشرها بطريقة أو أخرى.

قال لي: بقي الأمر الثاني، قلت وما هو؟ قال: أن نجلس معًا لنقرأ الرسالة قراءة مشتركة، فإذا وجدنا فيها ما يستحق التعديل عدلنا. وها هو بيتي مفتوح لك لتزورني في كل أسبوع مرة نجلس فيها ساعتين أو أكثر للقراءة. قلت له: وأنا أرحب بذلك، وأعتبر هذا فائدة كبيرة لي. فمن ذا الذي يُتاح له أن يجد شيخًا يقرأ عليه ما كتب؟

قال: اتفقنا.

ونفذنا ما اتفقنا عليه بالفعل، وذهبت لزيارة الشيخ عدة مرات، نجلس فيها طويلًا للقراءة والمراجعة، وأشهد أني استفدت كثيرًا من علم الشيخ وملاحظاته وتدقيقاته في العبارات، وخصوصًا في هذه الموضوعات العلمية الدقيقة، ولم أكن أتردد في النزول على رأيه، وتغيير ما يطلب، من تقييد مطلق، أو تخصيص عام، أو ضبط مفهوم، أو شرح مصطلح، إلا فيما أعتقد أن الصواب معي فيه، فكنت أناقشه وأحاوره حتى يقتنع أو يترك لي الخيار.

وقطعنا شوطًا لا بأس به في الرسالة، وقرب أوان السفر، والعودة إلى قطر، وقال لي: تستطيع أن تراجع الرسالة بنفسك على هذه الطريقة التي تفاهمنا عليها، وأنت أمين نفسك، ولديك من الإمكانات الذهنية والعلمية ما يمكنك من إتمام الرسالة على هذا النحو وحدك. والله معك. وودعت الشيخ شاكرًا له حسن استضافته لي، وصبره عليَّ، وحرصه على معاونتي، داعيًا الله تعالى أن يجزيه عني وعن العلم خير ما يجزي العلماء الأخيار الصادقين.

وسافرت إلى قطر، ثم عرفت بعد فترة قصيرة: أن الشيخ البحيري أُعير إلى العراق؛ ليدرّس الحديث في إحدى جامعات بغداد، ومعنى هذا: أنه لم يعد قادرًا على الإشراف على رسالتي! ولا بد لإدارة الكلية أن تبحث عن مشرف جديد.

مع المُقدِّم أحمد راسخ:

جرت عادة المقدم أحمد راسخ المسئول عن إخوان القاهرة في المباحث العامة (1) - مباحث أمن الدولة الآن - أن يطلبني لزيارته مرتين: مرة بعد قدومي من قطر، ومرة قبيل سفري إلى قطر.

وهذا ما فعله معي في هذه الإجازة، فقد طلبني للقائه بعد أيام من قدومي، وحدد لي موعدًا لا أخلفه، فذهبت إليه في مكتبه بوزارة الداخلية في لاظوغلي ورحب بي على العادة، وطلب أن أعطيه فكرة عن نشاطي خلال العامين الدراسيين المنصرمين، ولم أضن عليه بهذه الفكرة، وعاتبني كالعادة بأني أهملته، ولم أجب عليه ولو برسالة تهنئة في عيد الفطر وعيد الأضحى، وأجبته معتذرًا بأننا هناك بمجرد وصولنا نغرق في أعمالنا، والقلوب متصلة! وحاول أن يسأل عن بعض الأوضاع في قطر، وقلت له: إننا لا نعرف عن هذه الأوضاع شيئًا، إلا ما يعرفه عامة الناس، ونحن ضيوف في هذه البلاد علينا أن نؤدي واجبنا بأمانة وإخلاص، وأن نكون خير رسل لبلادنا وديننا.

ولقد عرف راسخ من حديثي أني أديت الحج هذا العام، فالتقط الخيط، وقال لي: لا بد أنك لقيت عددًا من الشخصيات الإسلامية، التي يكون هذا الموسم فرصة للقائها؟

قلت له: لقد كان معي زوجتي وبناتي الأربع، وهن صغيرات، وإحداهن رضيعة، فكنت جد مشغول بالعائلة وطلباتها، ولم يتح لي كثيرًا أن التقي بمن حضر الموسم من الشخصيات الإسلامية الكبيرة، إلا ما كان من لقائي بالأستاذ مصطفى السباعي.

قال: لا بد أنكما تحدثتما حديثًا مهمًّا فيما يخص العرب والمسلمين، وما يجري في مصر وسوريا والمنطقة.

قلت: الحقيقة كان حديثنا في الواقع بعيدًا عن هذه الموضوعات، كان كل حديث الشيخ عن حبه لرسول الله، وقصائده في مدحه والشوق إليه، ولم يتطرق إلى القضايا العامة إلا قليلًا.

قال: يهمني هذا القليل. وأريد أن تكتب لي عدة صفحات عن زيارتك للبلد الحرام. قلت له: ربنا ييسر الأمر.

وسلمت عليه وخرجت، وقبيل سفري بأيام طلبني للقاء كالعادة، وقلت في نفسي: ترى هل سيسألني عن التقرير الذي طالبني بكتابته عن رحلة الحج، أو أنه نسي هذا الأمر؟

ومِن باب الاحتياط كتبت صفحة ونصفًا عن هذه الرحلة، ليس فيها شيء يذكر، كلام كله إنشاء، كما نقول. وقلت: لن أبادره بإعطاء هذه الوريقات، ما لم يطلبها مني.

وحينما ذهبت إليه، ولقيته: لم يحدثني فيما سبق الحديث فيه، ولم يطلب مني شيئًا، كل ما طلبه مني كالمعتاد: أن لا أنساه من الرسائل، ولو في المناسبات، وأن نخبره بأي شيء، غير عادي يحدث، يهم مصر أن تعرفه، وقلت له: إن شاء الله. وقد حفظت من مذهب الحنفية: أن من ذكر شيئًا ثم قال: إن شاء الله؛ لم يلزمه شيء بالحنث؛ لأن «إن شاء الله» إبطال لليمين عند محمد، وشرط لا يوقف عليه عند أبي يوسف، وهكذا نويت حينما قلت له: إن شاء الله!!

.....

(1) سألت عنه أخيرًا، فقيل لي: إنه يقضي عقوبة في السجن مدتها خمسة عشر عامًا، في قضية تتعلق باختلاس أموال بعثة الحج! نسأل الله العافية.