نعود إلى «ابن القرية والكتاب» لنكمل معه المسيرة، فبعد قضاء أكثر من شهرين في مدينة الخليل الجميلة، الحافلة بكل المعاني الخيرة، والمشاعر النبيلة، وبعد أن امتلأنا من هوائها، وشبعنا من غذائها، وارتوينا من مائها، ونعمنا بفواكهها، وصلينا في مساجدها، واستمتعنا بصداقة أهلها، وعشرتهم الطيبة؛ طفقنا نعد العدة للعودة إلى الدوحة، وهذا يستلزم أن نقوم بجولة في مدن الضفة الشرقية، ومنها: «عمّان» عاصمة المملكة الأردنية، كما تجولنا في مدن الضفة الغربية.

وفعلًا حزمنا أمتعتنا، وحملنا حقائبنا؛ لنذهب إلى عمان، ومنها ننطلق إلى مدن الضفة الشرقية، ولكن قبل أن نذهب إلى عمان: هيأ إخوتنا في القدس محاضرة عامة دعوا إليها جمعًا غفيرًا من الناس، وكان ممن حضرها العالِمان الكبيران: سماحة الشيخ عبد الحميد السايح، وسماحة الشيخ عبد الله غوشة.

وكنت تعرفت على الشيخ غوشة في زيارتي الأولى للقدس سنة 1952م، أما الشيخ السايح فهذه أول مرة ألقاه فيها، وقد تعدد لقائي بالشيخ فيما بعد في مؤتمرات المصارف الإسلامية وغيرها، كما تعدد لقائي بالشيخ غوشة في جلسات المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، حيث كنا عضوين فيه.

الحاج راضي السلايمة

وزرنا في مدينة القدس الأخ الصالح، بركة القدس، الحاج راضي السلايمة رحمه الله، وكنا عرفناه في الروضة في القاهرة، وقد عاد إلى القدس موطنه الأصلي، واستضافنا عنده، وغمرنا بكرمه وفضله، رحمة الله عليه.

والحاج راضي السلايمة تاجر صدوق، أحسبه من الذين قال الله فيهم: {رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} (النور:37).

التزم الحاج راضي في تجارته ثلاث خصال أساسية لا يحيد عنها، ولا يتساهل فيها مع نفسه:

1- أن يتجنب الحلف والأيمان، فلا يحلف على سلعة، ولا على ثمن، بائعًا كان أو مشتريًّا. وعرف الناس عنه ذلك؛ فلا يجرؤ أحد أن يطلب منه اليمين على صدقه. بل كلمته مصدّقة عند زبائنه جميعًا.

2- ألا يتعامل مع البنوك، وكانت كل البنوك في ذلك الوقت ربوية. ومعنى هذا: أنه أراد أن يقي نفسه رجس الربا، فلا يأخذه ولا يعطيه، ولا يتوسع في تجارته، فيحتاج إلى البنك. ولكن على قدر لحافه يمد رجليه.

3- ألا يستلف من أحد قليلًا ولا كثيرًا؛ لما علم من خطورة الدَّيْن في الإسلام، وأن الشهيد يُغفر له كل شيء إلا الدين، فلم يرد أن يورط نفسه في دين لعله لا يمكنه الوفاء به، والوقاية خير من العلاج.

بهذه المبادئ الثلاثة التزم الحاج راضي، وطبقها على نفسه تطبيقًا دقيقًا وكاملًا طوال حياته، فكان مثالًا للتجار الأبرار الأمناء، الذين يحشرهم الله مع النبيين والشهداء.

إلى العاصمة عمّان

بعد أن أقمنا في القدس يومين أو ثلاثة - لا أذكر - عزمنا على الرحيل إلى العاصمة عمَّان، التي زرتها منذ نحو (14) عامًا (1952م)، لننزل ضيوفًا - أنا والعائلة - على الأخ الكريم أبي زياد حجازي التميمي، الذي عرفته منذ زمن في القاهرة، حيث هو شريك الصديق الفاضل الحاج شبل سعودي في بقالة الزمالك، المجاورة لجامع الزمالك، الذي توليت الخطابة فيه فترة من الزمن.

وقد تعرفت عليه منذ كنت أخطب الجمعة في الزمالك عامي (1956م،1957م)، وإن كانت صلتي بآل سعودي أسبق من ذلك: الحاج محمد سعودي، والحاج شبل، والحاج عبد الرزاق، والأستاذ عبد الحميد، والدكتور عبد المنعم، وأولادهم من بعدهم، بارك الله فيهم.

ولإخواننا «الخلايلة» وجود قديم في مصر في عالم التجارة، وخصوصًا «البقالات»، والمصريون يسمونهم: «الشاميين» يقولون: اشتر من بقالة عمك فلان الشامي؛ ذلك لأن كلمة «الشام» في مصر تعني: فلسطين، والأردن، وسوريا، ولبنان جميعًا، بما فيها «الكيان المغتصب» الدخيل على المنطقة الذي سرق الوطن جهارًا من أهله، وشردهم في الأرض.

ولهذا كان الأخ أبو زياد التميمي - نسبة إلى تميم الداري الصحابي المعروف، لا إلى بني تميم - من التجار القدامى في مصر، وكانت صلتي به وثيقة لصلتي بآل سعودي. وقد دعاني إلى بيته أكثر من مرة، وفي إحدى المرات جمعني بصهره الداعية الثائر المجاهد الشيخ أسعد بيّوض التميمي، الذي التقيت به سنة 1952م في القدس؛ لذا أصر على أن أكون ضيفه في شقته في عمان، لا سيما أني سأترك أولادي في عمان، ثم أنطلق إلى المدن الأخرى تاركًا الأولاد غالبًا في مستقرهم.

استأجرنا سيارة صغيرة «تاكسي» لتنقلنا من القدس إلى عمان، كما فعلنا من قبل في زيارة مدن الضفة الغربية، وقد كانت أسرتي لا تزال صغيرة، فتكفينا سيارة واحدة، تحملني أنا وزوجتي وبناتي الأربع الصغيرات.

وكانت طبيعة فلسطين والأردن، مثل طبيعة لبنان، فكلها جبال، تحتاج من سائق السيارة إلى أن يكون ماهرًا في قيادتها، فأحيانًا نكون في قمة الوادي، ثم ترى قمة الجبل الشاهقة، ومطلوب منا أن نصعد إليها، فنحن بين صعود ونزول ومنعطفات خطرة، كأنها دائرة حلزونية، ولسنا نسير في أرض سهلة مستوية منبسطة كأرض مصر التي عهدناها من قبل، وأرض قطر التي عرفناها من بعد. وهذه معارف نكسبها بالممارسة لا بالقراءة، ويكسبها أولادي معي، فتتسع مداركهم، وتثري أفكارُهم.

وصلنا إلى عمّان، وبقيت بها أيامًا، ألقيت فيها محاضرة في «دار الإخوان»، ومحاضرة في أحد المساجد لا أذكره، ثم دعيت إلى محاضرة في مدينة «الصلت». ثم دعيت للسفر إلى مدينة «إربد»، وقد كنت زرتها سنة 1952م، وألقيت محاضرة مهمة فيها في دار «السينما» بها. ولا مانع أن يلقي الداعية محاضرة في دار سينما، فإن الحرام لا يُحرِّم الحلال، والخبيث لا يطرد الطيب، بل ينبغي أن يطرد الطيب الخبيث.

ألقيت محاضرة عامة في «إربد» ثم دعاني الإخوة إلى حضور معسكر لمدة ثلاثة أيام في المدرسة الإسلامية هناك. وأذكر أني ألقيت فيهم محاضرة عن «مشكلة الفقر وحلّها في الإسلام»، وذلك قبل أن أنشر كتابي حول هذا الموضوع.

كما أذكر أني شرحت للإخوة: «الأصول العشرين» للإمام الشهيد حسن البنا، في عدة جلسات، شرحًا مركزًا، موصولًا بالأدلة المعتبرة، ومستندًا إلى أصول الفقه، وأصول الدين، وقد ظل الإخوة يذكرونني بها كلما لقوني.

صيفية مثمرة وممتعة

والحق أن هذه الإجازة الصيفية، كانت - بكل المقاييس - إجازة مثمرة وممتعة في الوقت نفسه. استمتعنا فيها أنا والأسرة بدنيًّا ونفسيًّا وروحيًّا، ولم نحس فيها بالغربة؛ فقد كانت نفحات «الجو الإسلامي» تهب علينا من يمين وشمال، فتبعث فينا الحيوية، وتوقظ فينا روح الحياة، وحياة الروح، وتدفعنا إلى النشاط بهمة لا تعرف الكلل، وعزيمة لا تركن إلى الكسل.

لم يعكر صفونا في هذه الإجازة إلا محنة إخواننا في مصر، وما يتعرضون له من أذى جربنا مثله في محنة 1954م، وما أحزننا وأحزن المسلمين في العالَم من إعدام سيد قطب رحمه الله. وكان الذي يعزينا عن ذلك: أن الله لن يتخلى عن عباده المؤمنين، وهو وليهم والمدافع عنهم، وهو الذي ينزل عليهم سكينته، وينشر عليهم رحمته، كما أن الشهداء أحياء عند ربهم يُرزقون.

كما كانت هذه الصيفية مثمرة بالنسبة لي؛ فقد ألقيت فيها عددًا من الخطب والدروس والمحاضرات في مدن شتى، ولا سيما في «الخليل». كما التقيت في جلسات خاصة عددًا من الإخوة، تربطني بهم رابطة الدعوة والعمل المشترك لنصرة الإسلام.

ولذا اتفقت مع الإخوة في الخليل: أن يكون مصيفنا القادم عندهم، إن شاء الله، بل الإجازات القادمة ستكون عندهم، إلا أن يأذن ربي، بأن تفتح لنا أبواب مصر من جديد، ويقال لنا ما قيل ليعقوب وإخوة يوسف: {ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ} (يوسف:99)، وإن كان قدر الله لم يحقق لنا هذا الأمل، فقد حدثت نكبة حزيران «يونيو» 1967م، واحتلت القدس والضفة الغربية، وأمست كلها في قبضة إسرائيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وسنعرض لذلك في حينه إن شاء الله.

العودة من عمّان إلى قطر:

وكان لا بد أن تنقضي الإجازة الصيفية، كما تنقضي كل الأيام، حلوة كانت أم مُرّة، وإن كان مما جربه الناس من قديم: أن الأيام الحلوة تنقضي بسرعة كأنها سحابة صيف، أو زيارة طيف! والأيام المرة والشديدة تسير في بطء السلحفاة، لا تكاد تتحرك، وقد عبر عن ذلك أحد الشعراء قديمًا، فقال: وأيام الهموم مقصّصات  **  وأيام السرور تطير طيرا!

يريد: أن أيام الهموم والأحزان كأنها مقصوصة الجناح غير قادرة على النهوض والطيران، أما أيام السرور فهي تطير طيرًا بكامل أجنحتها وقدرتها. وقال شاعر آخر:

مرت سنينٌ بالوصال وبالهنا  **  فكأنها من قُصْرها أيام

ثم انثنت أيام هجرٍ بعدها  **  فكأنها من طولها أعوام

ثم انقضت تلك السنون  **  وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام!

ركبنا من مطار القدس على ما أذكر، فقد كانت الطائرات تأتي من الدوحة إلى القدس. ثم من القدس إلى الدوحة. وقد كنا - من اللهفة والسرعة - نسينا حقيبة يد «هاند باج» في مطار القدس، فيها بعض المشتريات والهدايا، فأرسلوها إلينا بعد ذلك مشكورين.

وعاد معنا إخواننا الذين جاءوا معنا من قطر: الشيخ علي جماز، والشيخ العوضي وأسرتاهما. أما الأخ سعد مرزوق، فقد عاد قبلنا؛ لأن إجازة الإداريين أقل من إجازة المدرسين.