عدت إلى الدوحة قبل أن تنتهي الإجازة الصيفية تمامًا، إذ هي تنتهي في منتصف سبتمبر، فالظاهر أني تركت الأولاد في القاهرة ورجعت قبل أن تنتهي الإجازة الصيفية، وفي الشهر الثامن «أغسطس» سنة 1974م قمت بأول زيارة لبلاد الشرق الأقصى: ماليزيا، وإندونيسيا، وسنغافورة، وهونج كونج، والفلبين، وكوريا الجنوبية، واليابان.

وقد استغرقت هذه الرحلة حوالي ثلاثة أسابيع من (23/8) إلى (12/9) من هذه السنة. كما هو مسجل في جواز سفري القطري الذي سافرت به. وهذه بلاد سأزورها لأول مرة، فما أشوقني إلى رؤيتها، ومعرفة أحوالها. وقديمًا قالوا: السفر نصف العلم!

كانت الزيارة بتكليف من الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، أمير البلاد حفظه الله، وكان ذلك بطلب من المسلمين في جنوبي الفلبين أن نزورهم، ونزور معاهدهم ومدارسهم ومؤسساتهم، فقام وفد من قطر مكون من فضيلة الشيخ عبد الله الأنصاري، ويوسف القرضاوي، والأستاذ سيد أبو يوسف موجه اللغة الإنجليزية مترجمًا لنا، أمر الشيخ خليفة لكل منا بخمسة آلاف ريال للإنفاق منها على الإقامة والمعيشة.

والحق أنها كانت رحلة نافعة وممتعة من وجوه عدة؛ فهذه أول مرة يتاح لي أن أزور تلك الديار، وفيها بلاد إسلامية مثل: ماليزيا، وإندونيسيا، وبلاد فيها أقلية إسلامية كبيرة وأصيلة مثل: الفلبين، وبلاد فيها أقليات إسلامية حديثة، مثل: كوريا الجنوبية واليابان. وقد قال الأقدمون: الرفيق قبل الطريق، وكان رفيقاي في هذه الرحلة الطويلة: الشيخ عبد الله الأنصاري، والأستاذ سيد أبو يوسف، وهما نعم الرفيقان.

فلقد عرفت الشيخ الأنصاري من قبل، وازددت معرفة به في هذه الرحلة الطويلة، فقد قيل: إنما سمي السفر سفرًا؛ لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، ومن لم تستطع أن تعرفه وتسبر أغواره في الحضر، أمكنك أن تعرفه في السفر، والشيخ الأنصاري رحمه الله كان رجلًا سمحًا سهلًا كريمًا رقيقًا رفيقًا، ييسر ولا يعسر، ويبشر ولا ينفر، ويجود ولا يبخل، ولا تصدر منه كلمة تجرح شعور صاحبه ولا تصرف يؤذيه.

كذلك كان رفيقنا الأستاذ سيد أبو يوسف، فهو رجل حيي كريم مستقيم في قوله وفعله، نقي في ظاهره وباطنه، ليس مهذارًا ولا ثرثارًا، ولكن يتكلم بحساب، ويتصرف بحكمة، {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة: 269)، ومن نعمة الله على المرء في سفر كهذا: أن يرزق بمثل هذه الرفقة الطيبة.


فضيلة الشيخ عبد الله الأنصاري

المبيت في كراتشي:

كانت أول محطة نزلنا بها هي كراتشي، فقد بتنا بها، واستقبلنا هناك سفير قطر في باكستان: الأستاذ مبارك الكواري، وقد صحبنا إلى بعض المحلات لنشتري منها بعض التحف والهدايا، وفعلًا اشترينا بعض الأشياء، ورآها معنا بعض الإخوة الباكستانيين، فقالوا: إنكم اشتريتموها بضعف ثمنها أو أكثر، ولو نزلتم «السوق» لوجدتموها رخيصة جدًّا، فتعلمنا ألّا نمشي مع «السفراء» في قضية الشراء؛ لأنهم يشترون من المحلات «الفاخرة» والأولى أن نذهب مع أهل البلد، فأهل مكة أدرى بشعابها وأسواقها، وتكفلت السفارة: أن تبعث الأشياء التي اشتريناها إلى الدوحة، فليس معقولًا أن نحملها معنا طوال هذه الرحلة، وجلها أشياء خشبية ثقيلة.

ساعات في مطار بانكوك:

ومن كراتشي امتطينا طائرة أوصلتنا إلى مطار «بانكوك» عاصمة «تايلاند»، وهو بعيد عن المدينة؛ ولذا لم نفكر في النزول إلى المدينة، برغم أننا ظللنا أكثر من أربع ساعات، وظللنا نتجول في المطار، وكان مطارًا متواضعًا -ولم يكن بفخامة مطار بانكوك الحالي- ورأينا فيه بعض الهدايا التي يمكن أن تُشترى، وقد اشتريت منها فصًّا من الأحجار الكريمة يسمى: «عين القط» أهديته بعد العودة لزوجتي، وصلينا الظهر والعصر في المطار قصرًا وجمعًا، ثم ركبنا الطائرة الماليزية، لتوصلنا إلى «كوالا لامبور» عاصمة ماليزيا.

في ماليزيا:

وجدنا «كوالا لامبور» مدينة فخمة، فيها بنايات شاهقة، وشوارع نظيفة وواسعة، وأسواق على الطراز الأوروبي، وبنوك وفنادق وغيرها من مظاهر الحضارة والمدنية، ولكن فهمنا من مرافقنا من الماليزيين: أن هذه العمارات والمتاجر الكبرى والمصارف والفنادق والمطاعم والأماكن السياحية وغيرها، أكثر من ثمانين في المائة منها يملكها الصينيون والهندوس. والعنصر الملاوي «المسلم» الذي هو أصل هذه البلاد وصاحبها لا يملك إلا أقل من عشرين في المائة.

كانت هذه البلاد تُعرف قديمًا باسم بلاد: «الملايو»، والأصل في أهلها: أنهم مسلمون سنيون، على مذهب الإمام الشافعي، وكان لنا زملاء في الأزهر الشريف من الملايو، وهذه البلاد لم يدخلها جيش مسلم، ولا وصلتها الفتوحات الإسلامية المعروفة تاريخيًّا، وإنما دخلها الإسلام عن طريق التجار الذين جاءوا من اليمن، وخصوصًا من حضرموت والجنوب، يبيعون ما لديهم من بضائع، ويشترون ما عند القوم من سلع تتميز بها بلادهم..

وكان هؤلاء التجار أمثلة حسنة لأخلاق الإسلام، وأدب المسلم، في تعامله مع الله، وتعامله مع الناس، فرأى الناس فيهم الطهارة والنظافة والخشوع لله، والمسارعة إلى الصلوات في أوقاتها، مع الالتزام بالصدق في القول، والإحسان في العمل، وحب الخير للناس، والرحمة بالضعفاء، وبذل المعروف، وإغاثة الملهوف، والعدل مع من تحب ومن تكره، وتقديم العون لمن يحتاج إليه من خلق الله، مسلمًا أو غير مسلم، لا يريد مكافأة ولا محمدة من أحد، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا} (الإنسان:9).

رآهم الناس كذلك، فأحبوهم، وسألوهم: من أنتم؟ ومن علمكم هذه الفضائل؟ فقالوا: نحن مسلمون، علمنا الإسلام، قالوا: وكيف نصير مسلمين؟ قالوا: تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وبذلك تدخلون في الإسلام، ثم تؤدون أركان الإسلام الأربعة من الصلاة والزكاة والصيام كل سنة في شهر رمضان، والحج مرة في العمر، وبعد ذلك تحبون للناس ما تحبون لأنفسكم، وتفعلون الخير ما استطعتم، وتتجنبون الشر ما استطعتم، وبذلك تصبحون مسلمين، لكم ما لنا وعليكم ما علينا..

وبهذه السهولة دخل الناس في دين الله أفواجًا، في بلاد الملايو، كما دخلوا فيه في جاوه وسومطرة وغيرها من الجزر التي توحدت وسُميت بعد باسم: «إندونيسيا»، فهكذا دخلت «الملايو» في دين الإسلام، وأصبحت عضوًا في الأمة الإسلامية، وفي الجسم المسلم.

ولكن الإنجليز حينما احتلوها -في عصر الاستعمار- جلبوا عناصر للعمل من خارج الملايو، معظمهم من الصينيين، وبعضهم من الهندوس، فزاحموا أهل البلاد الأصليين، وظلوا يكثرون ويكثرون حتى قاربت نسبتهم نسبة أهل البلاد الأصليين في العدد، وأخطر من ذلك: أنهم بمهارتهم وتضامنهم، وتسهيل الاستعمار لهم: أضحوا يملكون معظم ثروة البلاد بأيديهم، فهم يملكون التجارة والصناعة، وأهل البلاد يشتغلون بزرع المحصولات التي يشتريها منهم الصينيون.

وقد ظلوا مدة من الزمن على جنسيتهم الأصلية من صينية وهندية، ولكن الإنجليز ضغطوا على «تِنكو عبد الرحمن» رئيس وزراء «الملايو» التي غُيّر اسمها، لتصبح «ماليزيا» فصدر في عهده قراران خطيران:

أولهما: فصل جزيرة سنغافورة عن ماليزيا، لتمسي دولة مستقلة، لتكاثر العنصر الصيني بها.

ثانيهما: منح الجنسية للصينيين والهنود المقيمين في البلاد بعد عشرين سنة، على أن يبقى الجيش والقوات المسلحة في أيدي الماليزيين، وما أسرع ما مرت العشرون سنة، وحصل الوافدون على الجنسية الماليزية، فاكتسبوا قوة جديدة، بالإضافة إلى قوتهم الاقتصادية والعلمية.

بقينا يومين وبعض يوم في ماليزيا، تعرفنا فيها على أهم معالمها، ولقينا بعض الوزراء، وأحدهم دعانا إلى بيته على غداء، ولا أذكر اسمه، كما لقينا بعض العلماء، وبعض الشخصيات الإسلامية، وممن زرناهم في ذلك الوقت: الشاب الذكي المتحمس الطموح «أنور إبراهيم» مؤسس جماعة «الشبيبة المسلمة» في ماليزيا، ويطلق عليها اسم «أبيم»، وكان خارجًا من قريب من السجن، وكان لقاؤنا به طيبًا ومثمرًا، وكان أساسًا لأخوة وصداقة لا تزال ممتدة إلى اليوم، فك الله أسره، ورد كيد خصومه في نحورهم، وأعاذه من شرورهم، «حكمت المحكمة أخيرًا ببراءته، وخرج من سجنه»، كما زرنا الجامعة الوطنية، وغيرها. ثم ودعنا ماليزيا إلى إندونيسيا.


أحد مساجد ماليزيا

إلى إندونيسيا:

وبعد ماليزيا استقللنا الطائرة الإندونيسية إلى جاكرتا عاصمة إندونيسيا، أكبر دولة إسلامية في العالم، والمسافة قريبة، بين جاكرتا وكوالا لامبور.

غارة تنصيرية على إندونيسيا:

ومما أذكره: أننا سألنا المضيّفة التي تخدمنا في الطائرة وهي إندونيسية: هل أنت مسلمة؟ قالت: لا، ولكن عائلتي مسلمة! فقلنا في أنفسنا: لا حول ولا قوة إلا بالله، معنى ما تقوله هذه الفتاة: أن التنصير أخرجها من دينها، وسلخها من أسرتها، وكان معنا مضيّف رجل، فسألناه نفس السؤال: أأنت مسلم؟ فقال: لا، ولكني متزوج مسلمة! وهذا زواج باطل في نظر الإسلام، فإن المسلمة لا يجوز ابتداءً: أن تتزوج غير مسلم، ولو كان كتابيًّا {لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (الممتحنة:10).

وكان قد زارنا في قطر: الأخ عز الدين بليق، صاحب «دار الفتح» للنشر في لبنان، وحدثنا عن الأخطار التي تواجهها إندونيسيا -التي زارها من قريب- من قِبل التنصير الأوروبي والأمريكي، الذي أجلب بخيله ورجله، على إندونيسيا، أكبر بلد إسلامي الآن في العالم، بعد انفصال باكستان الشرقية عن باكستان الغربية، وهم يضعون الخطط لتنصير إندونيسيا وتغيير هويتها، وتغليب المسيحيين فيها على المسلمين في «خمسين سنة» ووفروا لذلك ميزانيات هائلة، وقرروا قرارات بعضها معلن، وبعضها مكتوم، والمسلمون عن ذلك غافلون؛ لذا ألَّف أخونا عز الدين كتابًا بعنوان: «أنقذوا إندونيسيا يا مسلمون»!

وكان للإرساليات التبشيرية -أو التنصيرية- الغربية أكثر من خمسين مطارًا في إندونيسيا، فالمسلمون من أهل البلاد يتنقلون بين الجزر بالقوارب، والمنصرون ينتقلون بالطائرات، فمن المعلوم أن إندونيسيا تتكون من ألوف الجزر، بعضها كبير، وبعضها صغير، ولاحظنا أنهم نجحوا في تحويل بعض المسلمين والمسلمات إلى دينهم بالفعل، في حين لا يطمعون في ذلك في البلاد العربية، التي قنعوا فيها بزعزعة إيمان المسلم بدينه، وتشكيكه في مسلماته العقدية، وإن لم يدخل في النصرانية.

كان الذي اسقبلنا في المطار، ورحّب بنا هو: المسلم الكبير الدكتور محمد ناصر، رحمه الله، رئيس وزراء إندونيسيا الأسبق، ورئيس حزب «ماشومي» السابق، وأحد رجال الجهاد والدعوة الكبار، والذي تفرغ هو وعدد من إخوانه ومحبيه وتلاميذه، للعمل الدعوي، والوقوق في وجه تيار التبشير أو التنصير، ومقابلة تخطيطه الماكر الهدام بتخطيط مثله وعلى مستواه في الفكر والوعي، وإن لم يمكن أن يكون مثله في الإمكانات المادية الهائلة.

أنشأ د. ناصر «المجلس الأعلى للدعوة الإسلامية» لإحياء الإيمان في أنفس الشعب الإندونيسي في جاوه وسومطرة وغيرهما من الجزر، والقيام بتوعية إسلامية شاملة، وتثقيف إسلامي مركّز، حتى يملك المسلم «مناعة» ذاتية تقيه من التأثر بأي دعوة هدامة، تريد أن تنزعه من ذاته، وتخلعه من هُويّته.

وبالإمكانات القليلة المحدودة التي لا تساوي شيئًا، بالنسبة لما تملكه قوى التنصير؛ استطاع الدكتور ناصر، ومن معه: أن يقفوا في وجه العاصفة، وأن يشعروا المهاجمين أن حصون المسلمين منيعة، وأنها لا يمكن أن تسقط بسهولة. وشرع الإخوة ينشئون بقدر استطاعتهم المؤسسات الدعوية والتعليمية والتقنية، وهي تتنامى بفضل الله، وقد اجتمعنا مع المجلس الأعلى، وشددنا على أيديهم، ووعدناهم بمد يد المساعدة الممكنة ماديًّا وأدبيًّا.

وقلنا: يا سبحان الله! كانت إندونيسيا مستعمرة من هولندا، وكانت إندونيسيا أكثر من خمسين مليونًا، وهولندا نحو خمسة ملايين.

ولكن جرى على المسلمين ما جرى، حتى باتت بلادهم في وقت من الأوقات، ترزح تحت نير الاستعمار الغربي أو الشرقي، ولم ينج من الاستعمار إلا السعودية واليمن.

وقد كان الإسلام -كالعادة- هو المحرك الأول للبلاد الإسلامية كلها لمقاومة الاستعمار. وكما هو معلوم لكل مسلم من أمة الإسلام: يفرض هذا الدين على أبنائه فرضًا عينيًّا: أن يجاهد مع المجاهدين، لقتال الاستعمار المحتل، حتى يطردوه من دار الإسلام، ومن قُتل في هذه المعركة فهو شهيد حي عند الله.

وكما هي العادة التي أصبحت وكأنها قانون: نجد أن الإسلاميين يزرعون، والعلمانيين يحصدون، فهم دائمًا يسرقون الثورات من أهلها، ويرثون وحدهم غنائمها، ويمسي الإسلام غريبًا، وهو صاحب الدار! هذا ما حدث في تركيا، وما حدث في إندونيسيا، وما حدث بعد ذلك في الجزائر، وما حدث في بلاد شتى.

المهم أنّا وجدنا النصارى متمكنين في هذا العهد «عهد سوهارتو» بعد أن كان الشيوعيون هم الممكَّنين في عهد «سوكارنو»، فقد طردوا الشيوعيين ليحل محلهم المنصرون. وقد لقينا بعض الوزراء المسلمين المسئولين، فكان يحدثنا همسًا في مكتبه، مخافة أن تكون هناك أجهزة تسجيل وتنصت، ترصد ما يقوله، وتنقله إلى السادة المتحكمين، وهكذا أصبح المسلمون في ديارهم لا يملكون حرية التعبير ولا حق الكلام، وبعضهم يعد من المسئولين والمشاركين في السلطة، فما بالك بغيرهم؟!

غيبة العلماء عن الوعي بالعصر:

ولم يكن كثير من علماء الدين على المستوى المأمول الذين يواجهون به هذه الحملة الصليبية الغازية إلا قليلًا منهم، ممن تفتح أفقه على الدعوات التجديدية والإصلاحية المعاصرة، ومن هؤلاء: الجمعية المحمدية، التي لها مدارس ومنشآت كثيرة زرنا بعضها، ومنهم قليل ممن تعرفوا على دعوة الشيخ حسن البنا ممن درسوا في مصر، أو في غيرها من العالم العربي. ومن الإندونيسيين -كالماليزيين- كثيرون ممن درسوا في الأزهر، ومنهم من اتصلوا بدعوة الإخوان، واستفادوا منها.

ومَن عدا هؤلاء كانوا يعيشون في الماضي السحيق، ويقرأون في الكتب الصفراء، ولا يعرفون عن حاضرهم، ولا عن حاضر الأمة شيئًا، ولعله لا يحس بما يبيته له دعاة التنصير من مكايد ودواهٍ لاقتلاع جذور دينه، وهو لا يدري.

غياب فقه الأولويات:

وأذكر ما قاله لنا وزير الشئون الدينية حين قابلته مع الشيخ الأنصاري رحمه الله: أن إحدى القبائل الوثنية الكبرى أرادت الدخول في الإسلام، فاتصل زعماؤها ببعض كبار مشايخ الدين في منطقتهم، وعرضوا عليهم رغبتهم في الدخول في دين المسلمين، فماذا يُطلب منهم في ذلك؟ فقالوا لهم: مطلوب منكم شيء واحد حتى يكون إسلامكم مقبولًا!

قالوا: وما هو؟

قال المشايخ: أن تختتنوا!!

قال ممثلوا القبيلة: وهل هذا أمر لازم؟

قالوا: هو من شعائر الإسلام، والفارق بين المسلم وغير المسلم!

وهنا قال القوم: نشاور أهلينا في ذلك، وذهبوا ولم يعودوا، خشية من هذه المذبحة الجماعية!

فتصور هذا الفقه الأعوج، الذي يضع العقبات في طريق من يرغب في الإسلام، ولقد دخل الألوف وعشرات الألوف أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، فما رأيناهم اشترطوا على الناس أن يختتنوا، أو يكشفون على الناس، ليروا من اختتن ومن لم يختتن!

وقد قال الرسول الكريم: «بني الإسلام على خمس»، وعدّها، فلم يكن منها الاختتان!

فانظر يا أخي إلى المنصّرين الذين جاءوا من أمريكا وأوروبا وأستراليا: كيف يقدمون المغريات للناس ليدخلوهم إلى النصرانية؟ وكيف يضع مشايخنا المعوقات أمام الناس ليصدوهم عن الإسلام؟!

وشيء آخر عرفته من الإخوة هناك، وهو: أني وجدت الكتاب المقدس عند النصارى «العهد القديم، والعهد الجديد» في كل حجرة في الفندق الذي ننزل فيه، وقلت لهم: ألم يكن الأولى أن نضع لهم مصحفًا معه ترجمة، قيامًا بواجبنا نحو الدعوة إلى الإسلام؟

فقال لي الإخوة: إن المشايخ لم يجيزوا ذلك؛ لأن المصحف لا يمسه إلا المطهرون، وهؤلاء نجس، فلا يجوز لهم مس القرآن!! وكأن المشايخ بهذه الفتاوى المتشددة يصدون عن سبيل الله، ويحولون بين الناس ومعرفة الإسلام!

زيارة المدرسة الشافعية والطاهرية:

ومن مزايا إندونيسيا: أن فيها مدارس دينية كبيرة تعلِّم طلابها وطالباتها اللغة العربية، كما تعلمهم القرآن والتفسير، والحديث وعلومه، والعقيدة، والفقه، وغيرها.

منها: المدرسة الطاهرية، والمدرسة الشافعية، وكل من المدرستين تكاد تكون جامعة، ففيها: دراسات من الحضانة إلى المرحلة العالية، وكثير من خريجيها يذهب إلى الأزهر في القاهرة، ليستكمل دراسته.

وقد حضرنا حفلًا في إحدى المدرستين، ألقت فيه التلميذات الصغيرات بصوت مؤثر: النشيد الديني المعروف:
طلع البدر علينا  **  من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا  ** ما دعا لله داع

وقد تأثر الشيخ الأنصاري، وتأثرت معه بهذا النشيد، حتى ذرفت أعيننا الدموع.

ومما أذكره: أن أحد العلماء وقف يقدمني، وكان أكثر ما أدهشني: أنه قال: أقدم لكم العالِم الجليل، والداعية الكبير.. صاحب كتاب: «درس النكبة الثانية: لماذا انهزمنا وكيف ننتصر؟» وقد تُرجم إلى الإندونيسية، كما تُرجم «الحلال والحرام»، و«الإيمان والحياة»، وغيرها، وعجبت أن الذي أهمه هو هذا الكتاب الصغير، ولم يقدمني بأني مؤلف: «فقه الزكاة» أو غيره من الكتب، وعرفت من ذلك: أن الكتاب الصغير قد يؤثر أحيانًا في نفس القارئ ما لا يؤثر فيه الكتاب الكبير.

ومن الطريف: أن جاكرتا فيها منطقة يسكنها يمنيون من قديم، ما زالوا يحتفظون بلغتهم العربية، ويتزاوجون فيما بينهم، وقد ذهبنا إليهم وتناولنا طعام الفطور عندهم، وكنا كأنما نعيش في قرية بالقرب من تعز أو صنعاء!