السؤال: سمعت أحد الخطباء المعروفين يحمل على السيدة رابعة العدوية، الزاهدة الصالحة المشهورة، ويقول:إنها أسطورة اخترعها الصوفية، لينسبوا إليها ما لا يقبل ولا يعقل من الأقوال والأشعار، مثل قولها في مناجاة الله تعالى:

فليتك تحلو والحياة مريرة

وليتك ترضى والأنام غضاب!

وليت الذي بيني وبينك عامر

وبيني وبين العالمين خراب!

وقولها:

كلهم يعبدوك من خوف نار

ويرون النجاة حظًا جزيلا

أو لأن يدخلوا الجنان فيحظوا

بنعيم ويشربوا سلسبيلا

ليس لي في الجنان والنار حظ

أنا لا أبتغي بحبي بديلا

وقولها:

أحبك حبين حب الهـــــوى

وحبًا لأنك أهل لذاك

فأما الذي هو حب الهــــوى

فشغلي بذكرك عما سواك

وأما الذي أنت أهل لـــــه

فكشفك لي الحجب حتى أراك

وما الحمد في ذا ولا ذاك لــي

ولكن لك الحمد في ذا وذاك

وأطال الخطيب في إنكار هذه الأشعار وما تضمنته من كفر وضلال، حسب قوله، فهل ما ذكر هذا الخطيب صحيح ومسلم، ولا وجود لهذه المرأة الصالحة؟ وهل هذه الأشعار تتضمن ضلالاً وكفرًا حقا؟!

نرجو بيان رأيكم الذي عرفنا فيه الاعتدال، مبينا بالأدلة من القرآن والسنة.

جواب العلامة الشيخ يوسف القرضاوي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.. وبعد:

فإنني آسف أشد الأسف لهذا الاتجاه لدى بعض المسلمين، الذين يتلذذون بهدم كل القمم، وتشويه كل البطولات الفكرية والسلوكية في تاريخنا القريب والبعيد، بدل إبراز محاسنها وتجسيم فضائلها، مع الاحتراز من عيوبها، إن كانت لها عيوب، يمكن أن تغمر وتنسى في جنب محاسنها.

خطآن كبيران:

ورأيي أن الخطيب المذكور - إن صح ما ذكره السائل عنه - أخطأ خطأين كبيرين:

مجرد الإنكار لا يقبل:

الأول: أنه اتخذ مجرد الجحود والإنكار سلاحًا في نفي الوقائع التاريخية. وهذا أمر مرفوض في منطق العلم، وإلا لقال من شاء ما شاء.

ولكن الذي يقبل منه ومن مثله في هذا المقام أن يقول: إنه رجع إلى كتب التاريخ وكتب التراجم والطبقات التي عنيت بالأعلام عامة وبالزهاد والعباد خاصة، فلم يجد ذكرًا لهذه العابدة الصالحة التي اخترعوها وسموها (رابعة العدوية)، بل وجد من ثقات المؤرخين من أنكر وجودها، وعاب على الصوفية ذكر أخبارها في كتبهم.

مثل هذا لو قاله الخطيب لكان مقبولاً، وكان كلامًا علميًا صحيحًا. ولكن الخطيب لم يقل هذا، ولا يستطيع أن يقوله؛ لأن الحقائق العلمية تكذبه، والوقائع التاريخية تصدمه.

فكتب التاريخ والتراجم تثبت وجود رابعة العدوية، وتترجم لها وتذكر بعض أقوالها وأعمالها وأشعارها، فضلاً عن كتب الصوفية أنفسهم.

ترجم لها أبو نعيم في: حلية الأولياء.

وابن الجوزي في: صفة الصفوة (4/17).

وابن خلكان في: وفيات الأعيان (1/182).

والذهبي في سير أعلام النبلاء (8/215).

وابن كثير في: البداية والنهاية (10/186).

وابن العماد في: شذرات الذهب (1/193).

وصاحبة (الدر المنثور في طبقات ربات الخدور) (202).

والزركلي في: الأعلام (3/31).

= وقد ذكرها القشيري في: الرسالة.

= وأبو طالب المكي في: قوت القلوب.

= والغزالي في: الإحياء.

= والسهروردي في: عوارف المعارف.

= والشعراني في: طبقاته... وغيرهم.

وذكر ابن الجوزي في صفة الصفوة (4/19) أنه أفرد لها كتابًا جمع فيه كلامهما وأخبارها.

أسلوب الإثارة والتهييج:

الخطأ الثاني: أن الخطيب عالج الموضوع الذي يريده معالجة تعتمد على الإثارة والتهييج لا على التنوير والتحقيق، والإثارة قد تعجب بعض سامعيه المعجبين به، والذين تستهويهم الجرأة في النقد أو النقض والهجوم، والخروج على المسلّمات عند الناس، لكنها لا تعجب خاصة المثقفين والمستنيرين، ممن يزنون الأمور بعقولهم، ولا يأخذون كل ما يقال قضية مسلمة.

وقد كان حسب الخطيب هنا طريقين لا يملك ذو علم أو فكر أن ينكرهما، أو أحدهما عليه:

الطريق الأول:

التحقيق فيما ينسب إلى رابعة العدوية أو غيرها من أقوال ومواقف، فليس كل ما نسب إليها صحيحًا موثقًا، بل قد يكون مشكوكًا في نسبته إليها، أو مقطوعًا بنفيه عنها.

من ذلك: أنهم نسبوا إليها هذه الأبيات المشهورة تناجي بها ربها سبحانه:

فليتك تحلو والحياة مريرة       وليتك ترضى والأنام غضاب!

وليت الذي بيني وبينك عامر      وبيني وبين العالمين خراب!

إذا صح منك الود فالكل هين       وكل الذي فوق التراب تراب!

والأبيات ليست لرابعة، بل البيتان: الأول والثاني من شعر أبي فراس الحمداني في خطاب ابن عمه الأمير المشهور سيف الدولة، وهما مذكوران في ديوانه من قصيدة مطلعها:

أما لجميل عندكن ثواب     ولا لمسيء عندكن متابُ؟

لقد ضل من تحوي هواهُ خريدة     وقد ذل من تقضي عليه كعابُ

ومن أبياتها الشهيرة:

بمن يثقُ الإنسان فيما ينوبهُ     ومن أين للحر الكريم صحابه؟

وقد صار هذا الناس إلا أقلهم     ذئابًا على أجسادهن ثياب!

وأبو فراس، كان في القرن الرابع الهجري، ورابعة في القرن الثاني فقد اختلفوا في سنة وفاتها، فمنهم من قال: سنة 135هـ، ومن قال سنة 185هـ، والراجح عندي هو الثاني.. أما البيت الأخير فهو من قصيدة للمتنبي في مدح كافور (وفيه المال مكان الكل).

وكل ما في الأمر أن الصالحين وجدوا أن هذا الشعر لا يجوز أن يخاطب به إلا الله جل جلاله، فنسبوا الخطاب فيه إلى من هو أهله، ولا أدري من نسب هذا الشعر إلى "رابعة" خاصة، ولم أقرأ ذلك في كتاب معتبر، وإن كان مشهورًا على الألسنة، وليس كل مشهور على الألسنة حجة.

وكذلك ما ينسب إليها من الشعر الذي تقول في آخره:

ليس لي في الجنان والنار حظ      أنا لا أبتغي بحبي بديلا

لا أدري مدى صحة نسبته إليها، وقد روى عنها أقوال تدل على أنها تخاف النار، وتخاف القيامة والموت وما بعده، فقد ذكروا أنها كانت تقول في مناجاتها:

إلهي، تحرق بالنار قلبًا يحبك!

وذكر ابن الجوزي في ترجمتها (45/17) عن عبد الله بن عيسى قال: دخلت على رابعة العدوية بيتها، فرأيت على وجهها النور، وكانت كثيرة البكاء، فقرأ عندها رجل آية من القرآن فيها ذكر النار فصاحت ثم سقطت!

قال: وكانت إذا ذكرت الموت انتفضت وأصابتها رعدة.

ونقل عن عبدة بنت أبي شوال - وكانت من خيار إماء الله وكانت تخدم رابعة - أنها قالت: كانت رابعة تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة، حتى يسفر الفجر، فكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك وهي فزعة: يا نفس كم تنامين؟ وإلى كم تقومين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرفة يوم النشور!

قالت: فكان هذا دأبها حتى ماتت.

ومما نقلوا عنها قولها: أستغفر الله من قلة صدقي في قولي: أستغفر الله!

وهذا كله يدل على أنها من أهل الخشية والمحبة معًا، فهي تخاف الله وتحبه، ولا تنافي بينهما على التحقيق.

وما نسب إليها من أنها قالت مرة: إلهي ما عبدتك خوفًا من نارك، ولا طمعًا في جنتك، بل حبًا لك، وقصد لقاء وجهك، فلعلها قصدت أن الله عز وجل أهل لأن يعبد ويتقى، قيامًا بحقه وشكرًا لنعمته، كما قال الإمام ابن القيم:

هب البعث لم تأتنا رسله وجاحمة النار لم تضرم

أليس من الواجب المستحق ثناء العباد على المنعم؟

أو لعلها قالت ذلك في حال من أحوال غلبة الحب على الخوف والرجاء، والاستغراق في الأنس بالله تعالى، إلى حد الذهول عن النعيم والعذاب، ولكن مثل هذا لا يدوم، كما تدل عليه مواقفها وأقوالها.

فإن لم يكن هذا موقفها، فكل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه، وقد رددنا على المتصوفة الذين ينكرون العبادة طلبًا للثواب وخوفًا من العقاب في كتابنا "العبادة في الإسلام"، ونقلنا عن العلامة ابن القيم من كتابه "مدارج السالكين" ما يشفي الغليل، وينير السبيل

وأما الشعر الذي ينسب إليها في حب الله تعالى من مثل قولها:

أحبك حبين حب الهوى     وحبًا لأنك أهل لذاك

فأما الذي هو حب الهوى     فشغلي بذكرك عما سواك

وأما الذي أنت أهل له     فكشفك لي الحجب حتى أراك

وما الحمد في ذا ولا ذاك لي     ولكن لك الحمد في ذا وذاك

فقد قال الإمام أبو حامد الغزالي في "الإحياء" تعقيبًا على هذه الأبيات: (لعلها أرادت بحب الهوى: حب الله، لإحسانه إليها، وإنعامه عليها بحظوظ العاجلة.. وبحبه لما هو أهل له: الحب لجماله وجلاله الذي انكشف لها، وهو أعلى الحبين وأقواهما. ولذة مطالعة جمال الربوبية هي التي عبر عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال حاكيًا عن ربه تعالى: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" (رواه البخاري). قال: وقد تعجل بعض هذه اللذات في الدنيا لمن انتهى صفاء قلبه إلى الغاية) (الإحياء 4/311 طـ.. دار المعرفة، بيروت). اهـ.

ولكن ينبغي أن يعلم أن هذه المطالعة لجمال الربوبية إنما هي بعين القلب، لا بعين الرأس.

يقول المحقق ابن القيم في "مدارج السالكين" في بيان حقيقة نور الكشف الذي يتحدث عنه الصوفية:

(ونور الكشف عندهم هو مبدأ الشهود، وهو نور تجلى معاني الأسماء الحسنى على القلب، فتضيء به ظلمة القلب، ويرتفع به حجاب الكشف.

ولا تلتفت إلى غير هذا، فتزل قدم بعد ثبوتها، فإنك تجد في كلام بعضهم: تجلي الذات يقتضي كذا وكذا، وتجلي الصفات يقتضي كذا وكذا، وتجلي الأفعال يقتضي كذا وكذا. والقوم عنايتهم بالألفاظ فيتوهم المتوهم: أنهم يريدون تجلي حقيقة الذات والصفات والأفعال للعيان، فيقع من يقع منهم في الشطحات والطامات، والصادقون العارفون براء من ذلك.

وإنما يشيرون إلى كمال المعرفة، وارتفاع حجب الغفلة والشك والإعراض، واستيلاء سلطان المعرفة على القلب بمحو شهود السوى بالكلية، فلا يشهد القلب سوى معروفه.

وينظرون هذا بطلوع الشمس، فإنها إذا طلعت انطمس نور الكواكب . ولم تعدم الكواكب، وإنما غطى عليها نور الشمس فلم يظهر لها وجود، وهي في الواقع موجودة في أماكنها، وهكذا نور المعرفة إذا استولى على القلب، قوى سلطانها وزالت الموانع والحجب عن القلب.

ولا ينكر هذا إلا من ليس من أهله.

ولا يعتقد أن الذات المقدسة والأوصاف: برزت وتجلت للعبد - كما تجلى سبحانه للطور، وكما يتجلى يوم القيامة للناس - إلا غالط فاقد للعلم، وكثير ما يقع الغلط من التجاوز من نور العبادات والرياضة والذكر إلى نور الذات والصفات.

فإن العبادة الصحيحة، والرياضة الشرعية، والذكر المتواطئ عليه القلب واللسان: يوجب نورًا على قدر قوته وضعفه، وربما قوي ذلك النور حتى يشاهد بالعيان فيغلط فيه ضعيف العلم والتمييز بين خصائص الربوبية ومقتضيات العبودية فيظنه نور الذات، وهيهات !نور الذات لا يقوم له شيء، ولو كشف سبحانه وتعالى الحجاب عنه لتدكدك العالم كله، كما تدكدك الجبل وساخ لما ظهر له القدر اليسير من التجلي.

وفي الصحيح عنه -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله سبحانه لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".

فالإسلام له نور، والإيمان له نور أقوى منه. والإحسان له نور أقوى منهما. فإذا اجتمع الإسلام والإيمان والإحسان، وزالت الحجب الشاغلة عن الله تعالى امتلأ القلب والجوارح بذلك النور، لا بالنور الذي هو صفة الرب تعالى. فإن صفاته لا تحل في شيء من مخلوقاته، كما أن مخلوقاته لا تحل فيه، فالخالق سبحانه بائن عن المخلوق بذاته وصفاته، فلا اتحاد، ولا حلول ولا ممازجة، تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرًا). (مدارج السالكين 3 / 110 - 112 تحقيق محمد حامد الفقي).اهـ.

ومن شعرها في الحب الإلهي ما أورده الشيخ شهاب الدين السهرودي في "العوارف" تناجى به المولى سبحانه وتعالى:

ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي     وأبحت جسمي من أراد جلوسي

فالجسم منى للجليس مؤانس     وحبيب قلبي في الفؤاد جليسي

تريد أنها تلقى الناس بوجهها وجسمها، أما قلبها فهو مع الله تعالى في كل حال.

ومناقبها رحمها الله ورضي عنها كثيرة، وفضائلها جمة، وأكثر العلماء الكبار من المحدثين والفقهاء والزهاد والعباد، يثنون عليها، ويرفعونها مكانًا عليًا.

وذكر ابن كثير في "البداية" أن أبا داود السجستاني تكلم فيها، واتهمها بالزندقة!

قال: فلعله بلغه عنها أمر!

وذكر الذهبي في "سير الأعلام" عن أبى سعيد الأعرابي قال: أما رابعة فقد حمل الناس عنها حكمة كثيرة، وحكى عنها سفيان وشعبة وغيرهما، مما يدل على بطلان ما قيل عنها. وقد تمثلته بهذا:

ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي     وأبحت جسمي من أراد جلوسي

فنسبها بعضهم إلى الحلول بنصف البيت، وإلى الإباحة بتمامه!

قلت والقائل هو الحافظ الذهبي: فهذا غلو وجهل ولعل من نسبها إلى ذلك مباحي حلولي، ليحتج بها على كفره، كاحتجاجهم بخبر: "كنت سمعه الذي يسمع به". (الحديث رواه البخاري عن أبى هريرة وهو حديث قدسي).اهـ.

وقد أنصف الإمام الذهبي رحمه الله.

فلعل هذا أو مثله هو ما بلغ أبا داود، فاتهمها بما اتهمها دون أن يتبين حقيقتها.

هذا وقد كتب كثير من المعاصرين كتبًا ومقالات مختلفة عن رابعة، وأطلق عليها بعضهم " شهيدة العشق الإلهي" وهو تعبير ينفر منه الحس الإسلامي، فالعلاقة بين الله وعباده يعبر عنها في لغة القرآن والسنة بــ "الحب" لا بــ "العشق" وفى القرآن الكريم: (يحبهم ويحبونه) (المائدة: 54). (والذين آمنوا أشد حبًا لله). (البقرة: 165).

وفى الحديث المتفق عليه: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما... الحديث"

وغيره من الأحاديث كثير، وهو يدل على أن "حب الله " تعالى جزء أصيل في الإسلام، وليس دخيلا عليه، كما زعم زاعمون.

وأشعار "رابعة" كلها تتحدث عن "حب الله" فلا ينبغي أن نتجاوز ذلك، رعاية للأدب مع الله جل جلاله.

وبالله التوفيق.