المقالات التي تكتب في عدد من الصحف العربية، والمصرية خاصة، وتدور حول نشاط العلامة الدكتور يوسف القرضاوي لا تحصي كثرة. وهذه الكثرة ظاهرة في حد ذاتها، فلعل أحداً من العلماء المعاصرين لم ينل هذا القدر من الاهتمام الصحفي، على هذا النحو من التوالي وفي هذا العدد من الصحف غير الدكتور القرضاوي.

والقاريء المتابع لهذه المقالات يجدها على نوعين، نوع يكتبه كتاب ممن لهم شأن وصلة بالعلم الديني المنضبط بمناهج العلم والبحث الإسلامية، وهؤلاء يجلون الشيخ القرضاوي، ويحتفون بآرائه، ويختلفون معه أو يتفقون على القاعدة العظيمة التي وضعها الإمام مالك: كل مخلوق يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الإحساس الصادق بدقة قالة الإمام الشافعي المعبرة عن تواضع العلماء: قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ - عندي - ويحتمل الصواب ، ومقالته الجميلة: ما ناظرت أحدا إلا أحببت أن يظهر الله الحق على لسانه .

والقرضاوي، وغيره من العلماء العاملين، يتمثلون بلسان الحال قبل لسان المقال بكلمة الشافعي رحمه الله: لقد ألفت هذه الكتب ولم آل فيها (أي لم أقصر في البحث والنظر)، ولابد أن يوجد فيها الخطأ لأن الله تعالى أبي أن يتم إلا كتابه) أو لأن الله تعالى يقول: ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كبيراً . والعالم - الذي يستحق هذا الوصف - يفرح بالخلاف حول آرائه والاختلاف معه فيها لأن ذلك يؤدي به إلى مزيد بحث وإمعان نظر ومراجعة وتأمل تقوده كلها إلى التيقن من صحة ما قال أو إلى الرجوع عنه إلى ما هو أقوى قيلاً وأهدى سبيلاً، يحدوه قول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - إن لم تخني الذاكرة - في قضيتين حكم في كل منهما بحكم مخالف لحكم الأخرى، فسئل هل ينقض حكمه الثاني حكمه الأول؟ فقال لا: تلك علي ما قضينا وهذه علي ما نقضي وقول الإمام أبي حنيفة رحمه الله: إني أقول القول اليوم وأرجع عنه غداً وجوابه على سؤال وجه إليه يقول: قولك هو الحق الذي لا ريب فيه؟ بقوله: و الله لا أدري لعله الباطل الذي لا ريب فيه أي أنه يبذل جهده للتعبير عن الحكم الشرعي كما يقوده إليه نظره في الأدلة وفهمه لها وترتيبه إياها، لكنه غير معصوم من الخطأ، في هذه الأمور أو غيرها، خطأ يجعل قوله مجانبا للصواب قليلا أو كثيراً، وعبر بكلمة الباطل الذي لا ريب فيه تواضعا للعلم ومكانه عند الله وعند الناس ودرءاً لشبهة الاجلال والتعظيم التي لمحها في سؤال الرجل.

وثمة نوع آخر من المقالات التي تتناول نشاط الشيخ القرضاوي تناولا يمكن أن نسميه - مع تجاوز يقل أو يكثر - تناولا سياسيا. وهؤلاء الكاتبون لا شأن لهم بالعلم الشرعي أصولاً أو فروعاً، وعلمهم بالقرآن أو السنة أو سائر الأدلة لا يجاوز علم العامة الذين أوجب الله عليهم سؤال أهل الذكر فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون النحل: 43 وهم في موضع السائل يتلقون جواب العلماء للعمل به لا للمجادلة في صحته أو خطئه، ولا للاعتراض على العلماء فيما يقولون، وغاية ما يجوز لأحدهم إذا لم يطمئن قلبه (المؤمن) إلى قول عالم أن يسأل غيره من أقرانه ونظرائه، لكنه لا يجوز له - في أيةحال - أن يرد الأمر إلى (عقله) ويحكم فيه بمقتضى ما يتصور هو أنه يجوز أو لا يجوز، يصلح أو يفسد! ولذلك قال الله تبارك وتعالى وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته، لأتبعتم الشيطن إلا قليلا النساء: 83 .

ومع هذه القاعدة الصريحة - القرآنية - في سؤال العلماء عما لا يعلم العامة حكمه، وفي وجوب رد الأمور التي تثير التساؤل إلى القادرين على الاستنباط والاجتهاد والفهم العلمي - الديني - الصحيح، تجد الفريق الذي يتناول نشاط القرضاوي من وجهة نظر سياسية شديدي الجرأة على القول في الدين والحلال والحرام بلا دليل ولا اثارة من علم.

وكثير من هؤلاء الكاتبين لا يتابع متابعة حقيقية ما يقوله أو يكتبه أو يفتي به الشيخ يوسف القرضاوي وإنما يلتقط جزءاً من خبر من صحيفة أو إذاعة، أو من فم ناقل قد يكون ضبط ما سمعه أو لم يضبطه، ويبني عليها انتقاده ولومه وتخطئته للقرضاوي، ثم يشيّد على ذلك حملة تستمر وينتشر المشاركون فيها بحكم الرد والرد على الرد، والتعليق والتعقيب على التعليق، من صحيفة إلى أخرى بحيث يرسخ في أذهان بسطاء القراء أن هناك خطأ بينا قد وقع فيه الدكتور القرضاوي وأن هؤلاء الكاتبين - لغيرتهم على الدين وأحكامه وعلى مكانته في قلوب أهله وصورته عند غيرهم - حريصون على تصويب هذا الخطأ والرد على صاحبه!

آخر مثال وقفت عليه في هذا الشأن هو المقال الذي نشره أحد الكتاب الدائمين في (الأهرام) عن موقف الشيخ القرضاوي من مسألة خطف الرهائن وقتلهم في العراق، ومسألة قتل المدنيين غير المحاربين في سياق العمليات المسلحة التي يقوم بها الاحتلال وقواته أو التي تقوم بها المقاومة وفصائلها. وهذا الكاتب ينسب إلى القرضاوي أنه يفتي بجواز اختطاف الرهائن وبجواز قتل المدنيين دون تمييز بين المحاربين (المشاركين في العمليات العسكرية) وغير المحاربين. ثم يبني قصراً من رمال السب والقذف والتطاول على هذه النسبة الباطلة.

ولست أحب أن أعود بهذا الكاتب ونظرائه إلى ما قاله الدكتور القرضاوي في مؤتمر صحفي عالمي عقده في الخرطوم في يوم الاثنين 6/9/2004 ولا إلى المؤتمر الصحفي العالمي الذي عقده في الدوحة وأذاعته فضائية الجزيرة على الهواء كاملا يوم الخميس 9/9/،2004 ولكنني أدعوه إلى مراجعة البيان الختامي الذي أصدره مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي عقد اجتماعه الثاني منذ شهر واحد في مدينة بيروت، وأصدر بيانه الختامي بتاريخ 20/11/2004 وضمنّه فقرة خاصة بمسألة غير المشاركين في العمليات العسكرية من الأجانب الموجودين في العراق. وهذا الاجتماع عقد برئاسة الدكتور يوسف القرضاوي نفسه إذ هو رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ورئيس مجلس أمنائه.

وقد جاء في البيان المذكور ما نصه:

رابعاً: على المقاومين الشرفاء الالتزام بالأحكام الشرعية في جهادهم ضد المحتلين، والابتعاد عن التعرض للمدنيين غير المقاتلين، من النساء والأطفال والشيوخ، حتي لو كانوا من جنسية القوات الغازية ما داموا لا يتعاطون أعمالاً عدائية ولا سيما إذا كانوا يقومون بمهمات إنسانية أو إعلامية، لأن الله تعالى أمرنا بقتال من يقاتلنا ونهانا عن الاعتداء.وإذا وقع بعض الاعداء في الأسر فيجب الإحسان إليهم طوال مدة الأسر، وتقديمهم إلى محاكمة عادلة لإطلاق البريء منهم، ولا يجوز احتجاز الرهائن والتهديد بقتلهم من أجل الضغط لتحقيق هدف معين، إذ (لا تزر وازرة وزر أخرى) و لا يجني جان إلا على نفسه ، وإذا احتجز إنسان بهذا الشكل فهو أسير حرب لا يجوز قتله أو إيذاؤه، بل مصيره إلى إطلاق سراحه قطعاً لقول الله عز وجل: فإما منا بعد وإما فداء.

خامساً: على المقاومين الشرفاء أن ينتبهوا إلى وجود طوابير متعددة ممن يريدون سوءاً بالإسلام وأهله، يقومون بأعمال ظاهرها المقاومة وهي في حقيقة الأمر امتداد للعدوان وتشويه لصورة المقاومة الشريفة، وربما ترتبط بعض هذه الطوابير بأجهزة الاستخبارات الصهيونية والعالمية، وعلى المقاومة الشريفة أن تستنكر أعمالهم وتفضح عمالتهم واختراقهم، لاسيما وأن كثيراً من الجرائم التي يرتكبونها إنما تأتي في عقب افتضاح تصرف وحشي من قبل قوات الاحتلال، فيقترفون جريمة أكثر وحشية تغطي على تصرفات المحتلين وتنسي العالم فظائعهم .

وقبل ذلك بشهرين في 26/9/2004 أصدر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بياناً خاصاً بخطف الرهائن في العراق حرم فيه الاختطاف باعتباره اعتداء على الغير ونوعا من أنواع البغي المنهي عنه شرعا، وانتهى البيان إلى أنه: لا يجوز خطف أي إنسان في غير حالة الحرب الفعلية ، وهو عندئذ يكون أسير حرب لا يجوز قتله بل مصيره إلي إطلاق سراحه قطعا..، ومن باب أولى لا يجوز خطف أشخاص إذا كانوا معارضين لمحاربتنا ومتعاطفين معنا.. ونستنكر جميع حوادث الاختطاف التي تصيب أناسا لا علاقة لهم بالمحتلين ونطالب بإطلاق سراحهم فوراً و لا يجوز اختطاف الأبرياء أو المدنيين من الأعداء الذين لا يجوز توجيه الأعمال الحربية ضدهم و المدنيون في نظر الإسلام هم غير المقاتلين من النساء والأطفال والشيوخ العاجزين الذين لا رأي لهم في القتال والرهبان وأصحاب الصوامع وقد اتفق الفقهاء من المذاهب الاربعة وغيرها على عدم جواز التعرض لغير المقاتلين بوجه عام وذكروا أمثلة لهم منهم العمال والفلاحون (الأجراء والحراثون بلغة الفقهاء) وأرباب الصنائع.

هذا هو موقف يوسف القرضاوي من مسألة قتل المدنيين وخطفهم، لا يقول وحده وإنما يقوله معه الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي يرأسه القرضاوي ويضم في عضويته نحو خمسمائة عالم من مختلف المذاهب السنية والشيعيةوالإباضية ويضم مجلس أمنائه ثلاثين عالماً يمثلون هذه المذاهب كافة. فهل من الأمانة المهنية والصحفية، أو من أخلاق الاختلاف السياسي أن يغض الطرف عن هذا الموقف الناصع المعبر عن حقيقة الاجتهاد الإسلامي ويعوّل علي كلام لا مصدر له، أو مصدره لا يرقي عن مستوي أحاديث المجالس لمهاجمة العلماء والنيل منهم والتشكيك في صدقهم وعدالتهم؟؟

- المصدر: جريدة الراية القطرية