يوصي النبي (صلى الله عليه وسلم) أحدنا بأن يتمسك بحقه في الأمل والعمل للمستقبل ولو كانت القيامة على الأبواب! يقول في حديثه العظيم: «إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة (نخلة صغيرة) فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها»[1].

وتتمثل هذه النخلة الباسقة التي بأيدي المسلمين الآن، في زمانهم الصعب هذا، في المؤسسة التي تسعى إلى تثبيت أقدامها في عالم يتضاءل فيه دور الفرد لمصلحة المؤسسات الجامعة والناظمة.. أعني بهذه الإشارة إلى «اتحاد علماء المسلمين العالمي» الذي مضى على تأسيسه عامان كاملان، وانعقدت جمعيته العامة بإستانبول خلال (12.10 تموز/ يوليو 2006) لإقرار نظامه الأساسي وانتخاب مجلس أمنائه وأمينه العام والنظر في برنامج عمله في الفترة المقبلة. وبهذه المناسبة يجد المرء نفسه مسوقاً إلى هذه المناصحة و«المفاكرة»، واضعاً نصب عينيه قول النبي (صلى الله عليه وسلم): «ألا لا يمنعنّ رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه»[2]. والمسلمون -كما في الحديث الصحيح أيضاً- يسعى بذمّتهم أدناهم!.

هذه – إذاً – طموحات وآمال... ومحاذير أيضاً، أضعها بين يدي السادة العلماء والمهتمين بالأمر، لينظروا فيها، ولينبجس من حولها نقاش وحوار يرشدان الخطو ويحثّان المسير بإذن الله تعالى.

محاذير على الطريق

أبدأ بالمحاذير المخوفة، بناء على القاعدة الفقهية المقررة: «درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح»، وأيضاً على القاعدة السلوكية التي تقتضي «التخلية» عن الأخلاق والأعمال الرديّة قبل طلب «التحلية» بما يحسن ويجمل!.

والحق أنه لا محذور لدي، ولدى طائفة ممن أعرف من المهتمين، أعظم مما يكتنف طبيعة (أو لنقل: هوية) الاتحاد من بعض الغموض! أعني مسألة مدى «تمثيليته» للمسلمين، وكونه -بحسب ما قد يرى البعض- «المرجعية الإسلامية العالمية» المنتظرة.

ففي حين خلَت ورقة «مشروع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين» (التي وجهها العلاّمة الدكتور يوسف القرضاوي، أثناء التحضير لتكوين الاتحاد، إلى العلماء والمعنيين)، وكذلك ورقة «النظام الأساسي» (الذي أُقرّ في الاجتماع التأسيسي قبل عامين، وعُرض مرة أخرى على الجمعية العامة بإستانبول).. أقول: في حين خلت هاتان الورقتان المهمتان من أية إشارة إلى هذه «المرجعية الإسلامية العالمية» المنتظر اضطلاعُ الاتحاد بها، وردت ثلاثُ إشارات إليها في البيان الختامي للاجتماع التأسيسي الذي عقد بلندن (23/4/1425هـ 11/7/2004م)، وكان لافتاً أن هذه الإشارات الثلاث جاءت مجملة على نحو غامض (على الأقل لي ولمن ناقشتهم الأمر).

كما أنها ترد أحياناً على ألسنة بعض المتحدثين عن الاتحاد وأهميته في الظرف الراهن. ويفترض بغرض، له هذه الخطورة، أن يرد – إذا كان لا بد منه! – في صدر «النظام العام» الذي يفترض أن يُتناول بالنقاش من جانب الجمعية العامة. أما أقصى ما نص عليه هذا النظام، في ما يتصل بهذا، فهو أن من أهداف الاتحاد «أن يعمل على توحيد قوى الأمة بمختلف مذاهبها واتجاهاتها، وتوجيه جهود العلماء ومواقفهم الفكرية والعملية، في قضايا الأمة الكبرى، لتواجه التحديات صفاً واحداً» (المادة 28)...

وأحسب أن الفارق كبير وواضح بين هذا الطموح الواجب، وبين الدور «الوصائي» الذي تشي به – ولو لم يكن مقصوداً – عبارة «المرجعية الإسلامية العالمية»!

وقد تنبه بعض المراقبين «المحبين»[3] إلى هذا المحذور الخطير – في اعتقادي – مؤكداً أن العلماء المسلمين لم يكونوا يوماً مؤسسة شمولية، فليس في الإسلام ما لدى الكنيسة الكاثوليكية مثلاً من هيمنة دينية – وظائف واعتقادات – على أتباعها، وبالتالي فعلى الاتحاد أن يتجنب النزوع إلى أن يكون سلطة أو مرجعية شمولية لأعضائه، فضلاً عن عموم المسلمين، وعليه أيضاً أن يتذكر دوماً أن الآلاف من العلماء الذين لا ينقصهم العلم ولا الإحساس العميق بالمسؤولية سيبقون خارج إطاره، وأن ملايين المسلمين لن يلتفوا حوله ويقرّوا له بنوع من التمثيل إلا بعد امتحان طويل لصدقيته واستقلاليته: آراء ومواقف.

ومن هنا، أرى لزاماً على الجمعية العامة للاتحاد أن تتملّى عميقاً في تحديد «هوية» هذا الاتحاد، لأن لهذا التحديد الواجب ما بعده!.

وقد يتصل بهذا المحذور الأهم آخر، وهو ماهية التعامل مع اختلافات زوايا النظر وتقدير الأمور – بمقتضى الطبيعة البشرية والفطرة الإلهية – ولاسيما عندما «يُجمع» الاتحاد على أمر يرى فيه صالح الأمة، و«يرى» غيرُه صالح الأمة ذاته – وفي المسألة ذاتها – في أمر آخر! وقد خبرنا خلال الأشهر القليلة الماضية تجربة مؤلمة على هذا الصعيد، عندما اندلع – عبر وسائل الإعلام كافة – ما يشبه التلاسُن و«الهجوم» و«الهجوم المضاد» بين الاتحاد – من جهة – وعدد من العلماء والدعاة والمرشدين – من جهة أخرى – في أزمة الرسوم الدانماركية، ووصل الأمر – مع بالغ الأسف – أن أضحت وسائل الإعلام مسرحاً للتراشق المحزن بين أنصار وجهتي نظر يرى أصحاب كل واحدة منهما أن «مصلحة الإسلام» في ما يدعو إليه!

والأخطر من هذا أن بعض السطحيين حاول حرف الجدل الذي اندلع صوب ما يراد الترويج من أن ثمة «إسلاماً شبابياً» يجد عنتاً وعدم اعتراف من «إسلام» آخر «عجوز» يعزّ عليه أن يتراجع عما حصد من شعبية ومكانة جماهيريتين! وأحسب أن في هذا بلاغة وموعظة كافيتين لمعالجة هذه المسألة والتي سبقتها: عميقاً... وعاجلاً أيضاً!

وربما يترتب المحذور الثالث – بدوره – على هذين السابقين! ويتعلق هذا بالتساؤل عن مدى شمولية تمثيل أفراد العلماء (باختلاف انتماءاتهم القُطرية والمذهبية والطائفية، وتنوّع رؤاهم الفكرية ومواقفهم السياسية) داخل كيان الاتحاد. وإذا أردنا التصارح، فإن المرء لا يستطيع إخفاء قلقه من غياب عدد من الأسماء المهمة والمؤثرة في الساحات العلمية والفكرية والدعوية في عدد من أقطار العالم الإسلامي. وليس يغيب عن الوعي إدراكُ الاختلافات والتباينات – العميقة حيناً، والسطحية أحياناً! – التي لا ينفكّ عنها البشر بوجه عام... ولكن: أليس من أهم مقاصد الاتحاد جمعُ «العلماء العُدول» العاملين في الحقل الإسلامي بمختلف صور العمل، بغض النظر عن الانتماءات الأخرى التي قد تستلزم – ولا بد – قدراً من التباين في الرؤى، والتي – أيضاً – ليس من مهام الاتحاد ولا مقاصده تذويبها... بل العمل الجماعي في إطار التنوع المُغني والتعدد المُثري؟!

ومن شأن هذا التنوع والتعدد – وما قد يُفضي إليه من تباين – ألا يمنع للود قضية، إعمالاً للقاعدة الذهبية المشتهرة (والتي أشار إليها فضيلة الدكتور القرضاوي في ورقته حول مشروع الاتحاد التي سبقت الإشارة إليها): «نتعاون – أي «أهل القِبلة» جميعاً – في ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضُنا بعضاً في ما اختلفنا فيه». وقد صدّق هذا التوجه أن ضم التشكيل الأول لمجلس الأمناء الأول العلاّمة الإباضي الشيخ أحمد بن حمد الخليلي – مفتي سلطنة عُمان – نائباً أول للرئيس، والعلاّمة الشيعي آية الله محمد علي تسخيري نائباً ثانياً، إضافة إلى العلاّمة السنّي الشيخ عبد الله بن بيّه نائباً ثالثاً... فكيف لا يسع الاتحاد – بعد هذا كله – عددا من أهم الأسماء (لا أريد أن أعين أحدا... رفعا لأي حرج قد يكون) حتى وإن بقيت اختلافات أو تباينات في الرؤى والمواقف؟!

والمحذور الأخير في هذا المقام، هو خشية أن يتكلّس الاتحاد بمرور الوقت – كما تكلست مؤسسات أخرى كثيرة! وأن يُضحي – كما أضحى غيره كثيرا – «ناديا» مغلقا على مجموعة من الأصدقاء والمعارف، أو – على الأقل – معتمدا على «أشخاص» بعينهم في الحركة والنشاط والعمل، فإذا غاب هؤلاء «الأشخاص» – لأي سبب – تجمّد المشروع الطموح – كما تجمدت من قبل مشاريع إسلامية كثيرة.

وأحسب أن علاج داء «الشخصنة» هذا، المتأصل – مع الأسف – فينا نحن العرب، يكون بتفعيل دور كل عضو من أعضاء الاتحاد، وعدم قصر العمل والتحرك على أشخاص بعينهم، وأيضا بتفعيل «دورية» تداول «المناصب» المؤثرة وعضوية اللجان الفاعلة... على أن يكون هذا كله من اليوم الأول لهذه الجمعية المنتظرة!

أما الخشية من أن تؤثّر في الاتحاد توجهات دولة طموح للقيادة، أو نظام حكم راغب في ما يستر شيئا من سوءاته، أو رؤوس أموال ترمي إلى ما يشبه غسيل الأموال المقنّع... قصد توجيه أنشطة الاتحاد – أو بعض منها – جهة دعم أو تأييد أو مساندة هؤلاء أو أولئك، كل ذلك كان سيئه عند ربك وعند الناس مكروها كراهة التحريم والتأبيد! وهو قاصمة الظهر التي نسأل الله تعالى أن يحفظ هذا الكيان الفتيّ منه!

طموحات وآمال

سأكثّف هذه الطموحات والآمال، التي يعقدها قطاع كبير من المسلمين على مثل هذا التجمع المبارك، في نقاط محددة طلبا للاختصار، وتمهيدا لما قد يكون من طلب الاستفصال!

1- أن يكون الاتحاد مظلة جامعة – جمعا حقيقيا – جهودا إسلامية كثيرة مبعثرة في أنحاء الأرض يقوم عليها رجال ونساء مخلصون.

2- أن يغدو مجالا رحبا لممارسة جادة ومسئولة لما ترتفع به الشعارات كل حين من أن التباينات المذهبية والطائفية لا تعكّر على حقيقة كوننا (أو بالأحرى: وجوب كوننا) أمة واحدة (فعلا، لا قولا) كما أمر الله وأحب.

3- أن يغدو مجالا رحبا – كذلك – لممارسة حضارية، كما يليق بـ «الأمة الواحدة»، لمفهوم احترام التنوع والتعدد احتراما حقيقيا نابعا من يقين بمقولة الإمام الشافعي – رضي الله عنه: «اجتهادنا صواب... يحتمل الخطأ، واجتهاد غيرنا خطأ، يحتمل الصواب»، بدلا من الاعتقاد الكامن – والظاهر أحيانا! لدى كل صاحب مذهب أو طائفة من أن اجتهاده هو الحق المطلق، واجتهاد سواه هو الضلال المبين الذي يستلزم الدعاء له بالإقلاع عنه، إن لم يصل الأمر إلى طلب استئصاله أصلا.

4- أن يتبنّى الاتحاد، تبنّيا أساسيا وقويا وفعّالا، قضايا الحريات وحقوق الإنسان وما يتصل بها من رفع المعاناة عن المعتقلين ظلما وعن الشعوب المقهورة غصبا، والعمل الحثيث على رأب الصدع الهائل بين الأنظمة – العربية خاصة - والشعوب.. رأبا حكيما صحيحا (لا تلفيقيا ولا توفيقيا... وبالطبع: لا «ديكوريا»)، وذلك توقيا للأهوال الداخلية والخارجية، وقياما بواجب دفع المفسدة المتيقّنة. وأحسب أن طبيعة الاتحاد «العلمائية» – بتعبير بشير نافع – التي لا تقصد سوى النصح لله ورسوله وكتابه وأئمة المسلمين وعامتهم، والتي ليست بوارد المنافسة في السياسة وطلب السلطة (والتي هي هدف بعض الحركات «الإسلامية» التي لا تزال مذبذبة بين جانبي الدعوة والسياسة). أقول: أحسب أن هذه الطبيعة – الظاهرة والباطنة – مما يسهّل عمل الاتحاد بصفته وسيطا أمينا وناصحا للجميع، مما يجعل لكلمته بعض الأثر الذي كان للعلماء الربانيين في تاريخنا الإسلامي عبر العصور.

5- أن يتبنى كذلك، بقوة وبإصرار ووعي، الدعوة إلى «النهوض الشامل» الذي ينبغي أن يسعى إليه أبناء «الأمة الواحدة»، كل في وطنه وحدوده، وصولا بالأمة كلها إلى «الشهود الحضاري»، وأداء رسالتها في عمارة الأرض وأداء واجبات الاستخلاف، بحيث يبرُز تديُّنها في الحياة: علما نافعا، وعملا متقنا، وخُلُقا قويما، وفكرا رشيدا، وثراء في الإنجاز بوجه عام (على نحو ما تقول المادة 26 من «النظام الأساسي»).

6- أن يكون الاتحاد، بصفته جامعا نخبة عقول الأمة في المجال الديني، طليعي الفكر (إذا غضضنا النظر قليلا عن الحمولة «الإيديولوجية» لمصطلح «الفكر الطليعي»!)، بمعنى أن يكون رائدا جسورا في طرح الأفكار والاجتهادات الموصّلة، حتى إن خالفت الروح العامة السائدة أو الأعراف الخاطئة المستقرة، وذلك – بالطبع – بمسؤولية الحكيم الحريص على جمهوره، ولكن من غير أن تكون أفكار الجمهور وأُفُقُه حاكمين أو معوّقين. فالأصل أن «الجمهور» يتوجه إلى أهل العلم بالسؤال وطلب المعرفة، والأصل في العالم ألا يتملق «الجمهور» طلبا لشعبية أو حفاظا عليها (وشعار الاتحاد – من الآية الكريمة – دالّ على هذا أقوى دلالة: «الذين يبلّغون رسالات الله، ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله». فهذا الـ«أحد» ليس الحكّام والسلاطين وحسب، بل يشمل «الجمهور» أيضا). وأحسب أن روح عصرنا، القائمة على ثقافة الإعلام والتواصل اللامحدود، مما يسهّل هذه المهمة.

7- ومما يتصل بهذا الأمر، أن يهتم الاتحاد اهتماما خاصا بمجال الإعلام (مرئيا ومسموعا ومقروءا)، وأن يعمل على إنشاء قناة فضائية خاصة – ومستقلة كاستقلاله – تحمل رؤى «الإسلام الوسطي» التي يتمثلها، ويبث أفكار النهضة والبعث الحضاري التي يطمح إلى نشرها. غير أن من المهم بمكان أن يحذر الاتحاد من أن يقدم على هذه الخطوة الجسورة والخطيرة من دون الاستعداد الكافي لها: حرفيا ومهنيا، لأن زماننا لا مكان فيه للأنصاف! وبالتالي، يمكن البدء بتبني ودعم عدد من البرامج الخاصة باسمه تبث عبر عدد من الفضائيات ذات الصدقية والانتشار، تمهيدا لتلك الفضائية الخاصة التي يجب أن تكون متعددة اللغات، انطلاقا من «عالمية» الاتحاد وكونية مجال عمله واهتمامه.

8- وكذلك، أن يعمل على تطوير موقعه على الشبكة العالمية للمعلومات، وإمداده بالمقالات والتقارير والأبحاث والفتاوى المحرّرة، وما إلى ذلك من مواد بالغة الأهمية في توسيع نطاق المعرفة به وبنشاطاته وجهوده. وأن يعمل على إصدار مجلة دورية (ثقافية عامة، أو بحثية متخصصة، أو الاثنتين!) مطبوعة ومرقومة معا.

9- ويبقى أن تقرّ هذه الجمعية العامة برنامج عمل محددا وموزّعا على لجان الاتحاد المتنوعة، بحيث تقاس مدى فاعلية الاتحاد وتأثيره بحسب ما يُنجز من خطط موضوعة سلفا.

هذه بعض الأفكار التي أحببتُ أن أتقدم بها أرجو أن يكون لها ما بعدها.

______

* نشرت هذه المقالة للمرة الأولى على موقع إسلام أونلاين بتاريخ 15/8/2006

[1] رواه البخاري في «الأدب المفرد» وأحمد وغيرهما... عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو صحيح.

[2] رواه احمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم... عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، وهو صحيح.

[3] د. بشير نافع: اتحاد العلماء المسلمين يستلهم الدور التاريخي لطبقة العلماء، جريدة «القدس العربي» اللندنية، 18/5/2006م.