د. يوسف القرضاوي
"منطقة الفراغ التشريعي" تلك المنطقة التي تركتها النصوص ـ قصدا ـ لاجتهاد أولي الأمر والرأي، وأهل الحل والعقد في الأمة، بما يحقق المصلحة العامة، ويرعى المقاصد الشرعية، من غير أن يقيدنا الشارع فيها بأمر أو نهي. وهي المنطقة التي يسميها بعض الفقهاء "العفو" تبعا لما جاء في بعض الأحاديث: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، ما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا، وتلا: (وما كان ربك نسيا)".
وفي حديث آخر: "إن الله حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها".
فالحدود التي قدرها الشرع، لا يجوز اعتداؤها، مثل تحديد الطلاق الذي تجوز بعده الرجعة بمرتين، وتحديد عدة المطلقة بثلاثة قروء أو بضع الحمل، وتحديد أنصبة الورثة في تركة الميت، وتحديد نصاب الزكاة ومقدار الواجب فيها، وكذلك العقوبات المقدرة بمئة جلدة، أو بثمانين، أو بقطع اليد ونحوها.
ومثل ذلك الفرائض التي أوجبها الله كالعبادات الأربع التي هي أركان الإسلام، ومبانيه العظام، ومثل ذلك الجهاد، والأمر المعروف والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار، وأداء الأمانات، والحكم بالعدل وغيرها.
وكذلك المحرمات اليقينية، التي أشرنا إليها من قبل، مثل: الشرك والسحر، والقتل، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات، والزنى وشرب الخمر، والسرقة وشهادة الزور، ونحوها.
وما عدا هذه الحدود والفرائض والمحرمات، فهي أمور مسكوت عنها، متروكة للاجتهاد، رحمة بالأمة، وتيسيرا وتوسعة عليها، وبهذا تجد أمامها مجالا رحبا مرنا، تتحرك فيه بيسر وسهولة دون أن تشعر بالإثم في دينها، أو الحرج في دنياها.
أما كيف تملأ الأمة هذا "الفراغ التشريعي" أو "منطقة العفو" التي تركتها النصوص قصدا، كما قلنا، فهناك طرائق ومسالك عديدة يختلف في تقديرها وفي الأخذ بها فقهاء الشريعة ما بين قابل ورافض، ومطلق ومقيد، ومقل ومكثر.
هناك القياس بقيوده وشروطه وإن خالف فيه بعض المعتزلة والظاهرية والأمامية.
هناك الاستصلاح أو اعتبار المصلحة المرسلة، وهي التي لم يجئ نص خاص من الشارع باعتبارها ولا بإلغائها، واشتهر الأخذ بها عند المالكية، وإن كانت المذاهب الأربعة كلها قد أخذت بها عند التحقيق والتطبيق، كما يتضح ذلك بالقراءة والاستقراء لكتب كل مذهب.
هناك اعتبار العرف بقيوده وشروطه، ولهذا كان من القواعد الكلية الشرعية: أن العادة محكمة، وأن المعروف عرفا كالمشروط نصا.
ــــ
- عن كتاب "مدخل لمعرفة الإسلام" لفضيلة الشيخ.