د. يوسف القرضاوي

(الأمة): كلمة معرفة بـ " أل " العهدية، كما يقول علماء العربية، فهي تشير إلى معهودٍ في الذهن، مرسوم في الفكر، محفور في القلب.

وهي الأمة، التي لا يعرف المسلم غيرها، فإليها ينتمي، وبها يعتز، وفي سبيل بقائها وكرامتها يجاهد، وأعني بها: "أمة الإسلام".

إنها الأمة الواحدة، التي تؤمن برب واحد، هو الله تعالى، وتؤمن بكتاب واحد، هو القرآن الكريم، وتؤمن برسول واحد، هو محمد عليه الصلاة والسلام وتتجه كل يوم خمس مرات إلى قبلة واحدة، هي الكعبة، بيت الله الحرام.

إنها تتكون من شعوب وقبائل في أقطار وأقاليم، ولكنها مع هذا تظل أمة واحدة، جمعتها العقيدة، وربطت بينها الشريعة، ووحدت بين أذواقها ومشاربها القيم والآداب الإسلامية، وعاشت تاريخاً مشتركاً في انتصاراته ومآسيه، وعانت حاضراً مشتركاً في آلامه وآماله.

ولهذا لا يجوز لنا أن نقول "أمم إسلامية" بل "شعوب إسلامية" لأمة واحدة، خاطبها الله تعالى بقوله: ( وإن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاتقون ) (المؤمنون: 52).

إنها أمة واحدة في الغاية والوجهة..

واحدة في الأفكار والمفاهيم..

واحدة في المشاعر والأحاسيس..

صَوَّر الرسول صلى الله عليه وسلم وحدتها في ذلك فمثّلها بالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

وهي أمة متميزة بمقوماتها وخصائصها.

ومن هذه الخصائص: أنها أمة "ربانية".

لم تنشأ بمجرد المصادفة، أنها وجدت في إقليم واحد، أو انتسبت إلى عنصر معين، كبعض الأمم ولم تنشأ كذلك بإرادة فرد، أو إرادة حزب، أو إرادة طبقة أو إرادة مجلس ثوري أو منتخب. إنما أنشأها الله لتؤدي رسالتها في الوجود كما قال سبحانه: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) (البقرة: 143).

فالله هو الذي جعلها كذلك وأعدها لذلك، لتقوم بدورها في الناس.

ومن خصائصها: ما أشارت إليه الآية الكريمة وهو "الوسطية" فهي أمة وسط في كل شيء، في التصور والاعتقاد، وفي التعبد والتنسك، وفي القيم والأخلاق، وفي العمل والسلوك، وفي التشريع والتنظيم، وفي السياسة والاقتصاد، وفي العلاقات كلها داخلية وخارجية، لا تهمل المادة لحساب الروح، ولا الروح لحساب المادة، ولا يضخم الفرد فيطغى على المجتمع ولا المجتمع فيطغى على الفرد وإنما يعطى لكل جانب حقه، ويطالبه بواجبه في غير طغيان ولا إخسار، كما قال تعالى: (ألا تطغوا في الميزان. وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) (الرحمن: 8، 9).

وهي أمة ذات رسالة عالمية، ليست أمة إقليمية ولا قومية، بل وضعها الله في مقام الأستاذية للبشرية كلها، والهداية للناس كافة . . . وهذا معنى قوله تعالى: (.. وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) (البقرة: 143) وقوله جل شأنه: (كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتهون عن المنكر، وتؤمنون بالله) (آل عمران: 110).

فهذه الأمة لم تنبت وحدها كالنبات البري أو الشيطاني، كما يسميه بعض الناس، إنما أنبتها منبت، وأخرجها مخرج، وهو الله جل جلاله، ولم يخرجها لتتقوقع على نفسها، وتعيش في حدودها، ولمنافعها المادية الخاصة، إنما أخرجها "للناس" كل الناس، بيضاً وسوداً، عرباً وعجماً، أغنياء وفقراء، فهي أمة "مبعوثة" للعالمين، كما أن كتابها أنزل ذكراً للعالمين، ونبيها أرسل رحمة للعالمين وبعثة هذه الأمة بعثة رحمة ويسر، لا بعثة قسوة وعسر.

وقد خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة فقال: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)

ولقد فقه الصحابة هذا المعنى، وأدركوا أنهم مبعوثون لهداية أمم الأرض، وعبر عن ذلك أحدهم، وهو: ربعي بن عامر - في مواجهة رستم قائد الفرس، محدداً مهمة الأمة في عبارات بليغة موجزة: (إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلي سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام).

ــــــــ

- عن كتاب "من أجل صحوة راشدة تجدد الدين وتنهض بالدنيا" لفضيلة الشيخ.