في هذه السنة في شهر ديسمبر 1981م، الموافق صفر 1402هـ، توفي الكاتب والمفكر والداعية والمربي والسياسي الإسلامي المعروف الأستاذ محمد المبارك في المدينة المنورة.

الأستاذ المبارك أحد كبار العلماء السوريين، المجدّدين المعتدلين، الذين تتجلَّى في إنتاجهم الأصالة التي تُعبِّر عن ذاتيَّة الأمة، ورسالتها الإسلامية، والمعاصرة التي تعرف الغرب وثقافته ومدارسه المختلفة، نظرًا لمعرفته بالفرنسية.

تعرفي على الأستاذ المبارك:

عرفت الأستاذ محمد المبارك صورة واسْمًا «صورة شمسية طبعًا» في سنة 1948م، في سجل التعارف الإسلامي، في صفحة من صفحات مجلةٍ عزيزة علينا، كانت تصدر في مصر اسمها «الشهاب»، صدر منها خمسة أعداد فقط، ثم ذهب صاحبها ومؤسِّسها بيد الغدر، مؤسسها هو الإمام الشهيد «حسن البنا»، مؤسس كبرى الحركات الإسلامية الحديثة في هذا الشرق العربي.

في مجلة الشهاب كان سجل التعارف الإسلامي، وكانت صورة وكان اسم، بل كانت صور وأسماء لعدد من الرجال العاملين في الحقل الإسلامي، وفي الفكر الإسلامي، في العالم الإسلامي، كان منهم اسم محمد المبارك، ورسم محمد المبارك.

ثم ظهرت بعض مؤلفات وبحوث للأستاذ محمد المبارك، فازددنا تعرفًا عليه وإعجابًا به وحبًّا له، ثم جمعتنا به الظروف فيما بعد في مصر، فازددنا إعجابًا به وتقديرًا له، وعرفنا أنه من خيرة الرجال... نقول ذلك ولا نزكّي على الله أحدًا. هناك من الأشخاص من تسمع عنهم، فإذا لقيتهم زهدتَ فيهم، لكن الأستاذ المبارك كان معنا كما قال الشاعر قديمًا:

كانت مُحَادَثةُ الرُّكْبان تُنْبئنا        عن جابر بن ربَاح أطيبَ الخَبر

حتى التقينا فلا والله ما سمعتْ     أُذني بأحسَنَ ممَّا قدر رأى بَصَري

تقريره عن كتابي «الحلال والحرام»:

ثم عرفته أكثر حين أحال إليه أستاذنا الدكتور محمد البهي المدير العام للثقافة الإسلامية بالأزهر الشريف مسودة كتابي «الحلال والحرام في الإسلام» ليكتب تقريرًا عنه يتضمن رأيه فيه: هل يصلح أن يتبنّاه الأزهر ليترجم إلى اللغة الإنجليزية أو لا؟ وإنما اختاره الدكتور البهي لمعرفته بالثقافة الغربية، والعقلية الغربية بجوار ثقافته الإسلامية، وبهذا يملك القدرة على معرفة صلاحيَّة الكتاب لمخاطبة الغرب أو لا.

وقد كتب تقريرًا متميّزًا عن الكتاب، قال فيه: إنَّ المؤلف توخِّى فيه الاعتدال في أحكامه.

وقال: إنَّ الكتاب جيد في بابه، ضروري في موضوعه، وإذا استدركت فيه بعض الملاحظات كان خير كتاث في هذا الموضوع فيما أعلم.

وقد كان له بعض أسئلة واستفسارات سألني عنها، وأجبته عنها، وبعض أشياء ناقشني فيها، سلَّمت له ببعضها وعدَّلته، وبعضه سلَّم لي بها.

اجتماعي به مع الدكتور السباعي:

ثم شاء الله أن يزور مصر، وأن يجمعني به الدكتور البهي، ويعرِّفني عليه، ويعرِّفه عليَّ، وكان هو من علاَّمةِ سوريا الأستاذ الشيخ الدكتور مصطفى السباعي، وقد صنع لهما الدكتور البهي حفل شاي تكريمًا لهما، وأبى فضله إلا أن أحضر معهما، برغم حداثة سنَّي، ودنوَّ مرتبتي الوظيفيَّة، وقد أهداني السباعي كتابه «السنة ومكانتها في التشريع».

محاضرته في قاعة محمد عبده «نحو وعي إسلامي رشيد»:

وبعد ذلك توثَّقت علاقتي بالأستاذ المبارك، بمناسبات شتى، وأول ما لقيته بعد ذلك بمناسبة محاضرته التي ألقاها في قاعة الشيخ محمد عبده، وكانت بعنوان: «نحو وعي إسلامي رشيد».

كلمته في كتابي «فقه الزكاة»:

ومما لا أنساه للأستاذ المبارك ما كتبه عن كتابي «فقه الزكاة» في تقديمه كتابه عن «نظام الاقتصاد» الذي قال في تقدير منه:

«ومن الكتب الحديثة ما هو خاص بموضوع مُعيَّن، ومن هذا النوع كتاب «فقه الزكاة» للأستاذ يوسُف القَرَضاوي، وهو موسوعة فقهيَّة في الزكاة، استوعبت مسائلها القديمة والحديثة، وأحكامها النصيَّة والاجتهاديَّة على جميع المذاهب المعروفة المدوَّنة، لم يقتصر فيها على المذاهب الأربعة، مع ذكر الأدلة ومناقشتها. وعرض لما حَدَث من قضايا ومسائل، ومع نظرات تحليليَّة عميقة... وهو بالجملة عمل تنوء بمثله المجامع الفقهية، ويُعتبر حَدَثًا هامًّا في التأليف الفقهي... جزى الله مؤلفه خيرًا».

استدعاؤه لجامعة قطر:

وبعد انتقاله إلى المملكة العربية السعوديَّة، ثم بعد أن اُسِّست جامعة قطر، استداعه الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم كاظم مدير جامعة قطر، ليلقي محاضرات في علم الاجتماع، من وجهة نظر إسلامية، فألقى محاضرات ضمَّها كتابه: «نحو مجتمع إسلامي معاصر».

تقديمي لمحاضرته عن الإسلام والتنمية الصناعية:

وفي هذه الفترة ألقى محاضرته عن «الإسلام والتنمية الصناعية» وقد وكّل إليَّ الدكتور كاظم أن أتولّى تقديمه. وكان تقديمي المرتجل هو الذي قامت أسرة الأستاذ المبارك رحمه الله ع بتفريغه، وقدَّمت به كتابه: «الإسلام والتيَّارات الفكرية العالمية».

وفي هذا قلت:

فيسعدني في هذه الليلة الطيبة أن أقدِّم إليكم، بالنيابة عن هذه الكلية الفتية، وعن اللجنة الثقافية بها، عَلَمًا من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، ورجلًا من رجالات العلم والدعوة إلى الإسلام، ذلكم هو الأستاذ الكبير: محمد المبارك.

الأستاذ محمد المبارك عنيٌّ عن التعريف، ولكن جَرَت العادة أن يقدِّم المقدِّم كل محاضرة بنبذة عن حياته.

جمعه بين الثقافتين الدينية والمدنية:

الأستاذ المبارك من الذين جمعوا بين الثقافتين، وهذا هو العنصر المفقود الذي نشكو من ندرته، بل من فقدانه في حياتنا.

هناك أناس درسوا دراسة مدنية، وهناك أناس درسوا دراسة دينية، وبين الطائفتين فَجْوة أو جَفْوة، ولكن قليل من الناس من جَمَع بين الدراسة الدينية وبين الدراسة المدنية، من جَمَع بين القديم والحديث، بين علم الشرق وثقافة الغرب... أحد هؤلاء كان الأستاذ المبارك، فقد درس على الطريقة القديمة، درس تلقيًا على الشيوخ، على الحلقة، درس على والده اللغوي الكبير العلامة الشيخ عبد القادر مبارك رحمه الله ، فهو والحمد لله من أسرة علمية دينية، حيث كان والده وكان جدّه من علماء دمشق المعدودين.

دراسته ووظائفه:

ودرس على كبار الشيوخ في دمشق علوم الدين واللغة، ثم درس الدراسة النظامية في المدارس الابتدائية والثانوية، ثم درس في الجامعة، حيث تخرج في كلية العلوم ومدرسة الآداب العليا في سنة 1935م، ثم ذهب إلى باريس حيث بقي هناك ثلاث سنوات فعاد منها بعد أن تخرّج من جامعة السوربون في الأدب والاجتماع، وعاد من يومها يعمل في حقل التربية والتعليم في المدارس الثانوية، ومفتشًا وعضوًا في اللجان الفنيّة المختصّة بالمناهج الخاصة بتدريس الدين واللغة العربية.

ثم انتقل بعد ذلك سنة 1948م إلى الجامعة، حيث عمل مدرسًا بها، وعمل في كلية الشريعة من يوم تأسيسها برتبة أستاذ، ورئيسًا لقسم الأديان ومقارنة المذاهب ثم عميدًا لكلية الشريعة.

ثم انتقل من سوريا إلى بلاد عديدة، حيث عمل في جامعة أم درمان الإسلامية في الدراسات الإسلامية، كما عمل في جامعة الملك عبد العزيز أستاذًا ومستشارًا، وعمل في كلية الشريعة بمكة أيضًا رئيسًا لقسم الشريعة.

مشاركته في التخطيط التربوي:

وأسهم بنصيب ملحوظ في التخطيط التربوي، وفي العمل في المناهج والخطط التربوية فيما يتعلق بالدين واللغة والأدب في الثانويات الشرعية في سوريا، وفي الثانويات العامة، وفي كلية الشريعة، في الأزهر - في عهد التطوير - وفي جامعة أم درمان الإسلامية، وفي كلية الشريعة بمكة، وفي الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وفي المعهد العالي بالرياض، في كل هذه المواطن كان الأستاذ مبارك أحد الذين شاركوا في التخطيط والتوجيه والتأثير.

وقد اختير عضوًا في المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة منذ إنشائها، كما أنه عضو بالمجمع العلمي العربي بدمشق.

لا أريد أن أحدِّثكم عن الأستاذ المبارك نائبًا لدمشق أو وزيرًا تولَّى الوزارات المختلفة، فالجانب السياسي لا يهمنا كثيرًا في هذه الأمسية، إنما يهمنا الجانب العلمي، ويهمّنا جانب النشاط الإسلامي ...

عمله في حقل الدعوة الإسلامية:

الأستاذ المبارك منذ ريعان الشباب كان يعمل في حقل الدعوة الإسلامية، وحينما ذهب سنة 1935م إلى باريس كان مهتمًا بالدعوة إلى الإسلام، وبالتيارات المعادية للإسلام، وبخاصة الشيوعية. كان يحضر مؤتمرات الشيوعيين، ويندسُّ فيهم على أنه واحد منهم، وقد يظهر الموافقة على مقرّراتهم حتى يعرف ما لديهم، فالإنسان لا يستطيع أن يحارب عدوًّا حتى يعرف ماذا عنده.

اشترك بنشاطه في رابطة علماء دمشق، واشترك في تأسيس عدد من الجمعيات الإسلامية، وكان له دور ملحوظ في العمل الإسلامي وفي الدعوة الإسلامية في سوريا.

هذا هو الأستاذ محمد المبارك كعالم وكداعية وسياسي. وأحب أن أتحدّث عن الأستاذ المبارك كمفكّر. الحقيقة أننا قد نجد كثيرًا من الناس وعاظًا أو دعاة، لكننا قلّما نجد الدعاية العالم المتمكن، وقد تجد الداعية العالم، ولكنك قلّما تجد العالم المفكر الذي يفكر للإسلام ويفكر بالإسلام، أي يفكر بمنطق الإسلام، وبمنطلق من أصوله ونصوصه وروحه العامة، لكننا نحمد الله تعالى أن كان الأستاذ المبارك أحد الذين يفكرون بالإسلام ويفكرو للإسلام، وهكذا عاش لهذا الدين وعاش بهذا الدين.

هو أحد العقول القلائل في هذا العالم الإسلامي التي تفكر بالإسلام وتفكر للإسلام، ولو أحببنا أن نعدَّ عشرة عقول في العالم الإسلامي تفكر للإسلام وبالإسلام لكان الأستاذ المبارك من ألمعها، ونحمد الله على ذلك.

نظرته الشمولية للإسلام:

إنَّ من خصائص تفكير الأستاذ المبارك النظرة الشمولية للإسلام. إنّ عيبَ كثيرين أنهم يأخذون الإسلام مُجَزّأ،يأخذون جانبًا وينْسون جانبًا أو جوانب، ولكن الذين وفّقهم الله هم الذين ينظرون إلى الإسلام من جميع جوانبه، لا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، إنما يؤمنون بالكتاب كله وبالإسلام كله، فالإسلام وحدة لا تتجزأ، الإسلام كلٌّ شامل.

اقتراحه تدريس مادة «نظام الإسلام» في الجامعات:

وهذه هي نظرة الأستاذ المبارك، وعلى هذا الأساس كان يتبنّى في كل ما شارك فيه من مناهج التربية والجامعات الإسلامية والعربية... كان يتّبنى فكرة تدريس مادة اقتراح أن تُسمّى «نظام الإسلام»، مادة يدرَّس فيها الإسلام كله كوحدة لا تتجزأ، اقترح ذلك في جامعة الأزهر، وفي جامعة أم درمان، وفي الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وفي جامعة الملك عبد العزيز، واقترح ذلك في كل جامعة شارك فيها.

مادة نظام الإسلام: أن يُنظر إلى الإسلام كلِّه شاملًا، ويُدرس على هذا الأساس.

وهو قد شارك في هذا وألّف في هذا بالفعل، وقد نال تأليفه في هذا الموضوع إعجاب كثيرين من أهل الشرق والغرب، وحتى من المستشرقين أنفسهم على قلَّة المنصفين منهم... هذه النظرة الشاملة يتميَّز بها تفكير الأستاذ المبارك، ومؤلفات الأستاذ المبارك.

اعتداله وتوازنه:

كذلك يتميز الأستاذ المبارك بالاعتدال، والتوازن... إنه يجتهد أن يحكم بين المختلفين بالقسط، ولا يقف مع طرف ضدَّ طرف آخر... إنه يحاول أن يقف الموقف الذي وصف الله به أمة الإسلام: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا} [البقرة: 143].

إنه في المواقف التي يقف الناس فيها عادة كلٌّ منهم في طرف يحارب الآخر، كمعارك الصوفية والسلفية، أو المذهبية واللامذهبية أو غير ذلك، نجده يقف الموقف المعتدل الذي ينبع من روح الإسلام، ومن فلسفة الإسلام، فلسفة الوسطية في الإسلام، وفلسفة التوازن في الإسلام.

دعوته إلى تسليف الصوفيين وتصويف السلفيين:

ومن كلماته اللطيفة التي سمعتها منه أخيرًا أن يقول مع جماعة الصوفيين وجماعة السلفيين: «إن منهجي هو تسليف الصوفيين وتصويف السلفيين»، أي: أن هناك بعض السلفيين فيهم نوع من الجفاف الروحي، وهناك كثير من الصوفية أيضًا فيهم من التخريف والبعد عن العقائد الصحيحة، فلا بدَّ من قّدْر مشترك، لا بدّ من أن تطعّم الصوفية بالسلفية المعتدلة المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله، ولا بدّ أن تطعّم السلفية بقَدْر من الروحانيَّة المُشرقة المعتدلة. وهكذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم، فهؤلاء لم يكونوا مجرَّد أناس مجادلين في العقائد، بل كانوا ربَّانيين، أهل روحانية وإشراق.

على هذا المنهج سار الأستاذ المبارك، وأصدر بضعة عشر مؤلفًا، وما زال والحمد لله مستمرًا في تأليفه.

ونسأل الله تعالى أن يبارك في عمره، وأن يؤيده بروح من لدنه، حتى نرى منه الكثير الطيّب.

إيها الإخوة: إنها فرصة طيبة أن نستمتع ونسعد بالأستاذ المبارك أستاذًا زائرًا لهذه الكلية، ومحاضرًا في هذه الليلة الطيبة، ونافعًا دائمًا ومباركًا كاسمه... نسأل الله أن ينفع به، وأن يعزّه ويعزّ به، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كانت هذه كلمتي التي ارتجلتها في تقديم الأستاذ المبارك في محاضرته بكلية التربية في قطر رحمه الله .