الحياة الشخصية للعلماء وموضع الأسوة فيها

لا أريد أن أشغل قارئ هذه السيرة والمسيرة بأموري الخاصة، فقد لا يهم القارئ العادي أن تتزوَّج بناتي أو لا يتزوجن.

ولكني أكتب في هذه المذكرات الأمور التي تهمني وتشغل عقلي وقلبي، باعتباري عالمًا، وباعتباري زوجًا، وباعتباري أبًا، وباعتباري إنسانًا.

وإنما أذكر من الأمور الشخصية والأمور الأسرية: ما أرى أن فيه عبرة قد يستفيد منها قارئها. فالحياة الشخصية للعلماء وأصحاب الدعوات، ليست ملكًا خاصًا لهم. بل فيها جزء لا يجوز أن يقتحمه الناس، ولا أن يخترقوا أسواره، وهو بينهم وبين ربهم سبحانه، يحاسبهم عليه وحده.

وفيها جزء آخر كثيرًا ما يكون فيه أسوة للناس، يقتبسون منه، وينتفعون به، كما قال الله تعالى في شأن رسوله الكريم: {لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا} [الأحزاب: 21].

والعلماء ورثة الأنبياء، والأصل أن يكون فيهم من الأسوة، بقدر ما فيهم من وراثة النبوة.

كل أحد يؤخذ من قوله وعمله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم

على ألا يُنسى الأصل الأصيل الذي قرَّره سلف الأمة، وهو: أن كل أحد يؤخذ من كلامه وكذلك من عمله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم . فهو وحده المعصوم من المعاصي، والمعصوم من خطأ الرأي، حتى لو أخطأ في اجتهاده، نزل الوحي، يُصَوِّب خطأه، حتى لا يصبح شرعًا يأخذ الناس به.

بناتي قطعة من قلبي وفلذة من كبدي

وعلى ضوء هذه الحقائق الناصعة: أتحدَّث عن زواج بناتي الأربع، وكل واحدة منهنَّ: قطعة من قلبي، وفلذة من كبدي، كما قال صلى الله عليه وسلم : «إن فاطمة بضعة مني، يربيني ما يربيها...».

وكذلك بناتنا وأبناؤنا هم كما قال الشاعر العربي:

لَوْلا بُنيَّات كَزُغْب القطا

رُدِدْنَ من بعض إلى بعضِ

لكان لي مُضْطرب واسع

في الأرض ذات الطول والعرض

وإنما أولادنا بيننا

أكبادنا تمشي على الأرض

لو هَبّت الريحُ على بعضهم

لامتنعت عيني من الغمْض

 

وهذا من ثمرات الإسلام، بعد أن كانت البنات يُؤدن في الجاهلية، وتعتبر ولادتهنَّ مصيبة على الأسرة، كما قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِٱلۡأُنثَىٰ ظَلَّ وَجۡهُهُۥ مُسۡوَدّٗا وَهُوَ كَظِيمٞ * يَتَوَٰرَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ مِن سُوٓءِ مَا بُشِّرَ بِهِۦٓۚ أَيُمۡسِكُهُۥ عَلَىٰ هُونٍ أَمۡ يَدُسُّهُۥ فِي ٱلتُّرَابِۗ أَلَا سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ} [النحل: 58، 59].

وكثيرًا ما كان الخيار الثاني ينتصر، وهو الدسُّ في التراب. كما قال تعالى: {وَإِذَا ٱلۡمَوۡءُۥدَةُ سُئِلَتۡ * بِأَيِّ ذَنۢبٖ قُتِلَتۡ} [التكوير: 8، 9].

زوج ابنتي سهام

في أوائل شهر يونيو 1981م، اتَّصل بي الأخ الفاضل الأستاذ عبد العليم عبد الستار المحاضر بمعهد الإدارة في الدوحة، وهو شقيق أخينا الكبير وشيخنا الجليل الشيخ عبد المعز عبد الستار، وقال لي: أريد أن أتشرف بزيارتكم الليلة، ومعي أم هشام زوجتي، فهل لديكم مانع؟

قلت: مرحبًا بكم في أيِّ وقت، فالدار داركم، ونحن أهلُ وأخوة.

وأخبرت زوجتي، وقلت لها: يبدوا أنَّ هذه الزيارة لهدف مُعيَّن، وهو خطبة إحدى البنات، وإلا ما ذكر أن أم هشام ستكون معه.

وفي الوقت المحدَّد، حضر الأستاذ عبد العليم ومعه زوجته السيدة صفيَّة موجهة الرياضيات، التي أصبحت بعد ذلك رئيسة تعليم البنات في قطر.

وبعد اللقاء والترحيب، وتقديم المرطبات ونحوها، قال الأستاذ: دون تطويل في المقدمات، نحن جئنا لنطلب يد ابنتكم - وهي ابنتنا أيضًا - سهام، لابننا - وابنكم - هشام، ابننا الأكبر، وهو قد تخرج في كلية الطب، ويقضي سنوات الجندية الإجبارية في الجيش في مصر، وسينهيها بعد عدة أشهر، وبعدها سيأتي للعمل في قطر إن شاء الله.

قلت: ولكنه لم ير البنت ولم تره، والرسول الكريم يأمر الخاطب بأن يرى مخطوبته قبل الإقدام على الزواج، ولم يعد الشاب في عصرنا يكتفي برؤية أهله ورأيهم فيمن يتقدم إليها.

قالوا: نحن نريد حجز «المقعد» قبل أن يأخذه غيرنا، نريد أن نتفق على المبدأ، وبعد ذلك يتم كل شيء في موعده.

وقبلنا ذلك أن نتفق مجرَّد اتفاق مبدئي، وبعد الرؤية واللقاء بين الخاطب ومخطوبته، يتمُّ الاتفاق على التفاصيل.

موقفي من خطبة البنت الصغرى قبل الكبرى

وقال الأستاذ عبد العليم: كنت أخشى أن ترفض خطبة سهام قبل أختها الكبرى إلهام، كما يفعل بعضُ الناس.

قلت: ليس ذلك مبدئي، بل مَن يجيء لها كفؤها، أقبله إذا رضيت به، ولا أُعطِّل واحدة من أجل أخرى، وسيأتي لأختها نصيبها في وقته المقدَّر إن شاء الله، ولا سيما أن بين سهام وأختها الكبرى - إلهام - أحد عشر شهرًا، وقد دخلتا المدرسة في سنة واحدة، وأخذتا الثانوية معًا، والبكالوريوس معًان وعُيينتا معيدتين بالجامعة في قرار واحد.

وبعد أن انتهى العام الدراسي، وسافرنا إلى القاهرة، كان لا بد أن يرى هشام «سهام» الرؤية الشرعية... وفعلًا التقيا في بيتنا في مدينة نصر، وتحدَّث إليها وتحدَّثت إليه، واستراح كلٌ منهما إلى صاحبه، وقال هشام بعد جلسته مع سهام: يا عمي أنا موافق بكل رضا وسرور على سهام، وأدعو الله أن يتمَّ زواجنا على خير، وأرجو أن تكون هي كذلك. وأعلنت سهام موافقتها كذلك.

اعتباري هدية الشبكة من المهر المطلوب

وبدأنا الإجراءات، وشراء الشبكة، وهي هدية معروفة عند المصريين قبل الزواج، كثيرًا ما تكون من الذهب أو الماس، وما يدفعه الخاطب في هذه الشبكة أعتبره أنا هو المهر المطلوب منه.

والحقيقة أني لا أطلب مهرًا محدَّدًا، ولا أشترط مبلغًا معيِّنًا، فما يدفعه الخاطب أو أهله، أقبله، وأكمل عليه إن لم يكن كافيًّا.

وفعلًا دفع والد هشام مبلغًا، وذهبت زوجتي أم محمد ومعها سهام، ومعهما العريس ليشتروا الشبكة... وقلت لزوجتي: ما تريده سهام، اشتروه لها، ولا تبخلوا عليها، ولا تكلِّفوا العريس فوق طاقته... وتمَّ شراء الشبكة المطلوبة وَفْق رغبة العروس، بحمد الله.

ارتباطي بالواجبات الرمضانية

أما الاحتفال بالخطبة والشبكة، فأُجل إلى ما بعد رمضان، حيث كنت أعود إلى الدوحة في رمضان، وأدع الأهل والأولاد في مصر. إذ كنت مرتبطًا بواجبات رمضانية، لا يسعني أن أتخلَّف عنها، منها: درس العصر في مسجد الأمير، ومنها: صلاة التراويح بجزء من القرآن في مسجد الشيوخ، وإلقاء درس التفسير بعد الركعات الأربع من التراويح.

الاحتفال بخطبة سهام

وبعد قضاء شهر رمضان في الدوحة، عدت، لأعيّد مع الأسرة في مصر، وقد حدَّدنا الاحتفال بخطبة سهام وشبكتها في 4 شوال 1401هـ (4/8/1981م).

وكانت ليلة من أجمل الليالي، أقمناها في منزلنا بمدينة نصر، وكان الحفل في الطابق الأول، وهو فارغ تمامًا، قبل أن يتحوَّل معظمه إلى مكتبة، واقتصر على الأهل والأقارب من العائلتين.

تأخر عقد سهام

أما العقد فقد تأخَّر قليلًا، حتى أنهى هشام بقية فترة تجنيده في الجيش، وهي ثلاث سنوات، فقد كان الجامعيون الذين يدخلون الجيش، إذا عملوا جنودًا تكون مدتهم سنة فقط، وإذا عملوا ضباطًا تكون مدتهم ثلاث سنوات. وقد دخل هشام الخدمة ضابطًا، وبعدها قدم هشام إلى قطر ليعمل طبيبًا في مستشفى حمد بالدوحة. وكانت ابنتي إلهام قد خطبت، فتم عقدهما في يوم واحد، كما سأحكي بعد.

زواج إلهام

في مساء يوم من أيام شهر مايو من سنة 1982م، اتصل بي هاتفيًا: الأخ الكريم الأستاذ عبد اللطيف مكي رحمه الله ، وقال: أريد أن أتشرَّف بزيارتكم، ومعي الحاجة أم سيف، فهل يناسبكم أن نزوركم الليلة؟ الساعة الثامنة؟

قلت: على الرَّحب والسِّعة، الدار داركم، والجميع منكم وإليكم.

وأدركت المقصود، وقلت لأم محمد: الحاجة عبد اللطيف اتصل، وقال كذا وكذا، وأعتقد أنهم قادمون لخطبة إلهام لابنهم د. سيف.

قالت: هذا هو المفهوم، وربما كان هناك سبب آخر لا نعلمه.

قلت: قوله: سآتي أنا والحاجة أم سيف يُؤْذن بالمطلوب.

وفي الساعة الثامنة، حضر أخونا العزيز وزوجته، وهي امرأة فاضلة، لم يعرف عنها إلا كل خير، وهي من عائلة إسلامية معروفة بنصرة الدعوة الإسلامية، وشقيقها المهندس سيد أبو النور، الذي عُرف ببلائه في دعوة الإخوان، ويعرفه كثيرون.

بعد تبادل التحيات والمجاملات، قالوا: لا نريد أن نطيل في المقدِّمات، لقد جئنا لنطلب يد ابنتنا إلهام لأبنكم أحمد سيف الإسلام.

قلت: لقد أحسنتم التعبير، إنَّ إلهام هي ابنتكم، وإنَّ أحمد هو ابننا، ولقد عرفته منذ سنوات مع الشباب المسلم في القاهرة، وسُررت به، وسمعت من إخوانه وزملائه ثناءً عاطرًا عليه وعلى أخلاقه وسلوكه... ولن أجد لابنتي زوجًا أفضل منه أأتمنه عليها، كما لن أجد أصهارًا خيرًا منكم دينًا وخلقًا وفضلًا، وأعتقد أن هذا هو رأي أم محمد، قالت: نعم بلا شك.

أخذ رأي البنت في الخطبة

قلت: ولكن الشرع يوجب علينا أن نأخذ رأي البنت، فلا يجوز شرعًا أن يزوَّج الأب ابنته من يشاء هو، لا من تشاء هي. وفي التعاليم النبوية المشهورة: «البكر تستأذن، وإذنها صماتها»(1). واعتقادي أنَّ ابنتي لن تقول: لا، فإذا وافقت على المبدأ، يسّرنا لهما لقاء يرى فيه كلاهما الآخر، ويتحدث إليه ويسمع منه.

عادة أهل الخليج في منع الخاطب من رؤيته مخطوبته إلا ليلة الزفاف

فهذا ما جاء به الشرع، وما علَّمَناه رسول الإسلام، والخير كل الخير في اتباع هذه التعاليم. ولا نفعل ما يفله أهل الخليج هنا، حيث لا يرى الخاطب مخطوبته إلا ليلة الزفاف، حتى بعد عقد العقد عليها، وأنها أصبحت زوجته شرعًا: لا يراها ولا تراه، مع أنها ترى كل الناس، ترى أساتذتها في الجامعة، وترى الرجال في السوق، إذا باعت أو اشترت، وتراهم في الطائرة إذا سافرت. رجل واحد - فقط - لا يراها، وزوجها المسكين!

قالوا: ونحن موافقون كل الموافقة على هذا، ونحن أولى الناس بتطبيق أحكام الشرع.

وقد تغيرت عادة أهل الخليج الآن، وصاروا يصرحون للخاطب برؤية مخطوبته.

الأستاذ عبد اللطيف مكي

وكان الأستاذ عبد اللطيف مكي من إخواننا المصريين الذين سبقونا إلى قطر في الخمسينيات من القرن العشرين مع الأساتذة: كمال ناجي، وعز الدين إبراهيم، وعلي شحاته، وعبد الحليم أبو شقة، وحسن المعايرجي، ومحمد الشافعي، وغيرهم... وقد عملوا جميعًا في وزارة المعارف، التي كان يعمل مديرًا للمعارف بها أخونا الداعية المعروف الأستاذ عبد البديع صقر، وكان مكّي قبل مجيئه إلى قطر، يعمل مع الدكتور سعيد رمضان في مجلة «المسلمون»، وكان قريبًا من الأستاذ البنا، وقد سمَّى ابنه الأول على اسم ابنه أحمد سيف الإسلام.

وقد عمل الأستاذ مكي رئيسًا لقسم التغذية بالوزارة، وكان محمود السيرة، مُحَبَّبًا إلى الناس من القطريين وغيرهم، يألف ويؤلف... وقد جاء إلى قطر وابنه أحمد سيف الإسلام عمره سنة واحدة، وأكمل تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في قطر، وحصل على الثانوية من قطر، وكان ترتيبه فيها الأول على القسم العلمي.

ثم دخل كلية الطب بجامعة القاهرة، وكان من طلاب الجماعة الإسلامية فيها، وإن لم يندمج معهم تمامًا، ولكنهم كانوا يحبُّونه لاستقامته، وصفاء نفسه، ودمائة خُلُقِه، كما أخبرني بذلك أحد البارزين منهم، وهو الأخ عبد الرحمن سعودي (الدكتور عبد الرحمن بعد ذلك) فكَّ الله أسره(2).

من أعظم نعم الله على الأب أن يوفق في تزويج بناته

ولذلك لم يكن غريبًا أن أرحب بهذه الخطبة، وأن أهش لهذه المصاهرة، فإن من أعظم نعم الله على الأب أن يوفِّق في تزويج بناته، فيطمئن إلى الرجل الذي يسلم إليه فلذة كبده. وفي المثل: «اخطب لبنتك قبل أن تخطب لابنك» والخطبة هنا تعني تحرِّي الصالحين من الشباب والاقتراب منهم، وليس من الضروري أن تقول له: عندي بنت ملائمة لك. فربما لا يناسب هذا عصرنا ... وقد فعلها سيدنا عمر حين عرض حفصة على أبي بكرة وعلى عثمان. أما اليوم فما أظنُّ ذلك يقبله منطق هذا الزمان، وفعلها أحد إخواننا، فعيّره من أصهر إليه بأنك أنت الذي عَرَضْت عليّ ابنتك!!

لقد وفَّقني الله في زواج سهام من شاب كفء كريم، والإصهار إلى عائلة كريمة عزيزة... واليوم تلحق بها شقيقتها إلهام، والحمد لله الذي اختار لبناتي مَنْ أحب من الأخيار.

إلهام وسهام

كانت إلهام وسهام أشبه ما يكونان بالتوءمين. لقد كان بينهما في السن أقل من اثني عشر شهرًا، ولكنهما دخلتا المدرسة الابتدائية معًا، وحصلتا على الشهادة الابتدائية ثم الإعدادية معًا، وكانتا دائمًا في مدرسة واحدة وفي صف واحد، وفي السنة الثانية الثانوية وهي سنة التشعيب الدراسي ما بين أدبي وعلمي، اختارتا العلمي معًا، وحصلتا على الشهادة الثانوية معًا، ودخلتا جامعة قطر معًا، واختارتا كلية العلوم معًا، وإن كانت إلهام اختارت قسم الفيزياء، وسهام اختارت قسم الكيمياء. ونجحتا معًا بامتياز في قسميهما، وعُيِّينتا معيدتَين في قرار واحد، وشاء الله أن يعقد قرانهما في يوم واحد، وأن يتم زفافهما في أسبوع واحد، وإن شئت قلت: بينهما أسبوع واحد.

حفل عقد قران إلهام وسهام

ففي بداية الشهر السادس تمَّ عقد قران ابنتي إلهام وسهام في منزلنا بالدوحة وكنَّا نسكن بيتًا فيه ساحة فسيحة تتسع لمثل هذه الأحفال، وقد دعونا عددًا لا بأس به من الأقارب والمحبين والشخصيات القطرية والمقيمة في قطر، كما هي السنة في الإعلان عن الزواج وشهره... وعقد العقد صديقنا القاضي الفاضل، والكاتب الإسلامي المعروف: الشيخ عبد القادر العمَّاري حفظه الله. وقلنا لأحمد ولهشام كما قال لهما الحضور: «بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير»، وهي التهنئة التي علمها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم(3)، بدل تهنئة الجاهلية التي كانوا يقولون فيها: بالرّفاء والبنين، إذ كانوا لا يحبون البنات، فيتمنون أن ينجب العروسان بنين فقط، وهو خطأ جوهريَّ من غير شك، فإنَّ الحياة لا تقوم إلا على الزوجين: الذكر والأنثى، ولو اقتصر الناس على إنجاب البنين، لفنيت البشرية بعد جيل واحد!

موقفي من المهر المؤخر

سألني الشيخ عبد القادر:ما قيمة المهر المؤخر؟ قلت: ولا درهم. قال: جرى عرف الناس: أن يكتبوا مهرًا مؤخرًا، وفي العادة يكون كبيرًا، حتى يكون قيدًا يمنع الزوج من التفكير في الانفصال، أو في مضارِّة الزوجة، ونحو ذلك.

قلت له: أما أنا فقد اخترت لابنتي رجلًا أراه كفئًا لها وأمينًا عليها... فإذا كان عند حُسن الظنَّ به، فالحمد لله، وإذا ظهر على غير ما أحسنت الظن به، وتبيَّن أنه رجل سوء، فخيبة أملي فيه لا يعوَّضها شيء لا مؤخر ولا غير مؤخر، بل إني حينذاك سأحرص على تخليص ابنتي من سوئه، ولا أريد منه شيئًا غير تحرُّرها منه.

قال الشيخ عبد القادر: نِعم الصهر أنت، وإنَّ موقفك لجدير أن يسجَّل!

وأحمد الله أني عاملت أزواج بناتي جميعًا بهذه الروح، وبهذه الطريقة، وكانوا جميعًا عند حُسْن الظنَّ بهم، وفوق حُسْن الظن، ولله الحمد والمنة.

زفاف سهام ثم إلهام

وفي 6/1/1983م تمَّ زفاف سهام في حفل بهيج.

وبعد أسبوع من زفاف سهام، كان زفاف إلهام، في نفس المنزل وبنفس الطريقة، وكان كلاهما حفلًا بهيجًا، حضره الأقارب والأحباب. وتمّ أمرهما على خير ما نُحب ويحب العروسان، كما نرجو أن يكون قد تم على ما يحب الله ويرضى.

رسالة فريدة إليّ من سهام بعد زواجها

بعد زواج سهام بأيام قليلة، فوجئت برسالة سطرتها إليّ سهام ابنتي بعد انتقالها من بيت أبيها، إلى بيت زوجها، وهي رسالة فريدة من نوعها، مهمة في موضوعها بليغة في معانيها... ولا أدري كيف خطرت لها فكرتها، ولعلها لا تذكرها الآن... فهي رسالة شكر وامتنان وعرفان بالجميل للبيت الذي قَضَت فيه طفولتها وصباها وبداية شبابها، وأنهت فيه مراحل تعليمها كلها، من الابتدائية إلى الجامعة، حتى عُينت معيدة في كليتها، وحتى انتهت بزواجها من زوج كفء كريم... إنها تعترف بالفضل لهذا البيت ولربّ هذا البيت، الأب الذي أورثها كل المكارم والفضائل التي هي من أعظم النعم على عباد الله.

الحقيقة أني سُررت بالرسالة كل السرور، وأُعجبت بها كل الإعجاب، وظللت أقرؤها مرة ومرة، حتى حفظتها، أو كدت أحفظها، وظللت محتفظًا بها بين أوراقي، كلما صادفتني فتحتها وأعدت قراءتها، ثم ضاعت مني منذ سنوات فيما ضاع من أوراق، نظرًا لازدحام الأوراق وتراكمها عندي، وعدم ترتيبها، وعدم وجود أي «أرشفة» لها، فلم يكن معي أي مساعد أو سكرتير يساعدني، ولا سيما مع انتقالنا من منزل إلى آخر.

سر اهتمامي برسالة ابنتي سهام

وسرُّ اهتمامي بهذه الرسالة: أنها نموذج يحتذي في العرفان بجميل الآباء والأمهات فكثيرًا ما ينسى الأبناء والبنات بمجرَّد زواجهم وتسلَّم وظائفهم: دور الآباء والأمهات، ولا سيما دور الآباء، فدور الأم ظاهر عادة غير منسي، ومعروف غير منكور، ودور الأب هو الذي كثيرًا ما ينسى.

كما أن هذه الرسالة بينت لي: أنَّ الإنسان مهما بلغت منزلته يظل في حاجة إلى من يقول له: شكرًا، وتسره هذه الكلمة، وتقع من نفسه موقعًا.

ولهذا قال الرسول الكريم: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس»(4). ويقول الشاعر:

ولو كان يَسْتَغْنى عن الشُّكر ماجدٌ         لعزَّة ملك أو لرفعة شأن

لما أمر الله العباد بشكره             وقال: اشكروا لي أيها الثقلان

قالت سهام في رسالتها البليغة المرتبة:

لقد انتقلت من بيت الأب إلى بيت الزوج، انتقلت من البيت الذي قضيت فيه أحلى طفولة، وأجمل صبا، وأروع شباب، لأنتقل إلى بيت جديد، أدعو الله أن يكون بيتًا سعيدًا موفقًا، وأن يعوضني خيرًا بخير.

وهنا يا أبي الحبيب، أودُّ أن أقول كلمات أُعبِّر لك فيها عن عميق إحساسي ومشاعري، وهذه أول رسالة أكتبها إليك، أشكرك كل الشكر - بعد شكر الله تعالى - على كل ما قدمته إلينا - أنا وأخواتي - وأورثتنا إياه، مما يحتاج إليه كثيرون ولا يجدونه.

1 - لقد أورثتنا أول ما أورثتنا، الدين، فنشأنا على طاعة الله سبحانه، بأداء فرائضه، واجتناب نواهيه، وما زلت أذكر أنك عوَّدت أسرتنا: أن تحتفل بكلِّ طفل إذا بلغ السابعة، لأنها سنُّ الصلاة، وعند العاشرة، لأنها سنُّ الضرب على الصلاة، وعند الخامسة عشر، لأنها سنُّ التكليف... وكثيرًا ما كنا نصلِّي وراءك الصلوات في جماعة، وفي رمضان كثيرًا ما كنا نصلِّي خلفك التراويح.

2 - وأورثتنا: العلم والتفوُّق فيه، فكنت المثلَ الأعلى لنا.وغرست فينا حبَّ التفوق والامتياز، ولا أنسى أنك كنت تقول لنا من الصغر: «النجاح ليس هو المطلوب كل الناس ينجحون حتى البُلداء والأغبياء، المهم عندي هو التفوُّق، أن تكونوا أوائل صفوفكم دائمًا»، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه.

3 - وأورثتنا: الأدب وحسن الخلق، فقد غرست فينا: أنَّ العلم إذا لم يثمر خُلقًا حسنًا، وأدبًا في التعامل مع الناس، فهو علم غير نافع. ومما أذكره من قول أمي حفظها الله: إن أباكم الذي نشأ في القرية لم أسمع منه طوال حياتي كلمة «عيب» واحدة.

4 - وأورثتنا كذلك المحبة فيما بيننا، لأنك عاملتنا جميعًا معاملة واحدة، تسوي فيها بين الجميع... لم نرك يومًا فضَّلت ذكرًا على أنثى، أو أنثى على ذكر، أو صغيرًا على كبير أو العكس، بل تعاملنا جميعًا بروح واحدة، وتُوصينا جميعًا بأن يحب بعضنا بعضًا.

5 - وأورثتنا كذلك يا أبي: المجد، فحيثما ذهبت في مشرق أو مغرب، ورأى الناس اسمي قالوا: هل أنت بنت فلان؟ وأكرموني، وكادوا يحملونني على رءوسهم، فقد أصبح اسمك عَلَمًا في كل مكان، وهو مفخرة لنا.

6 - بل أقول أيضًا: أورثتنا المال، فنحن بفضل الله تعالى، ثم بفضلك، عشنا في بحبوحة، ونعم الله علينا سابغة، لما أفاء الله عليك من مال، كوَّنته بعرق الجبين، وكد اليمين وسهر الليل.

كل هذه المكارم والنِّعم يا أبي قد أورثتنا إيَّاها... ولا يمكنني هنا أن أنسى فضل أمي التي أعطتنا من حبَّها وعطفها وسهرها وتعبها ويقظتها وحُسن تربيتها لنا، وإشرافها علينا، حتى كانت تخيط لنا ملابسنا، ونظهر في أجمل صورة وأرقاها، ومع هذا أقول: أنت لك الفضل أيضًا: أنك أحسنت اختيار أمنا.

فشكرًا شكرًا لك يا أبي، وشكرًا شكرًا لأمي، ولا أستطيع أن أكافئك أو أكافئها، كل ما أستطيع أن أدعو لكما بطول العمر، ودوام الصحة والعافية، وراحة البال، ودوام التوفيق فيما تقوم به من مهمات لخدمة الدين والعلم والإسلام.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

هذه رسالة سهام، بكل محاورها ومعانيها، ربما أكون قد عبَّرت فيها أحيانًا بعبارات من عندي لطول الزمن، ولا أملك أنا أيضًا إلا أن أدعو الله لها ولأخواتها وإخوانها بالتوفيق والسَّداد، وتوفير أساب الخير والسعادة لهم ولذرياتهم وأزواجهم في الدنيا والآخرة. {رَبَّنَا هَبۡ لَنَا مِنۡ أَزۡوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعۡيُنٖ وَٱجۡعَلۡنَا لِلۡمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]. كما أدعو لوالدتهم أم محمد أن يجزيها الله خيرًا في الدنيا والآخرة عما قدمت.

زواج ابنتي عُلا

بعد زواج ابنتي البكر إلهام، وشقيقتها سهام من زوجين كريمين، والإصهار إلى أسرتين فاضلتين، والاطمئنان عليهما في حياتهما الزوجية، كان الدور على ابنتي الثالثة «علا»، وليس أسعد للأب ولا أقرَّ لعينه من أن يزوِّج بناته من رجال ثقات يرضى دينهم وخلقهم.

لقد تخرجت عُلا كما تخرجت أختاها في كلية العلوم جامعة قطر بدرجة امتياز، وكانت الأولى على كلية العلوم، والثانية على جامعة قطر، بكلياتها العلمية والأدبية، وإن لم تعيِّن في وظيفة معيدة، لأن الجامعة توسَّعت في تعيين المعيدات في السنوات الأولى أكثر مما ينبغي، حتى عيَّنت بعض الحاصلات على درجة جيد جدًا، بل درجة جيد في بعض الأحيان، حرصًا على ملء الخانات الفارغة، ومسابقة الزمن، وكنت ممن يعارض هذا التوسُّع، لأنه سيكون على حساب الأفواج القادمة.

وفعلًا كانت عُلا ودفعتها برغم حصولهنَّ على الامتياز، والامتياز المرتفع، لم يجدن مكانًا لهنَّ في الجامعة.

فسلكت علا طريقًا آخر خارج الجامعة، في مختبرات مستشفى حمد الطبي، ثم مركز البحوث العلمية والتطبيقية في الجامعة.

تقدَّم لخطبة علا، وهي في قطر، مهندس مدني مقيم في القاهرة، والده أستاذ جامعي معروف، وكان يعمل وقتها رئيسًا لقسم الكيمياء في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، وهو صديق قديم عزيز أعرفه من سنين، كما أنَّ زوجته والدة الشاب المهندس صديقة قديمة لزوجتي، كانتا زميلتين أيام الدراسة في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، وهي سمنوديَّة مثل زوجتي، والأب من مركز سمنود، وتعلم في مدارس سمنود، وكان زميلًا لسامي صهري.

ويبدو أنَّ هذه الروابط والعوامل كلها، كانت من المرجِّحات عند علا: أن تختار هذا المهندس على طبيب من أبناء الصحوة الإسلامية قد تتقدَّم لها بعد أن صلَّت صلاة الاستخارة، كما هو المشروع في مثل هذه الأحوال، وقد وجدت صدرها منشرحًا لهذا الأمر، وكان الخير فيما اختاره الله.

الصهر الثالث: حسام الدين خلف

كان الشاب المهندس، وهو زوج علا الآن: المهندس حسام الدين علي علي خلف، الذي قضى صباه في أمريكا مع والده، حين كان يدرس هناك للحصول على الدكتوراه، ثم عاد إلى مصر وحصل على بكالوريوس الهندسة المدنية من جامعة أسيوط في مصر وهو الآن يسعى للحصول على ماجستير من أمريكا.

الدكتور علي علي خلف

أما والده، فهو الأخ الحبيب، والصديق الكريم الأستاذ الدكتور علي علي خلف، الذي أعرفه منذ كان طالبًا في المدرسة الثانوية في سمنوّد، حيث كان مع عدد من زملائه من شباب الدعوة الإسلامية، ثم شاء الله أن يتزوج من مجيدة، كريمة الفقيه المعروف الشيخ بدر المتولي عبد الباسط... ثم قدَّر لي أن أتزوَّج من صديقتها إسعاد عبد الجواد، وأن نلتقي مرة أخرى في سمنود، ثم يتزوَّج كلانا ويندمج في حياته الوظيفية، ويذهب هو إلى الولايات المتحدة للحصول على الدكتوراه، وأذهب إلى الأزهر، ثم إلى قطر، حتى قدَّر الله أن نلتقي مرة أخرى، ونتزاور، ولا سيما أنه وأسرته كانوا من سكان مدينة نصر، حيث يملكون شقة في شارع الطيران.

وبمجرد التزاور اكتشفوا أن عندنا عروسًا مناسبة لحسام، وكل أبوين يبحثان لابنهما عن بنت الحلال، التي تسرُّه إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، وتحفظه إذا غاب في نفسه وماله، وكأنما وجدت الأسرة ضالتها في عُلا. ويبدو أن حسامًا لم يكن قدر رآها، كما ينبغي، فإذا هم يطلبون زيارتنا، ويلحُّون عليها، وكنا على سفر، ومشغولين بالتجهيز للسفر، ولكنهم كرروا الطلب، فلم يكن لنا بدَّ من الاستجابة.

وقلت لزوجتي: كأنَّ هذه الزيارة زيارة خطبة، أو تعرُّف للخطبة.

قالت: كيف عرفت ذلك؟

قلت لها: عرفت بالإحساس الأبوي، وبالقرائن، وبالإلحاح في الزيارة، مع أننا زرناهم وزارونا قبل ذلك!

وكان ما توقعته في محله، وكان همس حول الموضوع، دون الدخول مباشرة فيه.

وظل الأمر مُعلقًا، حتى نهاية العام الدراسي، وقد تخرجت علا بامتياز، وعدنا إلى القاهرة في الإجازة الصيفية، وتقدَّم الشابان كلاهما خاطبين: الطبيب والمهندس، وتركنا لكلَّ من الخاطبين الفرصة أن يلقي كلٍّ منهما البنت ويتحدث إليها وتتحدَّث إليه.

وظهر من كلام الطبيب: أنه لا يريد من عُلا أن تعمل، وأنه يرى أن العمل مضادُّ لوظيفة المرأة، باعتبارها زوجة، وباعتبارها أمًا، وأنه لم يشعر بحقيقة الأمومة من والدته، نظرًا لأنها طبيبة ناجحة، وعملها يشغل وقتها وجهدها، فلا يكاد يبقى شيء لأولادها. قال: ولذا كنت إذا تحيَّرت في شيء أو احتجت إلى رأي أو مساندة، لا ألجأ إلى والديَّ، ولكن ألجأ إلى جدَّتي وجدِّي، فكانت جدَّتي هي أمي الواقعية، وجدِّي هو أبي، ولا أريد أن يكون حظ أولادي في الحياة مثل حظي.

وكانت هذه صدمة لابنتي، وقد قالت له: أنا لست مُصرة على العمل، ولا مستميتة من أجله، ولكن أرى أن يُترك لي الخيار في ذلك، فقد يوجد من العمل ما لا يستغرق كل الوقت وكل الجهد كالطب، وفي هذه الحال نتشاور فيما يمكن عمله. قال لها: ترك العمل شرطي الوحيد، ولا شرط لي غيره. قالت: هذا ما لا أستطيع أن أوافق عليه بسهولة.

وقد حسم هذا الموقف التردُّد الذي كان لدى علا بين الخاطبين، وقررت اختيار حسام على بصيرة. ولعل هذا وافق هوى في الأسرة، نظرًا لمودتنا القديمة لأبوي حسام، ومن الخير أن يُصهر المرء إلى أسرة يعرفها وتعرفه، ويألفها وتألفه، ويكون هذا مزيدًا من الضمان لنجاح الزواج. وهذا لا يعني طعنًا أو تنقصًا من أسرة الخاطب الآخر، فقد كانوا نِعْم الناس، ونعْمت الأسرة، ولكن على كل حال ليس بيننا وبينها أي صلة من قبل.

على أن ابننا الطبيب الذي لم يقدَّر له نصيب مع ابنتي، ظلَّ على مودة دائمة معي إلى اليوم، ولم يتغيَّر وده القديم، فقد بدأ لله، وما كان لله دام واتصل. والزواج - كما يقولون - قسمة ونصيب.

خطبة عُلا وحفلة العقد

وفي أوائل شهر أغسطس 1983 تمَّت الخطبة، وقرأنا الفاتحة، وقدمت «الشبكة» التي اعتادها المصريون.

وكان لا بدّ أن نعقد العقد، ونحتفل بذلك احتفالًا يليق بمنزلة الأسرتين، ويكون فرصة لاجتماع الأصدقاء والأحباب في هذه المناسبة الطيبة.

وحددنا موعد الاحتفال بعد قليل في فندق «سونستا» بمدينة نصر، بعد أن عقدنا العقد في منزلنا، بحضور عدد من أقرباء العائلتين، على رأسهم جد العريس العالم الجليل الفقيه الحنفي الشيخ بدر متولي عبد الباسط، الذي طلبت منه أن يتولى العقد بنفسه ولكنه -لفضله وعُلو قدره- أبى، ووكّل إليّ هذه المهمة رحمه الله .

وفي المساء ذهبنا إلى الاحتفال العام في «سونستا»، وقد خصّصنا مكانًا للنساء داخل الفندق، ومكانًا للرجال حول حمامات السباحة، وقد لبّى دعوتنا عدد كبير من رجال العلم والفكر، ورجالات الدعوة، والأصدقاء، بجوار عدد من الأهل والأقارب لكل من العروسين جاءوا من الريف، فكانت ليلة طيبة قرَّت بها العيون، وشبعت فيها البطون، وابتسمت فيها الثغور، وانشرحت فيها الصدور، وإن لم يكن فيها شيء مما تعوَّده كثير من المصريين من الأغاني والموسيقى، وربما الرقص أيضًا، فمثل هذا لا يليق بالداعيين، كما لا يليق بالمدعويين.

مراعاة العرف في عدم اختلاء الزوج بزوجته قبل حفل الزفاف

وكان أمام العروسين شهر يمكنهما أن يلتقيا فيه، بعد أن أصبحا زوجين شرعيين، ولا مانع أن يذهبا للتنزه أو التفرج وغير ذلك، على أن يصحبهما أحد أشقاء العروس أو شقيقاتها، رعاية لما يقره العرف العام: أن الزوج لا يجوز له أن يختلي خلوة كاملة بزوجته، إلا بعد أن تترك بيت أبيها، وتذهب إليه بيته. وما يقره عرف الناس في ذلك لا ينكره الشرع، وقد قال الناظم:

والعرف في الشرع له اعتبار

لذا عليه الحكم قد يدار

 

وفي منتصف سبتمبر كانت العودة إلى قطر، حيث ابتدأ العام الدراسي، ووجب عليّ أن أعود إلى كليتي بالدوحة، وصهرنا الدكتور علي خلف إلى كليته بجدَّة، وتذهب علا إلى عملها الجديد...

وقد اتفقنا على أن يكون الزفاف في بداية الصيف القادم 1984م إن شاء الله.

وقد تمَّ ذلك بحمد الله، كما اتفقنا، وعادت علا إلى قطر فترة من الزمن، لتقوم بالإجراءات اللازمة لدراسة الماجستير في أمريكا، وقد يسَّر الله تعالى الأسباب، وسهَّل الصّعاب، وتقرَّرت بعثتها إلى أمريكا من دولة قطر، وسافرت هي وزوجها إلى تكساس، لتدرس هي تخصص «البيولوجيا» حول هندسة الوراثة، ويدرس زوجها تخصص «إدارة المشاريع الهندسية»... ودعونا الله لهما بالتوفيق.

زواج ابنتي أسماء

أعجب من الآباء الذين لا يقلقون لزواج بناتهم، ولا يبالون أتأخر بهم القطار أم أسرع. وأعجب منه: أن يعوق بعض الآباء زواج ابنته لغير ضرورات شرعيَّة، وبعضهم لأهداف شخصية: كأن تظلَّ معه لتقوم بخدمته، والأسوأ من ذلك أن يعوق زواجها لأغراض مادية: كأن يستفيد من راتبها، لأنها موظفة.

ولو كانت الأبوة تُسحب لوجب أن تسحب من هؤلاء القساة. وفي برنامج «هدي الإسلام» الذي أقدِّمه في تليفزيون قطر منذ أول السبعينيات من القرن العشرين، تأتيني باستمرار شكاوى من بنات يذرفن الدموع حزنًا وألمًا، من تصُّرفات آبائهن، وأحيانًا أمهاتهن، الذين يقفون في وجه زواجهن من رجال أكفاء تقدَّموا لهن، لا ينقصهم دين ولا خلق، ولا قدرة مالية، ولا منزلة اجتماعية.

مع أن الحديث النبوي يجابههم بقوله الصريح: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض»(5).

تأخر زواج أسماء

أقول هذه بمناسبة زواج ابنتي الصغرى أسماء. لقد كانت هي أول من خطبها خاطب، وهي لا تزال في المرحلة الإعدادية، ثم شاء الله أن تتخرج، وأن تتأخر نسبيًا في زواجها. لقد تقدَّم إليها أكثر من واحد، ولكن لم أجد فيهم الرجل المناسب لها، ولا أحبُّ أن أتعجَّل زواج ابنتي ممَّن لا أثق به وأطمئنّ إليه مائة في المائة... هذه طريقتي، وكلُّ شيخ له طريقته.

وحتى أكون صادقًا مع نفسي، لقد تقدَّم شاب مصري، من شباب الصحوة الإسلامية، تخرَّج حديثًا في كلية الطب، ووالده لواء في الجيش المصري، هو يريد أن يصاهرني، أن يتزوج إحدى بناتي، وإن لم يرها، وكانت ابنتي الثالثة «عُلا» قد خُطبت، ولم يبْق إلا ابنتي الصغرى الرابعة أسماء، وأمام تخرجها سنتان، فقال: أنا لست مستعجلًا، أنا مستعد أن أنتظر سنتين وأكثر.

ولم أعطه وعدًا صريحًا، ولكن الشاب الكريم ظلَّ ينتظر، حتى إذا عرف بتخرج أسماء، أرسل إليَّ يذكِّرني بطلبه أو أرسل أحد إخوانه بذلك، لا أذكر تمامًا، ولكن وجدت أن وجوده في مصر، ووجود ابنتي في قطر، وارتباطها بجامعة قطر، وانتظارها التعيين في كليتها معيدة أو أخصائية علمية، يعوق ارتباطها بشاب يعيش في مصر.

لهذا اعتذرت بلطف للشاب النبيل، الذي لم ير ابنتي، ولم يهتم بذلك كثيرًا، وكأنه مطمئن إلى أنها ستعجبه! وإني لا أزال ألوم نفسي كلما تذكرت موقفي مع ذلك الشاب النبيل، الذي ظلَّ ينتظر ابنتي ولم يكن رآها، وأكرر اعتذاري إليه، وأدعو الله أن يكون قد عوَّضه بزوجة تكون خيرًا له من ابنتي.

ولأني أعتبر نفسي السبب في تأخيرها إلى حدَّ ما، لذا كنت في غاية القلق، كلما مرَّت عليها سنة، ولم يهيئ الله لها الزوج الصالح.

ونحن نقول في المثل: «كل تأخيرة وفيها خيرة»، وكل شيء بأوان. ويقول القرآن: {وَكُلُّ شَيۡءٍ عِندَهُۥ بِمِقۡدَارٍ} [الرعد: 8].

الصهر الرابع الدكتور هشام علي المرسي:

فعندما جاء الأوان، تقدم ابن الحلال الذي كنا ننتظره... إنه الشاب الحركيُّ الصالح الدكتور هشام المرسي علي المرسي، الذي ارتبط منذ صباه بالحركة الإسلامية، وله فيها نشاط ملموس، ووالده أخونا وصديقنا الدكتور المرسي علي المرسي: رجل ملتزم محبوب من كل من يعرفه من أهل قطر والمقيمين فيها. وقد كان طبيبًا مثاليًا بالصحة المدرسية، التابعة لوزارة التربية والتعليم، وكان يقوم بواجبه خير قيام... ثم استقال، وأنشأ عيادة خاصّة، فأقبل عليه الناس من كل الفئات والمستويات، لأنه طبيبٌ بارع في تخصُّصه، وهو طبُّ الأطفال، ولأنه رجل صالح يعتقد الناس أنه رجل مبارك، يجري الله على يديه الشفاء، وزوجته صديقة لزوجتي، وبنته صديقة لبناتي.

ولذا رحبت بهشام، ورحَّبت الأسرة كلُّها به، وعلى طريقتنا كان لا بد أن يرى مخطوبته وتراه، ويحدثها وتحدثه، حتى يتعرف كلاهما على الآخر، حتى يُؤْدم بينهما، وتبذر بذور المودة بهذه الرؤية وهذا اللقاء

والمهم أن ابننا هشامًا قد تكفّل أن يأتي إلى عروسه بالشبكة التي يراها تستحقها، وكان في ذلك نبيلًا كريمًا.

وقد تمَّت الإجراءات بسرعة، وأعلنت الخطوبة.

عقد ابنتي أسماء وزفافها:

وفي ثاني أيام عيد الفطر (2 شوال 1410هـ) تم العقد، في منزلنا بالدفنة - كما تُسمَّى في قطر - ودعى الأحبة من طرفي العائلتين إلى وليمة العرس، كما هي السنة.

وقبل إجازة الصيف تمَّ الزفاف بحمد الله.

وبهذا تمَّ زواج بناتي الأربع جميعًا، من أزواج كلهم خيار من خيار.

أسأل الله لهن جميعًا: السعادة في حياتهن، وأن يقر أعينهن بالذرية الصالحة، إنه سميع الدعاء.

أحفادي من بناتي وأبنائي:

والآن وأنا أكتب هذا الجزء الرابع من المذكّرات، لدى ابنتي إلهام من الذرية: محمد وإيناس وأميرة ويوسف... وقد تزوّج محمد، وندعو الله أن يرزقه بالذرية الطيبة... ولدى سهام: سُها وعمر وضحى، وقد خطبت سُها، ونسأل الله أن يتمَّ عليها بخير(6). ولدى عُلا: أحمد وآية وتُقى، وقد تزوَّجت آية، وأنجبت «جَنَى»، وبهذا أصبحت جدًا ثانيًا، كما أصبحت زوجتي أم محمد جدة ثانية.

ولدى أسماء: ابنتها «يسر» أحد عشر من الأحفاد، وكلهم من بناتي.

وقد تزوَّج فيما بعد ابني ا لأكبر محمد، وأنجب طفلين هما: يوسف وفيصل... وتزوج أسامة، وأنجب طفلة سماها جميلة، وهي فعلًا كاسمها، ثم أنجب أخرى سماها: ليلى. وتزوج عبد الرحمن، ونرجو الله أن يرزقه من الذرية ما تقر به عينه. وأن يحفظ جميع الأحفاد والحفيدات، ويكتب لهم التوفيق والسعادة.

وعندي كذلك سبع ماجستيرات، وأربع دكتوراهات: ثلاثة من إنجلترا، لإلهام وسهام وأسماء، كلها في العلوم، والرابعة من أمريكا لمحمد في الهندسة الميكانيكية، الماجستيرات لعلا وعبد الرحمن وأسامة. وفَّق الله الجميع، وبارك لهم في شهاداتهم ووظائفهم وحياتهم.

.....

(1) رواه البخاري في الحيل (6971) عن عائشة ومسلم في النكاح (1421) عن ابن عباس.

(2) كان من المعتقلين على ذمة القضية التي حوكم فيها خيرت الشاطر، و د. محمد بشر، و د. ضياء فرحات، وعدد من الإخوة القياديين، وحكم علي عدد منهم بمدد مختلفة، وحكم لعبد الرحمن بالبراءة.

(3) رواه أحمد (8956)، وقال مخرجوه: إسناده قوي رجال الصحيح.

(4) رواه أحمد في المسند وقال مخرجوه: إسناده صحيح على شرط سلم (7939)، وأبو داود في الأدب (4811)، والترمذي في البر والصلة (1954) عن أبي هريرة.

(5) رواه الترمذي في النكاح (1084) عن أبي هريرة.

(6) قد تم زواجها بحمد الله، وسافرت مع زوجها، د. آدم خضر إلى أمريكا.