د. فتحي أبو الورد

اليوم بدأت رحلة الشيخ الجليل يوسف القرضاوي إلى الدار الآخرة حيث ودعته الجماهير المسلمة إلى مثواه الأخير، بعد رحلة قرن من العطاء والرباط والجهاد من عمر الزمان.

اليوم نودع من كان المسلمون يأنسون بقربه، وتقوى قلوبهم بمواقفه، وتشتد عزائمهم بهمته، وينقمع الباطل امام صولته، وتندفع الشبهات تحت أضواء قلمه الحر، وفكره النير المضيئ.

اليوم نودع من كان يستحيي منه الغيور، ويخشاه العدو والجسور.

اليوم رحل رائد مدرسة الوسطية وفقيه الأمة وحامل لواء التجديد، ورافع راية الإصلاح، وإمام الدعاة وشيخ الدعوة ولسانها وخطيبها ومجدد عصره، ومجتهد زمانه، الرجل الأمة، والرجل المؤسسة، لسان الشعوب الحرة، وضمير الإنسانية، ونصير المظلومين وشاعر الدعوة، وفارس الأقصى، وصوت القدس، ومناظر العلمانيين، وقامع الملحدين، ومحاور أصحاب الأديان والملل والمذاهب. صاحب منهج التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة.

اليوم رحل أحد كبار علماء الأزهر الشريف عبر تاريخه، العالم الثائر والداعية الشاعر ابن القرية والكتاب، صاحب السيرة والمسيرة.

اليوم رحل من كان شعاره في الدنيا:

سأعيش معتصما بحبل عقيدتي  **  وأموت مبتسما ليحيا ديني.

اليوم يبكيك الصالحون يا أبا محمد، ويعزي فيك أهل الإيمان، ويتألم لفقدك كل حر غيور، ويحزن لموتك أهل القبلة والتوحيد.

اليوم رحل من كان أمة وحده، اليوم دفن علم كثير.

اليوم رحل الشيخ ولكن لم يرحل أثره، وبقي علمه وفقهه ومداده، رحل الشيخ وبقيت مآثره ومناقبه.

لقد أثرى الراحل الكريم الحياة الإسلامية، وأضاءت كتبه بترجماتها المتعددة المكتبة الإسلامية والإنسانية وشرقت وغربت حتى وصلت إلى المسلم وغير المسلم في شتى أنحاء المعمورة.

جدد الراحل الكريم للأمة دينها، وربطها بإيمانها في "الإيمان والحياة"، وبين لها الحلال والحرام في "الحلال والحرام في الإسلام" وأرشدها إلى تفصيل عباداتها وفرائضها الكبرى في "العبادة في الإسلام" و "فقه الزكاة" و "فقه الصلاة"، ودعاها إلى الحفاظ على الأسرة وبين لها أحكامها في "فقه الاسرة"، ورابط معها في جهادها وفصل وأبان كثيرا مما دق وغمض في "فقه الجهاد"، وسدد مسيرة الاجتهاد المعاصر في "الاجتهاد في الشريعة الإسلامية".

ورشد مسيرة الصحوة الإسلامية في "الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف" و "الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المحمود والتفرق المذموم"، و "أولويات الحركة الإسلامية". وواكب أحداث الأمة وقضاياها المعاصرة ولاحقها، وأجاب على أسئلتها واستفساراتها في "فتاوى معاصرة" وسجل ذكرياته ورحلته وشهادته على العصر وسيرته ومسيرته في "ابن القرية والكتاب".

لقد أنار دروب الحيارى، وظل غصة في حلوق المتجبرين وشوكة في أعين المستكبرين، وكابوسا يزعج الطغاة المعتدين، وأرقا يقض مضاجع الظالمين.

لقد جاءت آراؤه واجتهاداته وفتاواه تشع نورا لأنها كانت تستهدي نور الوحيين: نور الكتاب ونور السنة.

وجاءت كذلك واقعية عصرية، لأن فقيه الأمة كان فقيه الواقع والزمان والمكان، جمع بين الأصالة والمعاصرة، وأخذ من القديم أصلحه، ومن الجديد أنفعه.

كان مهتما ومتابعا لقضايا المسلمين وأخبارهم وأخبار العالم بصفة عامة، حتى آخر يوم له قدرة على ذلك. وكنا نعد له نشرة إخبارية يومية، للوقوف على أخبار المسلمين وأخبار العالم.

 وقد لاحظنا أنه يتأثر كثيرا إلى حد البكاء كلما سمع بخبر عن مآسي المسلمين وأحزانهم، وما أكثرها في وضعنا الراهن، ومن ثم كنا نبحث هنا وهنا في المواقع المختلفة نتلمس خبرا لطيفا، أو نبأ سارا، أو واقعة مبهجة؛ لنسري عنه، إشفاقا بقلبه الرقيق الرحيم الذي كان يتأثر حد البكاء، وهو الذي طاف بلاد العالم الإسلامي.

كان ينتظر خروج موسوعته العلمية الكاملة إلى النور وكان يتابع مراجعتها وترتيبها، وكان يرقب دورة طباعتها، ويسأل عن ذلك كل يوم. كان يريد أن يطمئن إلى امتداد هذا المداد للأجيال المسلمة من بعده.

وقد شاء الله تعالى أن يقر عينه برؤية طباعة أكثر أجزائها قبل وفاته، وهو مطمئن إلى خروجها كاملة إلى النور عما قريب إن شاء الله.

أسس مؤسسات علمية وعلمائية وخيرية سدت ثغرات في حصون الأمة، وتحررت من كل قيد وسلطان إلا سلطان الدين والعلم، فأسس المجلس الأوربي للإفتاء لمعالجة قضايا المسلمين في الغرب، وأسس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ليقول كلمة الحق في قضايا الأمة، ويحمل همومها وآلامها، ويقوم بين الناس بالقسط، وأسس الهيئة العالمية للأعمال الخيرية لتنقذ الملهوفين والمعدمين والفقراء من الجوع والفقر والجهل والتنصير.

كان الراحل الكريم إنسانا يطمئن على من حوله، ويسأل عن الغائب صغيرا كان أم كبيرا، لا تفوته مناسبة لدي أحد من دائرته إلا ويقوم بحقه، فيهنئ في الأفراح ويواسي في الأتراح، وكنت قد كتبت من قبل عن هذا الجانب من جوانب شخصية الشيخ - رحمه الله - وهو القرضاوي الإنسان، وهو الجانب الذي لم يكتب عنه الكثيرون، حيث انشغل الكثيرون بالحديث عن فكره وفقهه ومنهجه، فقيها ومجددا وداعية وشاعرا.

شاءت لي الأقدار أن أكون قريبا منه، وقد عملت معه في الموسوعة العلمية لأعماله الكاملة، وكانت فترة خير وبركة، وقفت فيها على استيعاب فكره واجتهاداته وآرائه ومنهجه فضلا عن أخلاقه وروحه وعقله وإنسانيته، وغير ذلك مما يظهر جليا في مؤلفاته وسلوكه. وقد نشرت بحثا عن منهجه في المعاملات تأصيلا وتنزيلا.

ومن طيب الدنيا وعطرها مصاحبة العلماء والجلوس بين أيديهم والتتلمذ عليهم، فإنها نعمة كبيرة تبارك العمر، وتختصر لك سنوات في صحبة الكتب، وتختزل لك تجارب وخبرات الزمان في مواقف وسلوكيات وتصرفات وآراء، وتمنحها لك في صورة خلاصات، أو انتقادات منهجية، أو مقولات حكيمة، أو توجيهات سديدة.

كنا ننتظره يوميا عندما يدخل مكتبه ثم يصعد في الطابق الثاني حيث المصلى لصلاة الظهر ، وما أن يصل إلى المصلى حتى يتسابق الجميع للسلام عليه، والبشر يملأ محياه ومحيانا،  وتتهلل أساريره وهو بين أبنائه وتلاميذه، وحالنا في ذلك يشبه حال أطفال يتسابقون إلى أبيهم لاستقباله على باب البيت، يسلمون عليه ويقبلون يديه، رغم أن بعضنا كان جدا كهلا.

تقلب الراحل الكريم في حياته بين البأساء والنعماء، فكان مع الأولى صابرا ومع الأخرى شاكرا، ومر بالضيق والسعة فكان في الأولى راضيا محتسبا، وفي الأخرى حامدا ذاكرا. ابتلي بالعسر فكان يبشر باليسر، ومر بالابتلاء فكان ينشد العافية، واختبر بمعاداة الظالمين فصبر واحتسب، وامتحن في المساومة على دينه وحريته ورأيه فأبى ورفض، وما ذل أو خنع.

كان ينظر إلى الدنيا كما كان ينظر إليها الشافعي في نظمه:

أنا إن عشت لست أعدم قوتا  **  وإذا مت لست أعدم قبرا

همتي همة الملوك ونفسي  **  نفس حر ترى المذلة كفرا

كان طيب المعشر حسن السجايا دمث الأخلاق رقيق الحس والمشاعر قريب الدمع، كأنما عناه الشاعر حين قال:

كان أخلاقك في لطفها  **  ورقة فيها نسيم الصباح

رحم الله فقيه الأمة وعالمها، وأخلف الأمة فيه خيرا، وجمعنا به في دار الكرامة ومستقر الرحمة، في جنات النعيم على سرر متقابلين.

.....

- المصدر: موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين