د. حسن فوزي الصعيدي

البداية..

كنت محبًّا للشيخ رحمه الله، مع أنني لم أكن أنتمي لمدرسته العلمية أو الفكرية؛ غير أن الله تعالى ألقى في قلبي محبته، وكنت أجتهد قدر الإمكان أن أستمع إلى خطبة الجمعة له في مسجد عمر بن الخطاب، أو أصلي خلفه التراويح بجامع الشيوخ؛ حيث كنت أسكن في الرويس. ولما انتقلت إلى الدوحة تعرفت على مكتب فضيلته عن طريق بعض الأصدقاء، وترددت على المكتب وكنت أعمل في المراجعات اللغوية تطوعا؛ دون أن أرى الشيخ أو يراني!

ثم استقلت من وظيفتي بإحدى المدارس المستقلة في بداية العام الدراسي؛ لأجد موطئ قدم بمكتب فضيلة الشيخ، رحمه الله؛ لأكون عضوا من فريق العمل في مراجعات كتبه رحمه الله. ولم يكن الشيخ يعرفني وقتذاك؛ ولم يرشحني أحدهم؛ وإنما زكاني له مدير مكتبه آنذاك - وهذا من خُلُقه وأصالته – فقبلني الشيخ باحثا في مكتبه، الذي كانت فيه تيارات فكرية متعددة؛ على خلاف ما يظن الكثيرون.

كتاب الحلال والحرام:

كان أول كتاب يُطلب مني مراجعته هو كتاب (الحلال والحرام) الذي كان البعض يحلو له أن يطلق عليه (الحلال والحلال) وقد أصابتني بعض هذه الدعايات المضللة حينا من الدهر؛ فقلت في نفسي: الآن أراجع هذه المسائل التي تساهل فيها الشيخ وأقتلها بحثا، وأخبر الشيخ عن المسائل التي تساهل فيها بلا دليل!

وظللت شهورا عددا أقلب صفحات الكتاب، وأغوص في أمهات كتب الفقه والحديث؛ أبحث عن سبب اتهام الشيخ بالتساهل والتهاون؛ فما وجدت مسألة أخذ فيها بالتيسير؛ إلا ومعه من قال بذلك من علماء الصحابة أو أكابر التابعين. وأيقنت أن الإنسان عدو ما يجهل، وأن كثيرا ممن يردد هذه المقولة، ويلمز الشيخ بالتهاون: ما هو إلا متعالم أجوف ليس له من العلم؛ إلا ما لقنه له مشايخه، وما أُشرب من هواه!

رحمة بالمستفتي:

الشيخ بطبعه رحيم القلب، قريب الدمعة، يتعامل مع المستفتي معاملة الرحيم به، الحريص على ألا يعنته، أو يحمله من أمره شططا.. وقد أدرك الشيخ أن تيارات المادية العصرية قد أثرت في الناس، وأن الدنيا بزينتها وزخرفها قد بسطت سلطانها عليهم؛ فلم يرد الشيخ أن يكون مع أسئلتهم في موقف المتمسكين بالعزائم، كابن عمر؛ وإنما آثر أن يأخذهم بالرخص كما كان هدي حبر الأمة ابن عباس؛ رضي الله عنهم أجمعين.

أراد الشيخ بذلك أن يتمسك المسلمون بعُرى الإسلام، وألا يخلعوا ربقته من أعناقهم؛ بدعوى مشقة التكاليف؛ ما دام هناك سبيل إلى التيسير؛ فكان منهجه رحمه الله التيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة؛ انطلاقا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا". ولم يكن من هؤلاء الذين يستمتعون بإلقاء سياط التحريم على ظهر كل سائل؛ ما دامت الشريعة تحتمل هذا التيسير!

وعمدته في هذا قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ولَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185)، وقوله سبحانه: {ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78)، وقوله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (النساء: 28). وقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "ما خُيِّر رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما".

روح المجاملة:

من حسنات فضيلة الشيخ رحمه الله أنه كان يُقبل على الجميع بوجهه، ويظهر الاهتمام الكبير بكل أحد؛ حتى يظن كل منهم أنه الأقرب لقلب الشيخ، ويخرج من عنده بهذا الشعور.. والحقيقة أنه سعة صدر الشيخ، وحسن ضيافته؛ وهذا الذي ورثه من نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن العاص على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة» قلت: من الرجال؟ قال: «أبوها» قلت: ثم من؟ قال: «عمر» فعد رجالا، قال عمرو بن العاص: فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم! وقد بدأ السؤال ظنا أن رسول الله سيجيبه أنه أحب الناس إليه!

لا أطاوع نفسي وأستسلم للإجهاد:

بعد وفاة الدكتور حسن الترابي رحمه الله أقام المركز الثقافي السوداني عزاء له في الدوحة وأصر فضيلة الشيخ على الذهاب لتقديم واجب العزاء - وهذه طبيعة الشيخ لا يقصر في واجب - ولكنه عندما ذهب إلى هناك لم يصادف منا أحدا! فسألني صباح اليوم التالي عن سبب عدم مشاركتي في هذا الواجب؛ فاعتذرت إليه بالإجهاد الشديد الذي لم يمكنني من الذهاب بعد يوم عمل شاق طويل! فقال لي: لو كنت أطاوع نفسي كما فعلت أنت؛ لما فعلت شيئا، ولاستسلمت للآلام والإجهاد كما استسلمت أنت! فكانت درسا لا أنساه!

يوم إجازة إضافي:

طلب الإخوة في المكتب من فضيلة الشيخ يوم إجازة إضافيا؛ أسوة بمن يعمل في الوظائف الحكومية؛ وخاصة أن كثيرا منا يخطب الجمعة؛ فيكون نصف اليوم في التحضير للخطبة وإلقائها، والنصف الآخر في طلبات البيت والمشتريات الأسبوعية!

فكان رد الشيخ الذي أسكت الجميع: أنتم تأخذون إجازة يوم الجمعة؛ لكنني لا آخذ إجازة لا جمعة ولا غيرها! فكان رحمه الله شعلة من النشاط.

الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية:

اختلفت مع فضيلة الشيخ رحمه الله في عدة أمور.. منشؤها محبتي له، وحرصي عليه؛ لكنه لم يغضب! وكان يُؤثر دائما روح الاجتهاد مع الخطأ على روح التقليد مع الصواب؛ لأن الخطأ في الاجتهاد يمكن أن يصوب بعد المراجعة؛ أما التقليد الأعمى فلا أمل في تغييره!

وأذكر مرة أننا اختلفنا في أمر خاص.. وكان لي اجتهادي في مآلاته.. فلم يضغط الشيخ عليَّ أو يلح.. وظللت أشعر بالحرج لعدم تلبية رغبته، وأبتعد عن مواجهته قدر الإمكان، وأطلب من زملائي إدخال الملفات إلى فضيلة الشيخ؛ ولم يطل الأمر؛ حتى استدعاني فضيلته، وقال: الاختلاف في أمر لا يمنع أن نتعاون في بقية الأمور. وأنت إنسان راشد.. يحق لك أن تختار ما يوافقك من أمور.

شيخ عصري:

بالرغم من فارق الزمن واختلاف الأجيال؛ فالشيخ في حياته عامة يأخذ بمنهج العلم والتخصص؛ مصداقا لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43). وقوله سبحانه: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} (الفرقان: 59). وقوله عز وجل: {ولَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 14). لذا فهو لا يتعامل في مسائل الطب بأسلوب (الدروشة) وما شابه ذلك؛ ويؤمن بأن ما جاءت به الأحاديث في أمور الطب ليس وحيا إلهيا؛ وإنما وصف لما شاع في ذلك الزمان من علوم الطب.. وأن السنة السير وفق أحدث المعارف الطبية.

سلامة الصدر:

كان الشيخ رحمه الله سليم الصدر.. يحسن الظن بالناس، ويأخذ أمورهم على أحسن النوايا، يظن أن الناس في أمور العمل للإسلام على شاكلته، لا يظن أن من المنتسبين للدعوة من يصور له الأمور بغلاف نصرة الإسلام.. ومن وراء ذلك منافع شخصية!

وكان متسامحًا لأبعد الحدود.. يبلغه المواقف السيئة عن أحدهم؛ فيلقاه فيبش في وجهه كأن لم يعلم شيئا عن فعلته! ولا يوقع الضغائن بين الناس؛ بل يجتهد في محو آثارها.. من ذلك مشادة حدثت بيني وبين أحدهم؛ بسبب خاص بحُرمة ممتلكات مكتب فضيلة الشيخ؛ وقد أرسل هذا الأخ رسالة للشيخ في غيابي يشكوني إليه، ويذكر عبارات طائشة.. فرد الشيخ عليه برسالة لطيفة يعتذر بها عني، ولم يخبرني بالرسالة الأولى أو الثانية؛ حتى لا تتعقد الأمور، ويظل للصلح موضعا!

تفقد الجميع:

يسأل الشيخ عن الجميع في مكتبه، وإن غاب أحد لظرف طارئ، كمرض زوجته أو ابنه يبادره في اليوم التالي سائلا عن حاله وحال المريض.. وكثيرا ما لا ينتظر الصباح؛ بل يتصل للاطمئنان عليه في بيته في المساء.

وكثيرا ما كان يدعو فضيلة الشيخ العلماء والوجهاء والذين حالت الأمور في بلادهم دون العودة إليها.. ومثل هذه الدعوات كانت كبيرة العدد؛ إلا أنه كان يتفقد الجميع ويعلم من لم يحضر، ويسأل عنه.

الانفتاح على الجميع:

وكان رحمه الله تعالى منفتحًا على كل التيارات، لا يحمل في قلبه، ولا يظهر على وجهه بغضا لأحد، ما دامت هذه التيارات تهدف إلى الإصلاح.. ويتسع صدره للجميع ما داموا لا يعادون الإسلام كنظام حياة.

وكان رحمه الله يلبي كل الدعوات التي توجه إليه، ولا يخص علية القوم دون غيرهم؛ بل لما سألته عن وقته وجهده، وأنه يمكنه الاعتذار كان يأبى ويقول: هؤلاء جميعا لهم حق عليَّ.

ذاكرة قوية ومعرفة موسوعية:

كان رحمه الله يتمتع بذاكرة قوية؛ مما يجعل الجميع من حوله يقظا لعمله.. أذكر أنني بالرغم من تسجيلي المواعيد كتابة؛ إلا أنه قد يسقط بعضها خطأ مني من ازدحام العمل وكثرة الأعباء؛ فيسألني الشيخ متى سيأتي فلان؟! فأرجع إلى رسائل الهاتف ومدونات المواعيد لأكتشف أنه ذكر ونسيت، وحفظ وغاب عني ذلك!

مع حضور ذهن ومعرفة موسوعية.. إن سألته عن أمر يجبك مباشرة، وربما تذكر موضع الإجابة من أحد الكتب الذي قرأ المسألة فيه من زمن بعيد!

تواضع جم:

كان رحمه الله متواضعا مع تلاميذه يقول: يفيد بعضنا بعضا! ولا يأنف من عرض أعماله العلمية على تلاميذه، آخذًا ملاحظاتهم مأخذ الجد؛ فيراجع تلك المسائل، التي كثيرا ما تكون الملاحظات فيها عن عجل وعدم روية، وأحيانا تكون لها وجه الصواب؛ فيأخذ الشيخ الصواب معرضا عن رأيه وإن أخطأ.

ولم تكن له تضخم في (الأنا) كما يقول علماء النفس، كما لم يحمل زهو المشاهير في قلبه، أو علو المكانة في نفسه؛ مع أن هذا الأمر له أسبابه.. وكلها متحققة فيه؛ بل كان رحمه الله بيننا كأحدنا؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. وكثيرا ما قال: رأيي أحد الآراء؛ وهو كما قال الشافعي: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب!

وكان من جملة رده على علامة الحجاز الشيخ ابن باز رحمه الله؛ حين طلب منه أن يراجع بعض المسائل في كتابه الحلال والحرام حتى يأذن بطباعة الكتاب في المملكة أن قال له: أما المسائل الثماني التي ذكرتموها فضيلتكم في الرسالة، والتي تذهبون فيها إلى رأيٍ يخالف ما انتهى إليه اجتهادي في الكتاب. فأحبُّ أن أؤكد لفضيلتكم أنكم أوَّلُ وأَوْلَى مَن أحبُّ، وأحرص على موافقته من علماء الإسلام، وذلك لما عرفتُه ولمستُه في سماحتكم من غزارة علم، واستقامة منهج، وغَيْرة على الحق، وحرص على الإنصاف، وسَعَة صدر، وتقدير لوجهات نظر الآخرين. ولكن قضتْ سُنَّة الله تعالى أن تختلف الأنظار، وتتعدد الاجتهادات، وبخاصة في المسائل الجزئية.

التشدد في خاصة نفسه:

كان الشيخ يفتي الناس بالأيسر؛ ولكنه في خاصة نفسه ومن هم لصيقون به يرشد إلى الخروج من الخلاف قدر الإمكان؛ فكان مع صعوبة الوضوء في كبر سنه يبالغ في إيصال الماء إلى كل أعضاء الوضوء مع الدلك والتخليل.

ومع أنه يفتي للمسلم الذي يذهب للحج والعمرة بالطائرة أن يحرم من جدة؛ إلا أنه في خاصة نفسه كان يحرم من الميقات في الطائرة!

ولم يكن يأخذ برخصة الفطر في رمضان لكبر سنه؛ مع أنه كان من أهل الأعذار في أواخر حياته.

وكذلك كان يفتي بالفطر لمطلق السفر؛ لكنه في خاصة نفسه كان يصوم في سفره رحمه الله؛ وهذا يشعرك بأن فقه التيسير لم يكن لشهوات نفسه؛ وإنما تيسيرا على أمته.

أخطاء لا خطايا:

لكن هل الشيخ ليس له أخطاء.. الحق أنه بشر ككل البشر؛ ولكن هناك فرق كبير بين الأخطاء والخطايا، أو قُل بين الخطأ غير المتعمد والخطأ المقصود. وأنا أزعم أن الشيخ لم يقدم على خطأ متعمد له، وإنما سنة الحياة أن يدور المجتهد بين الأجر والأجرين.

فطنة أم أيمن:

روى الإمام مسلم في صحيحيه عن أنس، قال: قال أبو بكر رضي الله عنه، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: "انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما انتهينا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما أبكي ألا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء. فجعلا يبكيان معها".

ومثل هذا ما نشكو.. فمن ذا الذي يسد هذه الثغرة؟! نسأل الله تعالى أن يغفر للشيخ مغفرة من عنده، وأن يرحمه رحمة واسعة، وأن يرزقه الفردوس الأعلى، وأن يخلف أمة الإسلام في شيخ الإسلام خيرا!

الحق أنني أحببت الشيخ، وأرجو أنه أحبني؛ وأدعو الله تعالى أن يجمعنا في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وأن يعفو عنا أجمعين.

.....

- المصدر: الشرق، 15-10-2022