د. عبد الله بن محمد عبد الله (أستاذ الفقه في اليمن)

الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

رحل الشيخ العلامة فقيه العصر ومؤسسه الإمام المجدد يوسف بن عبد الله القرضاوي رحمه الله واسكنه الجنة وربط على قلب أهله وذويه والمسلمين بالصبر انا لله وانا اليه راجعون.

رحل تاركاً وراءه إرثًا كبيراً مرسخاً منهج الوسطية والاعتدال، المنهج الذي انتهجه وسار عليه حتى أصبح واقعًا ملموساً في حياته وكتبه ولقاءاته المتلفزة وندواته كلها.

لقد اجتمعت في شيخنا الامام القرضاوي رحمه الله مناقب وصفات قلما تجتمع في شخص واحد أذكرها بإيجاز -ثم اعرج عليها سريعا- وهي أحد عشر صفة:

1- الوسطية والاعتدال

2- العالمية

3- تأسيس وتأصيل فقه العصر

4- تأسيس مراكز عالمية علمائية

5- التجديد

6- السياسة والاقتصاد

7- السعي لجمع كلمة المسلمين على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم

8- إحياء فقه الجهاد

9- بلوغ رتبة الاجتهاد

10- علاقته مع الجماعات الإسلامية إصلاحيه لا تابعيه

11- أديب وشاعر

- لقد كان الامام القرضاوي رحمه الله وسطياً معتدلاً في حياته وكتبه ولقاءاته كلها وهو المنهج الذي سار عليه دون افراط او تفريط وهذا يعلمه ويلاحظه كل أحد منصف فلا غلو ولا تطرف ولا تقصير.

- وأما العالميه فإن مكانته وعلمه وتأثيره وانجازاته بلغت اصقاع الارض متخطياً الحدود الجغرافيه ومكان الاقامة.

- وأما التأسيس والتأصيل لفقه العصر؛ فله سبق قدم في هذا في واقعنا المعاصر بشهادة أقرانه المعاصرين والمنصفين؛ فقد عمل على تحريك الماء الراكد وجعله سائلًا؛ وأولى فتاويه وكتاباته جل اهتمامه في فقه التنزيل وفقه المقاصد وفقه المآلات، فهو فقيه العصر ومؤسسه بلا منازع.

- وأما تأسيس المراكز العالميه العلميه فهو مؤسس ورئيس أكبر تجمع عالمي للعلماء وسماه ( الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ) مع مجموعة من العلماء وكذا تأسيسه لمجامع فقهيه للافتاء في اوروبا، وتأسيسه قبل ذا وذاك لكلية الشريعة والدراسات الاسلاميه في جامعة قطر،  ولست هنا بصدد ذكر كل أعماله ومشاركاته المحليه والدوليه فهي معروفه، ولكني فقط أعرج على ما ذكرناه في الصفات والمناقب من باب التوضيح لا الحصر.

- وأما التجديد في الاصل فهو إعادة الشيء إلى سيرته الأولى، أي تصييره جديدا، وفي الاصطلاح يطلق على معنيين احدهما إحياء التدين في نفوس الناس، والاجتهاد في مواكبة قضايا العصر والانفتاح عليها، بتنزيل الأحكام الشرعية عليها.

وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"

ونحسب شيخنا الامام القرضاوي رحمه الله مجدداً بحق، فقد واكب قضايا ومستجدات ونوازل العصر وقعَّد وأصَّل وكتب وأفتى فقهاً وتنزيلا ومقصدا -حتى بلغت مجمل كتبه مائتي كتاب تقريبًا- مع التقيد بطرق الاستنباط وقواعده وفق المقاصد الشرعيه الكبرى للأمة، وكتابه الفقه الاسلامي بين الأصاله والتجديد خير مثال.

- وأما السياسه والاقتصاد فقد كان فقيد الأمة سياسياً حكيماً بارعاً مراعياً في ذلك المصالح والمفاسد مرناً متوازناً متمرساً يضع مصالح الأمة فوق كل اعتبار دنيوي، وتكلم عن علاقه الدول ببعضها مسلمة وغير مسلمة وعلاقة المسلمين بغيرهم، ناضل وجاهد وكتب من أجل إبراز السياسه الشرعيه في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها الكبرى فكان رائداً لهذه المدرسه وقائدًا بحق.

وأما الاقتصاد فقد توجه فقيدنا رحمه الله، في دراسته ما بعد الجامعية، إلى تخصيص واختيار موضوع شائك يمثل واحدة من أهم معضلات العصر في الدولة الحديثة، وهو الدور التنموي للزكاة، وما يترتب عليها من آثار اقتصادية واجتماعية، فكانت رسالته لنيل درجة الدكتوراه بعنوان "فقه الزكاة……".

وقدم فيها اجتهادات تناسب العصر وما يترتب عليه من أمور تخص الدولة والأفراد، خاصة تلك المعاملات التي لم تكن موجودة من قبل، مثل (النفط والمعادن) وهو ما يعبر عنه قديماً ( بالركاز) وواجب الدولة فيها تحصيلاً وتوزيعا، وزكاة المستغلات مثل العمارات والسفن والناقلات الأخرى للأغراض التجارية، وكذلك أسواق المال وما يتداول فيها من سندات وأسهم؛ ليقدم فتاوى وأحكاماً تعين الدولة إذا ما أرادت تطبيق الزكاة من خلال مؤسسة عصرية مرنة قابلة للتجديد.

ومن القضايا التي اهتم بها الامام القرضاوي رحمه الله معالجة الفقر والبطالة، وهما قضيتان مهمتان في واقع عالمنا الإسلامي؛ بل وكل العالم الغربي يمكنه الانتفاع بها، وقد شكل ذلك هماً لديه فيما بعد في معالجته لمشكلات المجتمعات الإسلامية.

- وأما السعي لجمع كلمة المسلمين مع اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم فكان هذا واضحاً لديه وهدفه السامي؛ لقوله تعالى ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا…) فسعى لتطبيق هذا الأمر الرباني وترجمته لواقع عملي حتى تستفيد منه الأمة جمعاء فقام بتأسيس ( الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ) منذ قرابة عشرين عاماً حتى الآن مُشَكِّلاً في ذلك نواة أكبر تجمع عالمي لعلماء المسلمين يضم ثلة من العلماء الربانيين المجتهدين.

والاتحاد عبارة عن تجمع مفتوح لكل علماء المسلمين في العالم، ويُعنى بالعلماء من خريجي الكليات الشرعية والأقسام الإسلامية، ومن له إنتاج معتبر، أو نشاط ملموس.

ولهذا الاتحاد مواصفات يتميز بها عن غيره، منها:

- العالمية: فهو يمثل المسلمين في العالم الإسلامي كله، كما يمثل الأقليات خارج العالم الإسلامي.

- الشعبية: فهو ليس مؤسسة رسمية حكومية، وإنما يستمد قوته من ثقة الشعوب المسلمة.

- العلمية: فهو مؤسسة لعلماء الأمة، ويهتم بالتراث العلمي وإحيائه وتحقيقه ونشره وتبليغه.

- الدعوية: فهو مؤسسة تُعنى بالدعوة إلى الإسلام بكل الوسائل المعاصرة المشروعة، بلا افراط ولا تفريط ولا غلو ولا تساهل.

- الوسطية: فهو لا يجنح إلى الإفراط أو الغلو ، ولا إلى التفريط والتقصير،  وإنما يتبنى منهج التوسط والاعتدال.

- الحيوية: فهو يُعنى بالعمل والبناء تقودها ثلة من العلماء المشهود لهم بالفقه في الدين، والشجاعة في الحق، والاستقلال في الموقف، والاستقامة في السلوك.

- الإسلامية: فهو اتحاد إسلامي خالص، يعمل لخدمة القضايا الإسلامية، وهو يمثل المسلمين بكل مذاهبهم وانتماءاتهم ومشاربهم.

- الاستقلال: فهو لا يتبع دولة او حزباً او جماعة او طائفة؛ بل هو مستقل في توجهه وقراراته.

ومن السعي لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفهم أنه كان حليماً عمن يتكلم عنه بسوء فلا يرد ولا ينتقم لنفسه ولا يعامله بالمثل؛ فكان حقاً القدوة العليا للعالم الرباني الذي يمسك لسانه عن أقرانه وغيرهم، رغم الأذى اللفظي الذي ناله منهم على امتداد عقود من الزمن.

- وأما عن إحياء فقه الجهاد فقد ألف الإمام القرضاوي رحمه الله ( كتاب فقه الجهاد ) بيَّن وشرح فيه الإمام مفهوم الجهاد في الإسلام وهو من أعظم الموضوعات خطرًا، وأبعدها أثرًا، لما له من قيمة وأهمية في الحفاظ على هوية الأمة، والدفاع عن كيانها المادي والمعنوي، وعن أرضها وأهلها، وذكر فيه شيخنا رحمه الله حقيقة الجهاد وأنواعه وأهدافه ومنزلته وكيف يكون ضمن الدائرة الاسلامية وضمن قضايا الامة.

وأفتى كثيراً في نوازل الجهاد المستجدة مقصدًا ومآلا سواء في البرامج المتلفزة، أم في غيرها.

- وأما بلوغه رتبة الاجتهاد فهو من كبار مجتهدي العصر بشروط الاجتهاد المقررة عند الأئمة الفقهاء وألف كتاباً في الاجتهاد المعاصر وتصدى لنوازل العصر باجتهادات فقهية مميزة، وأسلوب علمي رصين متزن، مراعياً في ذلك المقاصد المعتبرة والمآلات المرجوة.

- وأما علاقته بالجماعات الاسلامية؛ فهي علاقة إصلاحية إرشادية لا تابعيه، يسدد مكامن الخلل، ويعالج سبل الزلل، يوجه وينصح ويسدد ويشجع، ويدعوا للم الشمل وتوحيد الكلمة ورص الصف وتوحيد الطاقات والقدرات للوصول الى مرحلة البناء والتكامل بين الجماعات الاسلامية (نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه).

- وأما شعره وأدبه؛ فقد كان شاعراً وأديباً فصيحاً بليغاً يقول الشعر بكل سلاسة دون تكلف أو تشدق، ومن رحم المعاناة تخرج المواهب لتصقل الانسان فقد سجن عدة مرات وأوذي في سبيل الله، وألف كتاب (نفحات ولفحات) ليروي بعضاً من صنوف ألوان العذاب والأذى الجسدي الذي لقيه في السجن صابراً محتسباً الأجر من الله، لقي كل هذا بسبب صدوعه بكلمة الحق مقدماً نفسه فداء لدينه وأمته. وهكذا يجب أن يكون العالم.

تسمع شِعْره كأنك تشاهد الامام حين يتلوى من العذاب أمام عينيك حيث يقول:

أسمعتَ بالإنسان ينفخ بطنه حتى يرى في هيئة البالون

أسمعتَ بالإنسان يضغط رأسه بالطوق حتى ينتهي لجنون

أسمعتَ بالآهات تخترق الدجى رباه عدلك إنهم قتلوني

لكنه بعد هذا العذاب والمأساة يعيد لك الأمل من داخل سجنه بقوله:

ضع في يديّ القيد ألهب أضلعي  **  بالسوط ضع عنقي على السكّين

لن تستطيع حصار فكري ساعةً  **  أو نزع إيمانـــــــــي ونور يقيني

فالنور في قلبي وقلبي في يديْ  **  ربّي .. وربّي ناصري ومعيني

سأعيش معتصماً بحبل عقيدتي  **  وأموت مبتسماً ليحيـــــــا ديني

جاهد بلسانه وقلمه ونفسه مدافعًا عن كرامة الأمة وثوابتها ومقدساتها في العسر واليسر والمنشط والمكره.

رحم الله الإمام المجاهد المجدد فقيه العصر بلا منازع، حقاً لقد كان رجلاً بأمة وأمة في رجل..

.....

- المصدر: موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين