الشيخ فايز النوبي

في إحدى لقاءاتي مع شيخنا المفضال العلامة القرضاوي - رحمه الله، وكان ذلك في ميلانو أثناء انعقاد المؤتمر الشتوي السنوي عام 1992م، والذي كان ينظمه وقتها اتحاد الجاليات الاسلامية بإيطاليا، وكنت قريبا من فضيلة الشيخ طوال مدة المؤتمر، والتي امتدت لأسبوع، وبقي الشيخ أيضا بعد انتهاء المؤتمر يومين أو ثلاث، وفي إحدى الجلسات بيني وبينه سألته عن خطبة الجمعة وإعدادها، فنصحني وقال: بوجوب الاستعداد واختيار الموضوع الذي تود التحدث فيه قبلها بيومين أو ثلاث على الأقل، وتُركِز في يوم الخميس ليلة الجمعة..

وقال أيضا: لابد للخطيب الذي يحترم نفسه وجمهوره أن يكثر القراءة في فنون العلم المختلفة، والتضلع في الثقافة الإسلامية مع إتقان حفظ النصوص والأصول الإسلامية الصحيحة، ومراجعتها أثناء إعدادك للخطبة من الكتاب والسنة الصحيحة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، وسِيَر السلف الصالح،  وحفظ ما تيسر من  الأشعار والنصوص الأدبية التي تتعلق بموضوعك، ولا تغفل عن مواضيع الساعة وما يَجِدُ من أحداثٍ في واقع الحياة، فتخصص لها موضوعا إن كانت تستحق، أو تُعَلِق عليها أثناء خطبتك أو في الخطبة الثانية.

ومن أهم ما ذكره فضيلته أيضا قوله: ولا مانع من استشارة القريبين منك - خاصة إن كانوا من أهل العلم والصنعة - فتداول الآراء ومشاركة الزملاء من أهل العلم والدعوة يَنتجُ عنه تلاقحُ الأفكار، ويأتي بالخير في كل الأحوال.

وذكر أيضا من خصوصياته في بيته فقال: أنه في أحيان كثيرة أجلس مع زوجتي وأولادي - خاصة في ليلة الجمعة مساء الخميس - وأقول لهم: شاركوني الرأي وأشيروا علىّ باختيار موضوع للخطبة غدا ان شاء الله عزوجل.

وأقول: سبحان الله العظيم! فهذا أمر قلما يحدث من داعية أو خطيب، فالكثير من الخطباء والدعاة ربما كانوا في وادٍ وأهل بيتهم وأولادهم في شأن آخر؛ نظرا لظروف الحياة والانشغالات واختلاف الثقافات.

ومن هنا نعلم: مدى اهتمام وحرص أهل العلم العاملين والدعاة المخلصين على إخراج منتوج علمي ودعوي مقنع ونافع وماتع، وهكذا كان أيضا شيخنا المحلاوي - حفظه الله - وهو نسيج وحده في خطابته وبلاغته ورقي أسلوبه.

كنت إذا التقيته قبل الجمعة يوم الخميس مثلا يسألني: موضوعك إيه غدا إن شاء الله فأقول: موضوعي كذا يا سيدنا فيقول: هل أَعددتَه جيدا؟ وماهي الكتب والمراجع التي أخذت منها؟ وأذكر أنه كانت مناسبة مولد النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا سيدنا أقرأ حاليا في الشفاء للقاضي عياض، فاستحسن الأمر وقال: خير ما يُقرأ في وصف النبي صلى الله عليه وسلم - الخَلقي والخُلقي ، وإن أردت المزيد فعليك بشمائل الرسول صلى الله عليه وسلم - وحفظ النصوص منه، ولا يفوتك زاد المعاد في هدي خير العباد إن أردت التوسع.

وحدث ذات مرة أن كنا مدعوين بالإسكندرية للغداء عند أحد أحباب الشيخ المحلاوي - حفظه الله، والتقينا بعد الجمعة، وكان معنا جمع أيضا من أهل العلم ومحبي الشيخ منهم الداعية الكبير فضيلة الشيخ عبد رب النبي  توفيق مفتي الإخوان بالإسكندرية رحمه الله - ووجَّه الشيخ المحلاوي لكل منا سؤالا عن ماذا تكلمت اليوم؟ فأجاب كلُ شيخٍ باختصارٍ عن موضوع خطبته وكيف تناوله..

ولما جاء الدور علَىّ ذكرتُ الموضوع الذي خطبتُ فيه، وقلتُ: الحمد لله وفقني ربي رغم أني لم أحضر له وإذا بالشيخ المحلاوي - حفظه الله، يتغير وجههُ وينظر إليّ بحدة - نظرة الأب المُغْضَب من ولده ثم اقترب مني، وحدثني بحديث خافت  وشوشة يعني - وكان هكذا في نصحه لي ولإحبابه لا حرمنا الله منه، حتى لا يسمع من معنا، وقال لي: حذاري أن تخطب مرة أخرى دون إعدادٍ وتحضير، ولا أحب أن أسمع ذلك منك مرة ثانية، وأظن هذا كان في عام 1987م، ومن يومها أعمل ألف حساب لخطبة الجمعة حتى الآن.

فإذا كان هؤلاء القمم وهم أساطين العلم والمعرفة، والفصاحة والبيان، هؤلاء الأجلاء العظام رغم علمهم الواسع، وتاريخهم العريض وقِدَمهم، وخِبْرتِهم الواسعة في الدعوة والعلم والجهاد يستعدون لخطبة الجمعة، ويفكرون فيها ويقرؤان لها قبلها بأيام ، فأولى بأمثالنا أن يحذو حذوهم ويسير على منوالهم حتى يكتب الله - عزوجل له التوفيق والسداد.

ولن ينجح خطيب أو داعية دون إعداد، مع علمٍ وفهمٍ وكثرة قراءةٍ واطلاع، وقبل ذلك إخلاص النية ، ودعاء الرحمن - عزوجل - بالتوفيق والقبول.

أسأل الله عزوجل أن يجعلني وإياكم من أهل العلم العاملين، وأن ينفعنا بما تعلمنا، ويزيدنا علما وبصيرة، ورحم الله شيخنا المفضال إمام الزمان العلامة القرضاوي برحمته الواسعة، وحفظ الله شيخنا المفضال إمام الأئمة، وشيخ الدعاة في مصر والإسكندرية فضيلة الشيخ أحمد المحلاوي.

.....

- المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين