عصام تليمة

كانت حياة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي مليئة بالعطاء، ومليئة بالعلاقات المتعددة والمختلفة، ليست فقط مع تيار واحد بعينه، أو فصيل معين، بل كانت صلاته ممتدة إلى كل من تجمعه به مساحة صغرت أم كبرت، يمكن أن تستفيد منها الأمة، أو الإنسانية بوجه عام.

وقد كان القرضاوي موضع تقدير لدى كثيرين من أهل الفكر والثقافة والسياسة، ممن لا يحسبون على التيار الإسلامي، سواء في مصر أو خارجها، وفي عام 1321هـ الموافق 2000م نال القرضاوي جائزة الشخصية الإسلامية من إمارة دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، في تكريم شهده العالم كله على شاشات الفضائيات، وممن شاهد ذلك ودعاه الموقف إلى كتابة مقال عن القرضاوي الكاتب والسيناريست المعروف الأستاذ أسامة أنور عكاشة.

فقد كتب عكاشة مقالا في جريدة الوفد بعنوان «هذا شيخ لا يصرخ» بتاريخ 7 يناير/ كانون الثاني عام 2001م، تحدث فيه عن مزايا القرضاوي، وطرح في نهاية المقال سؤالا عن تجنسه بالجنسية القطرية، وأجاب الشيخ عن رسالته، برسالة مماثلة من حيث الود والحب، والحوار البناء الراقي الذي دار بين قامتين كبيرتين، وأسرد أولا مقال عكاشة، ورد القرضاوي، ثم أذكر ما دار بينهما من حوار خاص بعيدا عما نشر.

مقال أسامة أنور عكاشة

يقول أسامة أنور عكاشة في مقال بعنوان «هذا شيخ لا يصرخ»: أتابعه على شاسة قناة الجزيرة منذ عامين، وفي كل مرة أراه وأسمع له أشعر اتجاهه باحترام حقيقي.. وأقول لنفسي هذا شيخ ينتمي للعقد الفريد الذي ينتظم فيه كحبات اللؤلؤ أعظم مشايخ الإسلام.. فالشيخ يوسف القرضاوي نمط فريد ليته يكون شائعا، فالمأساة الحقيقية هي أنه فريد نادر عزيز التكرار..

شيخ لا يصرخ ولا يتشنج

هو شيخ لا يصرخ ولا يتشنج.. ولا يغترب بدينه عن عصره.. ولا يعتسف وفاقا بين مبادئه وبين ما يناقضها ادعاء.. ولا يصم أذنيه دون ما يختلف عليه الآخرون.. شيخ لا يلوّح بالمقرعة ولا يهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويتورع عن رفع راية التكفير ضد مسلم يخالفه ولا يكشر عن أنيابه تخويفا أو إرهابا..

هو شيخ يكره التنطع والغلواء بنفس القدر الذي يكره الخرافة والتفريط.. ويؤمن بأهم أدبيات الإسلام: أن ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة.. ويتبع سنن الرسول الأعظم بعصمة دم المسلم وماله بالشهادة..

«.. بشر… ولا تنفر»! هذا ما كنت أستخلصه من أسلوب الشيخ القرضاوي.. في محاوراته حول ما يعرض عليه من أمور الدين والدنيا..

اعتذار عكاشة عن سوء تصوره للقرضاوي

وأعترف بأنني سمحت لنفسي في وقت سابق بأن أضلَّل بما قرأته عن الرجل في بعض الصحائف التي اتهمته برعاية الفكر المتطرف.. وهو أمر أعتذر عنه، وأشهد أنه ظلم بيِّن للشيخ… فما عرفت في جيل رجال الدين الحالي من هو أكثر منه استنارة وتفتحا… فقط يراوح في ذهني سؤال

هل تخلى القرضاوي عن جنسيته المصرية؟

هل تخلى الشيخ حقا عن جنسيته المصرية وتجنس بالقطرية؟… أعرف طبعا أن شيخا جليلا مثله يعتبر كل أرض الإسلام وطنا… وما يشغلني هو السبب… أريد أن أعرف: هل هناك ما أغضبه أو أغضب الآخرين منه فكان اغترابه؟.. وهل صادف الاغتراب هوى لديه فدفعه لطلب جنسية أخرى..؟

ومثلي يرى أن الدين ليس جنسية… هو عقيدة يعتنقها الإنسان دون أن تكون بديلا للوطن… وقد يخالفني الدكتور القرضاوي بهذا الصدد… أو ربما عنّ له أن يوضح لي الأمر… وله الشكر إذا فعل”. صحيفة الوفد المصرية العدد الصادر في 7 يناير عام 2001م.

رد القرضاوي:

وفور نشر عكاشة مقاله، رد عليه القرضاوي بهذه الرسالة التي نشرها عكاشة، ونشرتها مجلة الأهرام العربي كذلك، فقد كتب القرضاوي:

بسم الله الرحمن الرحيم

الأخ الأديب الكبير أسامة أنور عكاشة   حفظه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وبعد

فقد قرأت ما كتبته عني في صحيفة الوفد يوم الأحد 7/1/2001م.

والحق أني سررت بما كتبته عني بقلمك الرشيق، وأنصفتني حيث ظلمني الكثيرون من قومي. ولا ريب أن كلمة حق من كاتب مرموق مثلها لها وزنها، ولن تتهم بأنك إرهابي أو متحيز للإسلاميين الإرهابيين!

إشادة القرضاوي بشجاعة عكاشة:

ولا يسعني يا أخي إلا أن أشكر لك موقفك الشجاع مرتين:

مرة لشهادتك لي وإنصافك في زمن قل فيه المنصفون.

ومرة أخرى لاعتذارك عن تصور خاطئ كونته عني، فلم تنقصك الشجاعة للاعتراف به. وهذا شأن الكتاب الأحرار الشرفاء.

لماذا يحمل القرضاوي الجنسية القطرية؟

وأحب أن أجيب عن السؤال الذي حيرك، بأني لم أتخل يوما -ولن أتخلى- عن بلدي ولا عن أهلي. وكل ما فعلته أني أحمل جنسية بلد عربي آخر عشت فيه أربعين سنة من عمري، فكرمني أهله واعتبروني واحدا منهم، ومنحوني جنسيتهم، وأعطوني جوازا خاصا، وكان ذلك في الوقت الذي رفض أهلي أن يجددوا جوازي، وتركوني في العراء.

ومع هذا لم أنقطع عن وطني ولا عن قومي، فهم مني، وأنا منهم، وأقضي إجازاتي الصيفية دائما في مصر، ولكن مصر هي التي تكشر في وجهي كلما ابتسمت لها، وتعض يدي كلما مددتها لأصافحها، وأنا أقصد بمصر: الدولة لا الشعب، فأنا -بحمد الله تعالى- أتمتع بحب أبناء وطني كغيرهم من المسلمين، كما أحس بذلك وألمسه في كل مكان أذهب إليه من أرض الإسلام، وهذه نعمة لا أقدر على الوفاء بشكرها.

بل أقول لك بكل صراحة: إن كثيرا من إخواننا المسيحيين في مصر وفي أنحاء الوطن العربي يشاهدونني ويبادلونني المودة، وتأتيني منهم رسائل تحية وتشجيع.

سوء معاملة النظام المصري للقرضاوي

إن مشكلة أجهزة الأمن في بلدنا أنها لا تتطور، والملفات القديمة ثابتة لا تتغير، فهي تعامل يوسف القرضاوي ابن السبعين، كما تعامل يوسف القرضاوي ابن العشرين! كأن كر الغداة ومر العشي لا يعلم الإنسان!

ماذا أقول لك يا أخي أسامة والكبد مقروحة من معاملة قومي لي؟

إني أقابل بالترحاب والتكريم في كل بلد أزوره على أعلى المستويات، إلا في بلدي، أُحجز في المطار حتى يعرض جوازي على جهات الأمن، سواء دخلت بجوازي المصري أم بجوازي القطري، وأنا عضو في مجامع علمية عربية وإسلامية عالمية، ولكن بلدي وحده هو الذي لا يعترف بي.

حصلت على جوائز عالمية عدة، لا داعي لذكرها، ينوه بها كل الناس إلا قومي. حتى إن آخر جائزة حصلت عليها منذ أسابيع (شخصية العام الإسلامية)، تحدثت عنها أجهزة الإعلام العربية والإسلامية في بلاد شتى إلا بلدي، عتّمت عليها تعتيما شديدا، ولا أدرى لماذا يعتبرني أهلي خصما لهم، وليس إضافة إليهم؟! ولقد كتب بعض الصحفيين من إخوانك يشكو من أنه كلما فتح قناة من قنوات الخليج الفضائية، رآني فيها، وكنت أحسب أن هذا يسره ولا يسوؤه، ويعتز به، ولا يضايقه!

إذا كانت القضية قضية التجنس بجنسية أخرى، فقد رأيتهم يحتفون احتفاء بالغا بالدكتور أحمد زويل، وهو يحمل الجنسية الأمريكية، على حين أحمل جنسية عربية!

إن الحكومة المصرية تعلم أني أعارض العنف، وأقاوم التطرف، وأدعو إلى التسامح، وأرحب بالحوار، وأنادي بالتجديد للدين، والنهوض بالدنيا، وأتبنى تيار الوسطية الذي يقوم على التيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة، والموازنة بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر. وقد خطبت خطبة شهيرة نددت فيها بمذبحة الأقصر، وأيدت قانون الخلع… وغيره وغيره، ولكن أخالف السياسة المصرية في بعض النقاط، مثل: الدعوة إلى مقاطعة البضائع الإسرائيلية والأمريكية، وأني لا أعتبر السلام خيارا استراتيجيا وحيدا… إلخ فلماذا التركيز على نقاط الخلاف، وإهمال نقاط الالتقاء وهي كثيرة؟ ولماذا لا نتعاون فيما نتفق عليه، ونتسامح فيما نختلف فيه؟

حب القرضاوي لمصر وأهلها رغم الظلم

يا أخي أسامة، لقد نكأت جرحا غائرا في صدري، وذكرتني بقول طرفة في معلقته:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة  **  على المرء من وقع الحسام المهند

ومع هذا سأظل أصل قومي وإن قطعوا، وأبذل لهم وإن منعوا، وأسامحهم وإن ظلموا، وأحسن إليهم وإن أساؤوا إلي، متمثلا بقول الشاعر العربي:

وإن الذي بيني وبين بني أبي  **  وبين بني عمي لمختلف جدا

إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم  **  وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

ولا أحمل الحقد القديم عليهمُ  **  وليس كبير القوم من يحمل الحقدا!

أخي أسامة، إن في الجعبة الكثير، ولكن العرب قالوا: حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق، ولا أملك إلا أن أقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون«.

أرجو أن تتقبل جزيل شكري، وعميق تقديري، وعاطر تحياتي، وخالص دعائي لك بدوام التوفيق.

وأرجو أن يكون بيننا لقاء نتعارف فيه أكثر. وإلى الملتقى إن شاء الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أخوكم

يوسف القرضاوي

كواليس المقال والرسالة

بعد نشر عكاشة مقاله، ورد القرضاوي برسالته التي نشرها كذلك عكاشة، تم اتصال بينهما، وكان مما قاله عكاشة: يا مولانا إنني أعرف كل ما ذكرته في رسالتك، ولكني أردت استنطاقك به، كي أحرج السلطة الظالمة فيما تفعله معك، وأحرج الإعلام الموجه في تجاوزه لعلمك، وعدم تقديره لك، أردت أن أضع القراء والناس والمسؤولين أمام الحقيقة بلا تزييف ولا تجميل، كي تكون حجة واضحة وداحضة لكل من يفتري عليك بغير حق.

أما الصحفي الذي ذكر القرضاوي أنه كلما فتح فضائية وجد القرضاوي فيها ضيفا أو متحدثا، فهو صحفي في جريدة الأخبار المصرية، كان يكتب مقالات بتوقيع: أنور وجدي، وهو اسم مستعار، وقد تبين وقتها من خلال العارفين به وبالجريدة، أنه الأستاذ إبراهيم سعدة.

بعد نشر رسالة القرضاوي التي أرسلها إلى عكاشة، قابله مسؤول أمني في مطار القاهرة، وقال له: يا شيخ قرضاوي تقول عنا: إن ملفاتنا قديمة ولا تجدد، هذا غير صحيح، نحن نجدد كل وسائلنا وأدواتنا، ولم يفهم ما قصده القرضاوي من أن الأمن يظل على معلوماته دون تغيير حسب تغير موقف الشخص، أو توضيحه.

وقد سألت الشيخ: هل تقصد بقولك إن القرضاوي ابن السبعين غير ابن العشرين، أنك تغيرت؟ قال: نعم، قلت له: فيم تغيرك؟ قال: كنت أتحرك كما يتحرك الشاب، وأطمح كما يطمح الشاب، وأجمح كما يجمح، ولكن خبرة السنين والقراءة وتراكم كل ذلك أكسبني خبرة في التعامل، وخبرة في الأفكار، وتطورا في كل ذلك، نعم تغير القرضاوي ابن العشرين، فكل مرحلة لها طبيعتها.

مقال عكاشة ورسالة القرضاوي هي صفحة من صفحات الأدب والذوق الرفيع، من حيث حسن تقدير الناس بعضهم بعضا، وإنزال الناس منازلهم، وقراءة كل طرف للآخر قراءة صحيحة، وامتلاك الشجاعة عند بيان خطأ النظرة، وهو نموذج متكرر كثيرا في تاريخنا المعاصر، لكنه لا يكون إلا من الشجعان كما ألمح إليه القرضاوي.

.....

- المصدر : الجزيرة مباشر، 15-10-2022