د. أحمد القديدي

يواصل الشيخ يوسف التساؤل حول أسرار الفتنتين (غزو الكويت 2 أغسطس 90 والهجوم الإرهابي على البرجين 11 سبتمبر 2001) ولا نعرف إلى حد اليوم ما هو دور المخابرات الأمريكية في هاتين الفتنتين وكيف انجر إليهما كل من صدام حسين وأسامة بن لادن؟

ثم إني دائم الاعتقاد أن سوء التفاهم (أو الحرب الباردة) بين الإسلام والغرب المسيحي ليس تصادمًا بين حضارتين كلاهما ذات شأن وتأثير، وإنما حرب بين جهات إسلامية ومسيحية تطرفت كل منهما وتمترست وراء أكوام من التفسيرات الخاطئة والتبريرات العقائدية لتعويض الحوار السلمي والتلاقح العلمي والحضاري بالحروب ثم بالإرهاب وإرادة إلغاء الآخر حتى بالقتل والتهجير والمذابح.

وهنا قال «جيل كيبيل» إنه خصص لهذه الصدامات عشرين كتابًا، وقلت أنا لهما: «كتبت كتابا بعنوان "الإسلام وصراع الحضارات" صدر في الدوحة عام 1995 رددت فيه بالحجة على أطروحة صدام الحضارات للأستاذ الأمريكي صامويل هنتنجتن، وزبدة كتابي هذا هي أن الحرب القائمة ليست بين ديانتين بل بين تطرفين».

أضاف الشيخ يوسف: «نتيجة هاتين الفتنتين أن الغرب بجناحيه الأمريكي والأوروبي وضع تضييقات على الحقوق والحريات التي تضمنها دساتيره، وأصبح المسلمون المقيمون في هذه الدول يتعرضون يوميًا إلى المضايقات والإيقافات وقطع الأرزاق، وتسابقت الأحزاب العنصرية في عمليات الملاحقات للمسلمين وطردهم من تلك الدول التي ولدوا فيها وتجنسوا بجنسياتها وأخلصوا لقوانينها».

وتدخل «كيبيل» ليقول: «إنني من خلال دراستي الطويلة لتاريخ الإسلام والمسلمين؛ وصلت إلى استنتاج هو أن فتح أبواب التطرف يبدو سهلًا ومقنعًا للشباب المسلم ولكن غلقه هو الأصعب؛ لأن التطرف الأيديولوجي ينتشر ويتوسع ويصعب تطويقه..».

واستأذنت أنا من الرجلين نشر حوارنا هذا لأن نقلي لهذا الحوار لجمهور القراء والباحثين يعتبر توثيقًا لأحداث زلزلت مجرى التاريخ الحديث، ونقل مواقفنا نحن الثلاثة يعتبر تسليط أضواء علمية كاشفة تنير العصر.

يسأل المستشرق «كيبيل» فضيلة الشيخ: «ما رأيكم في تكفير عدد من الإسلاميين للمسيحيين؟»، ويجيب الشيخ: «أنا أؤمن بأن الإسلام هو الدين الخاتم لكني أعتقد أن المسيحي يشترك معي في الإيمان، وإذا تعاونت أنا المسلم مع أخي المسيحي فنحن مؤمنان نقاوم الكفر بأنواعه، ومنه الإلحاد العلماني المادي الذي يقود الإنسانية إلى الشرك والضياع والانحطاط الأخلاقي أي إلى خضوع البشرية للقوة بلا أخلاق، وأنا لا أنعت المسيحي بأنه كافر معاذ الله، بل أقول عنه "غير المسلم" دون التشكيك في معتقداته؛ وعلى هذا الأساس قبلت الدعوة من جمعية مسيحية إيطالية تعمل في كنف سماحة البابا وهي جمعية "سانت أديجيو" وكان موضوع مؤتمرها هو "مواقف المسلمين والمسيحيين من إرهاب الحادي عشر من سبتمبر"، وتوفقنا جميعًا إلى الاتفاق على تحديد معنى الإرهاب، وضربت مثلًا للمؤتمرين بسورة "الكافرون" وتعلق المسلمين بدينهم {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، وأصدق موقف للإسلام هو ما اختتمت به السورة، الآية 6 {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} وهي الآية التي تعلن تسامح الإسلام والجدال بالتي هي أحسن.

وهنا عاد الأستاذ «كيبيل» إلى التساؤل عن مواقف الشيخ يوسف إزاء الجهاد؛ فقال الشيخ: «إن الجهاد نوعان: جهاد دفع وهو فرض عين على كل مسلم، وجهاد طلب: وهو جهاد كفاية، وأفسر لكما الفرق بين الجهادين: جهاد الدفع هو مقاومة من احتلت أرضه من جيش غاصب كما في فلسطين، وطرد صاحب الأرض من أرضه بغير حق، وهذا ما لحق المسلمين والمسيحيين معًا من أبناء فلسطين؛ والجهاد هنا هو حق أقره الإسلام وكل الشرائع والقانون الدولي الصادر عن الأمم المتحدة وميثاق حقوق الإنسان؛ ولهذا نحن نندد بتصنيف المقاومة الفلسطينية ضمن الحركات الإرهابية من منظور اليمين الإسرائيلي والغربي...

ثم إن جهاد الدفع نفسه هو الذي يقوم به اللبنانيون في جنوب لبنان؛ لأن جزءًا من أراضي شبعا محتلة، وكذلك السوريون في الجولان ونفس الجهاد نجده في الشيشان وكشمير وأيغور الصين ومسلمي البورما حيث نجد شعوبا مسلمة محرومة من حق تقرير مصيرها، أما جهاد الطلب فهو يتمثل في الفتوحات الإسلامية منذ عهد الفاروق عمر رضي الله عنه؛ وهو استجابة المسلم لضرورة إشاعة الإسلام وتوسيع مجاله وتعزيز أمته، أما اليوم فلم تعد للحدود الجغرافية وظائفها التقليدية بانتشار مفهوم العولمة التي تعني إلغاء الحدود وتواصل الأمم بفضل ثورة الاتصال الرقمي عبر شبكة الإنترنت؛ ولهذا السبب فقد جهاد الطلب محتواه وغاياته وأصبح ممكنًا أن نؤدي أمانة الدعوة دون اختراق حدود بل بالتي هي أحسن».

وهنا سألت الرجلين عن تقييمهما لتداعيات الحادي عشر من سبتمبر؛ فقال الشيخ: «في كل محنة منحة، ولعلنا كسبنا عودة اهتمام الأمم الأخرى بالإسلام بحثًا وتحقيقًا، وهذا لمسته في روما وفي القاهرة وفي الدوحة حين تحاورت مع الكرادلة والحاخامات في منتديات الحوار بين الأديان؛ حيث أدرك العديد منهم أنهم يجهلون حقائق الإسلام بل ينساقون وراء الدعايات العنصرية ويتبنون أطروحاتها الكاذبة

هذه مختارات من حوار ثلاثي رصين بين عالم وسطي مسلم كان هو الوحيد الذي سافر إلى أفغانستان ليمنع طالبان من تدمير التماثيل البوذية في باميان؛ لأنها جزء من تراثهم ولأن الفاروق عمر بن الخطاب لم يمسها حين فتح المسلمون بلاد أواسط آسيا.. وبين مستشرق ذي مكانة مرموقة شغوف بالمعرفة وقد كتب كتابًا عن لقائنا ونشره في مؤسسة «غاليمار» بعنوان «الإسلام السياسي بين الانتشار والانحسار»، وكنت انتقدت النتائج التي انتهى إليها في هذا الكتاب زميلي «جيل كيبيل»؛ لأنه خلص إلى أن القيم الغربية (وهو يسميها كونية) انتصرت على كل الأديان الأخرى وتراثها وهو ما اعتبرته «وهم كيبيل والمستشرقين» والله من وراء القصد.

.....

- المصدر: صحيفة الشرق القطرية، 5-8-2022