د. محمد الصغير

خوفًا من هذه اللحظة كتبت في هذه النافذة عن الإمام يوسف القرضاوي في حياته، أضعاف ما كتبت عن غيره من الرموز والأئمة، وكنت في جُل هذه الكتابات أدق ناقوس التنبيه على فضل الشيخ الجليل، وأقول لماذا لا يكتب عن الكبار إلا بعد الرحيل؟ وليس هذا من الإسلام في قليل ولا كثير، فقد علمنا رسول الله ﷺ العرفان ورد الجميل، فقال: «ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر»، وقال: «ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم«.

كنت آمل أن تُوفي الأمة الإمام القرضاوي بعض حقه، فقد كان إمام الأمة، وعمت آثاره النافعة أقطارها وأجيالها، وعاش قرنا من الزمان كان فيه عالم القرن، وشيخ العلماء وأستاذ الأستاذين.

الموسوعي الأزهري الثائر

ظهر في هذا القرن أعلام في الفقه والفكر، والدعوة والتربية، والشعر والأدب، وعلم الاجتماع وفلسفة الأخلاق، وقادة الحركات ورموز الثورات، لكن لم يتربع على كل عرش من هذه العروش، في الوقت ذاته وبدرجة التمكن نفسها، إلا الإمام الموسوعي الأزهري الثائر، العالم المتفاعل، الفقيه الطائر، الاجتماعي الباهر، الأديب الشاعر، والمناظر المحاور، صاحب القلم السيال والسهل الممتنع، الذي ولج فضاء الإعلام فكان نجمه الساطع، وضيفه اللامع، حتى جعل برنامج الشريعة والحياة مدرسة، من جلس إليه فيها أصبح من كبار الإعلاميين، وما زال يتربع على عرش الأعلى مشاهدة عربيا، إنه بركة هذا الزمن ونفحة هذا القرن، العلامة ابن القرية والكتاب، شمس الأزهريين أبو محمد يوسف بن عبد الله القرضاوي، الذي أعاد لنا صورة أبي حامد الغزالي وفلسفته، وابن تيمية ومدرسته، وجمع الخيرين، وكان صدره ملتقى النهرين، والكلام عن موسوعية شيخنا الإمام، تكفينا إياه كتبه التي اقتربت من مئتين، وربت على مئة مجلد، استوعبت علوم الشريعة وفروع الثقافة الإسلامية.

النظر في تلاميذه

وأرى أن أقصر طريق لمعرفة علم العالم وعمله وأثره، يكون بالنظر في تلامذته وعقبه، وليس إلى أسفاره ومكتبته، فإن التأليف والتصنيف يحسنه كثيرون، أما تأليف القلوب وصناعة الرجال، فلا يتأتى إلا للأساتذة الكبار والمصلحين العظام، وكان شيخنا الدكتور يوسف من أبرزهم، فإذا أردت أن تطبق هذا المقياس على أبي حنيفة فتلميذه أبو يوسف قاضي القضاة، وابن تيمية تلميذه الإمام ابن القيم، ونور الدين محمود زنكي تلميذه الناصر صلاح الدين الأيوبي، وأظهر ما يكون هذا المثال في الإمام محمد عبده وتلميذه المجدد محمد رشيد رضا، الذي يعتبر الشيخ القرضاوي نفسه تلميذا له وامتدادا لمدرسته، وإذا طبقنا الأمر على الإمام القرضاوي نفسه، فستجد له في كل بلد زعيما من تلاميذه، وفي كل جيل نابغة من طلابه، حتى بلغ الأمر إلى عقد مؤتمرات وملتقيات للصحب والتلاميذ، ولو أردنا أن نذكر نماذج وأمثلة فمنهم الشيخ سلمان العودة، والقائد خالد مشعل، والوزير عصام البشير، والرئيس طيب أردوغان، وأصابتنا بركة طول عمر الشيخ فالتحقنا بقافلة التلاميذ.

وقد جلسنا بين يدي الإمام وأخذنا عن كبار تلاميذه، لاسيما من أُطلق عليه شيخ التلاميذ، فضيلة الشيخ الدكتور عبد السلام البسيوني الذي له مؤلفات زادت على مئة وخمسين، وسّع دائرتها حتى شملت الخط والرسم، والقصة، ومُلح العلم، وطرائف العلماء، وعلى هؤلاء النجباء تقع مسؤولية رفع الراية وإكمال المسيرة، وإذا كانت الفجوة كبيرة والفراغ يصعب ملؤه، فإن تضافر الجهود وتكاملها سيفتح للأمة باب التجديد ويعوضها عن الإمام الفقيد.

.....

- المصدر : الجزيرة مباشر، 15-10-2022