شيروان الشميراني
ممّا يَتَميَّز به وأصبح عناوين لكتب عديدة لفضيلة الشيخ القرضاوي استعماله كلمة "بين" في العنوان الرئيسي، وأكثر منه في عناوين فرعية حين الحديث عن تحديد المضمون للمفاهيم الفكرية والمصطلحات العلمية، مثل "الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، والصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، وثقافتنا بين الانفتاح والانغلاق".
وعناوين فرعية مثل "بين السلفية والتجديد، وبين الأصالة والمعاصرة، وبين الثابت والمتغيّر". وهذا ليس هروبًا من الأطراف كلها، أو الطرفين، أو تجنبًا للملامة، أو خوفًا من اتخاذ موقف علمي واضح، وإنما هو البحث عن العثور على روح المنهج الإسلامي الذي هو منهج وسطي معتدل متوازن، وهي الخاصية التي تميزه عن المناهج الأخرى الدينية والوضعية المتميزة بالانحراف إلى إحدى الجهتين.
وعبَّر عن ذلك الإمام الشاطبي في المسألة 12 من الموافقات بقوله "إن الشريعة قائمة على الوسط الأعدل.. الآخذ من الطرفين بقِسْطٍ لا ميل فيه". وهو الصراط المستقيم الذي نسأل الله -سبحانه- في صلواتنا الاهتداء إليه، والثبات عليه بعد الظفر به، وهو كذلك في فقه الجهاد، وما يتعلق بالحرب والسلم.
إن طبيعة أحداث تاريخ المجتمعات المسلمة والمواقف التي اتخذت من المظالم ومن أجل تصحيح المسار، انتهت في أغلبها بوأدها وسفك الكثير من الدماء، مما دفع بعض الاجتهادات المرحلية لأن تذهب باتجاه منع تبني مواقف سلبية كيفما كانت تجاه الانحرافات التي تظهر من الحاكم أو النظام الحاكم؛ بذلك رفعوا راية الاستسلام هروبا من سفك الدماء، وقد تحول الجمود على الآراء التاريخية تلك إلى برامج ومواقف واجتهادات ثابتة غير قابلة للمراجعة؛ مما تركت آثارها السلبية وانحرفت بالمنهج الإسلامي إلى هنا وهناك، وسحبت روح التأثير والتغيير من القِيم الإسلامية الأساسية، في حين يوجد تيار مؤثر في الساحة يتبنى الحلول العسكرية التي تسببت بدورها في الانحراف عن الغايات الإسلامية والعديد من القيم الحقة المستوحاة من أسماء الله الحسنى وآياته القرآنية المباركة.
يُعَنون الإمام القرضاوي هذين الموقفين بـ"الهجوميين والاستسلاميين"، إما يهجمون على غير بصيرة، أو يستسلمون بشكل مخجل، مع أن روح الإسلام هي في المنهج الوسط، والعقل مكلف بالاجتهاد للوصول إليه، والحديث هنا متعلق بداخل المجتمع الإسلامي، وليس حالات الاحتلال أو مواجهة العدو الخارجي.
تحت عنوان "الانسحابيون"، ينتقد أولئك الذين يَفِرّون من الميدان أو لا يدخلونه أصلا، تاركين الطغيان يمارس نشاطه في إفساد البلاد، وإذلال العباد، والفسوق يعمل عمله في أخلاق الناس وضمائرهم كما تعمل النار في الحطب، والغزو الفكري يفسد عقول الأمة… وهم واقفون متفرجون لا يحركون ساكنًا ولا يساعدون متحركًا على الحركة. ويدخل ضمن ما يقوله فضيلته بعض من يسمون في الصوفية "الانزوائيين"، أو بعض السلفيين تحت دعاوى هي من مخلفات أحداث التاريخ السياسية، يرى أنه استسلام للجبابرة والمستكبرين في الأرض بغير الحق بالتبريرات المختلفة التي يتمسح بها الناس، وهو منطق تبريري للظلم الصارخ لا يقبل في ميزان الإسلام.
وفي مقابل هؤلاء يأتي "الهجوميون"، دعاة العنف المسلح، و"هم الذين يستخدمون العنف ويدعون إلى الخروج المسلح بلا حكمة. وهذا ما قامت عليه جماعات "الجهاد" في عصرنا التي ظهرت في أكثر من بلد إسلامي. وأفكارها خليط من السلفية المتشددة وجماعة التكفير وجماعات العمل المسلح".
يرى الإمام القرضاوي أن هؤلاء شبيهون في أفكارهم بالخوارج في تاريخنا القديم، ويذكر مستنداتهم ثم يناقشها واحدة واحدة، وتناقش هذه الأفكار كذلك ما يتعلق بقتال الأنظمة الحاكمة داخل الدائرة الإسلامية، لكن في النهاية حسب قوله "غفل هؤلاء المتحمسون أن استعمال القوة في إزالة المظالم وتغيير المنكر له شروطه التي يجب أن تراعى".
هذان الاتجاهان مرفوضان، وهما من آثار التاريخ وويلاته، فليس شرطًا من أجل حقن الدماء أنْ يكون الاستسلام للطغيان واجبًا، أو تجنبًا للاستسلام للجبابرة لا بد من شنّ الحرب من دون النظر إلى شروطه ومآلاته، دائماً هناك موقف وسط، طريق ثالث أقرب إلى المقاصد والغايات المرتجاة من الجهاد، وأصحاب هذا الاتجاه هم الفئة الوسط بين هؤلاء وأولئك، يقاومون الظلم والفساد والتجبر في الأرض، بالوسائل السلمية؛ "فالمواجهة السلمية يجب أن تكون هي الأصل في الوقوف في وجه الظالمين، ويجب أن تدرب الشعوب على ذلك، وأن توضع الآليات الملائمة للتحرر من نير الطغاة والمستبدين، وقد وصل العالم إلى صيغ معقولة اكتسبها من ممارسته التاريخية الطويلة في مواجهة سلاطين الجور"، وهي الأدوات المدنية التي أجمع الناس حولها في العصر الحديث، وتتيح للإنسان الحركة بالضد من كل ما لا يرضيه ويقول ما يدور في عقله، ويعمل من أجل تصحيح ما يراه خطأً، دون أن يشهر سلاحًا. ويذكر -رحمه الله- من هذه الأدوات: البرلمانات المنتخبة وحرية تكوين الأحزاب وحرية الصحافة وحرية المعارضة للحكومة وحق الأمة في انتخاب الحاكم ومحاسبته وعزله سلميًا، وحرية المنابر.
وعلى هذا المنهج الوسطي نصَّ الشيخ القرضاوي رافضًا كل أعمال التفجيرات التي طالت المدنيين وغيرهم، من أطفال ونساء وشيوخ، أو حتى العسكريين الذين يؤدون أعمالهم ومؤسسات الدولة؛ التي خلفت تدميرًا وليس تعميرًا، ونفذتها القاعدة وداعش، وأعمال الاغتيالات الفردية.
لقد تعرَّض إلى كثير من النقد والتجريح من المناوئين الذين رأوا فيه مفتي الإرهاب والتطرف، وخلال وفاته -أسكنه الله فسيح الجنان- كنت دخلت في نقاش مع أكاديميين شيعة لم يترددوا في توجيه سهام النقد له في ما يتعلق بالوضع العراقي في العقدَين الماضيَيْن، لكن بعد أن طالبتهم بدليل واحد مُثبَت على أن القرضاوي أفتى بقتل المدنيين الشيعة وغيرهم في العراق، لم يأتوا بدليل واحد.
إن أغلبية الاتهامات الموجهة إليه كانت نابعة من مواقفه من الثورات الربيعية، خاصة في اليمن وسوريا، والموقف من المظالم الواقعة نتيجة الاحتقان الطائفي في الفترات الماضية.
ما عبَّر عنه الإمام القرضاوي هو ما انتهى إليه الاجتهاد الإسلامي المعاصر، وتبنّاه التيار الوسطي، وهو قائم على دعامتين: التجديد؛ فلا بدّ من اجتهادات جديدة ونزع القداسة من الاجتهادات التاريخية، وتجاوز مطباتها. والعودة المباشرة المنضبطة إلى الوحي الإلهي لجعل الدين مُلبّيًا لاحتياجات العصر ومتغيراته.
.....
- المصدر: الجزيرة نت، 11-9-2023
- المنهج الوسطي للإمام القرضاوي في فقه الجهاد (1)
- المنهج الوسطي للإمام القرضاوي في فقه الجهاد (2)