د. معتز الخطيب

أشرت في مقال الأسبوع الماضي إلى أن الشيخ يوسف القرضاوي -رحمه الله تعالى- يبدو أكثر اتساقًا من خصومه -أو نقاده- خلال ثورات ما سمي بـ"الربيع العربي"، خاصة المشايخ أحمد الطيب وعلي جمعة ومحمد سعيد رمضان البوطي -رحمه الله تعالى- الذين تقلبت مواقفهم من الثورات حسب تغيرات السياسة، فوقعوا في تناقضات عدة. وكثرة التناقض نتيجة تغير الأقوال بتغير موازين القوى أو المصالح أو الإملاءات السياسية هي أحد معيارين حددتهما -فيما سبق- للكشف عن الهوى السياسي لدى بعض المشايخ العاملين في المجال العام.

إذ يكشف التناقض -بالإضافة إلى الاسترسال مع السلطة الحاكمة والتطابق مع توجهاتها وهو المعيار الثاني- عن مواقف سياسية لفقيه السلطة أكثر منها قناعات دينية أو فقهية؛ إذ إن كثرة التغير سمة أساسية للممارسة السياسية، بخلاف الممارسة الفقهية المعيارية التي لا تتغير إلا بتغير الاجتهاد أو تبدل شروط الحكم في لحظة تنزيله على الواقع، مما يرجع إلى "تحقيق المناط".

أحاول -في هذا المقال- بيان اتساق القرضاوي وتقلب خصومه أو مخالفيه المشار إليهم خلال الثورات، وذلك بناء على المعيارين السابقين. والاتساق وعدمه يضعانِنا في صلب النقاش الأخلاقي؛ فالأخلاق ترجع إلى وضع معايير قويمة والاستقامة في تطبيقها، ومن ثم فإن عدم الاتساق يُحيل -هنا على الأقل- إلى الهوى سواء كان شخصيا أم سياسيا، وقد يتداخلان.

أحمد الطيب

أما بخصوص الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر، فقد ظهر بُعيد الخطاب الثاني للرئيس حسني مبارك لتأكيد موقف نظام مبارك من الاحتجاجات، وكذلك فعل أيضًا علي جمعة كما سيأتي. ففي الأول من فبراير/شباط 2011، ألقى مبارك خطابه الذي خيّر فيه الشعب "بين الفوضى والاستقرار"، وأعلن فيه تشكيل حكومة جديدة وإجراء حوار مع القوى السياسية كافة. وفي الثاني من فبراير/شباط 2011، جعل الطيب موقف مبارك هو "حكم الشرع"، وليس مجرد "رؤية سياسية" لرئيس الدولة الذي ترفضه جموعٌ من الشعب.

قال الطيب "إن استمرار هذه المظاهرات بعد كل هذه الضمانات التي قيلت (يقصد خطابَ مبارك) هي دعوة من أجل الفوضى"، وإن الوجود في المظاهرات "حرام، لأنها تُعَد خروجًا على الدولة وعلى النظام وعلى الجماهير"، ثم عرّض بالفتاوى التي تحض الناس على التظاهر قائلا: "إن هؤلاء سخّروا الدين وخانوا العلم، وسخّروا الفتاوى المغلوطة الكاذبة لسياسات بلادهم ولأهواء في أنفسهم. وإن الله سوف يسألهم يوم القيامة عما يحدث في بلادهم ويصمتون عنه صمت القبور". وتابع بل إن هؤلاء "دعاة على أبواب جهنم"، في إشارة إلى القرضاوي في ما يبدو من سياق الأحداث. ثم حذر في بيان بتاريخ السادس من فبراير/شباط 2011 من "الفتاوى الإقليمية والعالمية التي تتدخل في الشأن المصري الداخلي".

ثم ظهر الطيب مجددًا بعد رحيل مبارك في الثاني من مارس/آذار2011، ليبين "موقف الأزهر" من الثورة، وأنه لم يكن متخاذلاً، فقال: "إن الأزهر لا يتردد في دعم أي حركة تحرر وطني"، وأثنى على الشباب أنفسهم الذين دعاهم -في بداية الثورة- إلى العودة إلى الصواب، ثم عاد فقال في أعقاب الجلسات التي ناقشت "وثيقة الربيع العربي" التي أصدرها الأزهر بتاريخ 31 أكتوبر/تشرين الأول 2011: "إن مواجهة أي احتجاج وطني سلمي بالقوة والعنف المسلح وإراقة دماء المواطنين المسالمين هو بمثابة نقض لميثاق الحكم بين الأمة وحكامها، ويُسقط شرعية السلطة ويهدر حقها في الاستمرار بالتراضي.

فإذا تمادت السلطة في طغيانها واستهانت بإراقة دماء المواطنين الأبرياء، حفاظًا على بقائها غير المشروع على الرغم من إرادة الشعوب، أصبحت السلطة مدانة بجرائم تلوث صفحاتها، وأصبح من حق الشعوب المقهورة أن تعمل على عزل الحكام المتسلطين ومحاسبتهم".

ثم عاد الطيب فظهر في الثالث من يوليو/تموز 2013 إلى يمين وزير الدفاع آنذاك الجنرال عبد الفتاح السيسي الذي أعلن عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي، وقال حينها: إن الأزهر قد اختار "أخف الضررين"، رغم أن الأضرار والدماء التي نجمت عن الانقلاب كانت كافية لمراجعة نظريته في "أخف الضررين".

علي جمعة

أما الشيخ علي جمعة مفتي الجمهورية في عهد مبارك، فقد خرج عبر الفضائيات المصرية ليؤكد تأييده لنظام مبارك ومعارضته للاحتجاجات، بل إنه أفتى في اليوم اللاحق لخطاب مبارك -المشار إليه سابقًا- بأن صلاة الجمعة تسقط بأعذار كثيرة، منها خوف الفتنة على النفس والمال، ومن ثم أباح للناس تَرْك صلاة الجمعة في الرابع من فبراير/شباط 2011 بعد خطاب مبارك بـ3 أيام، وذلك ليقطع الطريق على المظاهرة المليونية التي دعا إليها القرضاوي الذي يَرد ذكره في سياق المقابلة التلفزيونية نفسها.

لم يكتف جمعة بهذا، فقد راح يتحدث -عبر قنوات أخرى- عن "فتنة عمياء" وأن التظاهر محرّم، لأنه "خروج على الشرعية"، وأن تونس "لم تحقق شيئًا من هذا الهياج" -يقصد الثورة- وأنه "تَبَين أمام العالم كله أن الشعب مع مبارك"، ثم حيّا الرئيس مبارك؛ لأنه مدّ يده بالحوار، وأفتى جمعة بوجوب انسحاب المتظاهرين من الشوارع.

ولكن جمعة عاد بعد نجاح ثورة 25 يناير فقال في الأول من أبريل/نيسان 2011: "إن المظاهرات السلمية مباحة بحسب فتوى سابقة لدار الإفتاء منذ 5 سنوات، لأنها أمرٌ بالمعروف ونهي عن المنكر، ولأن ضياع الحقوق هو سبب الفتنة وليس المظاهرات". ثم برّر موقفه المعارض للثورة بأنه "خاف من الفتنة ومن سفك الدماء"، وحين سُئل: لماذا لم يختر الوقوف في وجه حاكم ظالم؟ قال إنه حاول ذلك، ولكن الباب كان مغلقًا، فماذا يفعل؟ هل يترك الأمور تتدهور أم يوقف الدم؟

ثم بعد عزل الجيش للرئيس المنتخب محمد مرسي، دعم جمعة النظام الجديد، وظهر في كلمة مسجلة في "إدارة الشؤون المعنوية" مخاطبًا الجيش المصري وقياداته بتاريخ 18 أغسطس/آب 2013، كما كُتب على الفيديو الذي تم تسريبه بتاريخ 23 أغسطس/آب 2013. في هذه الكلمة، عاد جمعة إلى حديثه السابق عن الخروج وقتال الخوارج وعن الفتنة التي سببها "كلاب النار" وعن عزل الرئيس. ورغم أنه تجنب -عمدًا طوال كلمته- تسمية أو تحديد من يتحدث عنهم، فإن الفيديو سُجل وسُرِّب في سياق المظاهرات والاعتصامات بعد فض رابعة بالقوة المفرطة التي خلفت الكثير من الضحايا.

وقد اشتملت كلمته على قضايا عديدة، منها "الإمام المحجور" في الفقه -يقصد مرسي- وأنه ذهبت شرعيته بحبسه، ثم بإحالة أمره إلى القضاء، وتحدث طوال كلمته بشكل مبهم عن "هؤلاء" الذين يسيلون الدماء، وأن من يخرج منهم هو الذي عرّض نفسه للقتل، ووصفهم بالبغاة والخوارج، وقال عنهم: "إذا أُطلق من طرفهم أو ممن كثّر سوادهم ولم يكن منهم، أو كان من جهتهم، طلقة رصاص واحدة: اضرب في المليان".

قد حرض جمعة الجيش على ألا يتردد في ذلك وأن الله ورسوله والمؤمنين معه. وأحال في كلمته إلى أحداث وقعت أيام الأربعاء والخميس والجمعة والسبت والأحد (14-18 أغسطس/آب 2013 بناء على تاريخ الفيديو)، وكان فض رابعة قد وقع يوم 14 أغسطس/آب 2013. وأشار إلى أن "الدفع بالقتل أنفى للقتل"، وقال: "أقتل 100 حتى لا أقتل ألف"، وذكر حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في سياق الحديث عن قصة هجومها على مسجد سيطر عليه جماعة "أهل النصرة"، قائلاً "خوارج يضربون خوارج"، وتحدث عما وصفه باعتداء "المعتدين على مسجد رابعة العدوية" ومسجد الفتح، واستعمل في كلمته ألفاظا قاسية غير التحريض على القتال والقتل، مثل: النباح، والأوباش، وناس نتنة ظاهرًا وباطنًا، واللواعة، وغير ذلك.

ثم عاد جمعة يوم 28 ديسمبر/كانون الأول 2013 فأنكر -في لقاء مع الإعلامي عمرو أديب- أنه وصف الإخوان بأنهم خوارج، وتحدث عن التشبه بالخوارج، وأنه بقوله "اضرب في المليان" كان يقصد "من يرفع السلاح على الجيش المصري"، كالجماعات المسلحة التي قامت بقتل أفراد الجيش في رفح 1 ورفح 2 وفي سيناء وفي تفجير الدقهلية، رغم أن توقيت كلامه ومضمونه والإحالات التي فيه والإبهام والعموم المقصود فيه على طول الخط تشمل ما هو أعم من ذلك، خصوصًا التحريض على القتل من دون تحفظ، فقد تكلم كما لو كان قائدًا عسكريًّا.

محمد سعيد رمضان البوطي

أما الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، فقد اتسمت مواقفه بالاضطراب في القضية الواحدة، وقد وقع هذا منه في مواقف عدة؛ أشرتُ إلى عدد منها في مقال لي بعنوان "الدين والسلطة والعلماء وقضايا التغيير.. البوطي نموذجا" في صحيفة الحياة اللندنية 21 يناير/كانون الثاني 2012. وسأضيف هنا ما يتعلق بالثورات تحديدًا، فقد كتب البوطي في أحد كتبه التي نشرت عام 2011 "أن الإنكار اللساني من الناس يجب أن يستمر، لكن أيحقّ لهم في مجال الحوار أن يطالبوا الحاكم بالتنحي عن الحكم عندئذ دون أن يتجاوزوا في ذلك حدود الحوار والكلام؟"، ثم أجاب: "الذي أعلمه أن هذا لا يُعدّ -بحدّ ذاته- خروجا على الحاكم؛ إذ الخروج الذي حذر منه علماء الشريعة الإسلامية هو العمل على خلعه بالقوة، أي بقوة السلاح، والاحتجاجات اللسانية بوسائلها السلمية المعروفة اليوم لا تدخل في المعنى الذي حدده العلماء لكلمة (الخروج على الحاكم)"، ثم حين وقعت المظاهرات السلمية في سوريا، قال البوطي يوم 20 يوليو/تموز 2011 إنها حرام وخروج على الحاكم، بل ادّعى أيضًا الإجماع على ذلك، مع أنه اكتفى -في كتابه السابق- بالقول: "إنها مما اتفق عليه جمهور المسلمين".

تحيل هذه التقلبات لدى الأسماء الثلاثة السابقة إلى تجاذبات السلطة، كما تعكس تغير موازين القوى أيضًا. ومع ذلك ثمة فوارق بين الأسماء الثلاثة:

فالمنصب الرسمي فرض محددات في حالة شيخ الأزهر الذي يرأس مؤسسة رسمية هي جزء من جهاز الدولة ومعبّرة عن مصالح النظام الحاكم. ولذلك تقلّب شيخ الأزهر بين دعم مبارك، وتَبَني الفعل الثوري في وثيقة "الربيع العربي" التي يَرد فيها تأييد الثورات الخمس، فعبرت عن الحالة الثورية في مصر التي أفرزت رئيسًا منتخبًا، ولا سيما أن الوثيقة كانت تتويجًا لمناقشات رعاها الأزهر بين المثقفين ومختلف الفرقاء، ثم عاد شيخ الأزهر إلى تأييد النظام الجديد ودعم الحاكم المتغلب والانضواء تحته، الأمر الذي أدى إلى إنهاء الحالة الثورية.

فرغم عدم الاتساق في مضمون تصريحات شيخ الأزهر من الناحية المعيارية، فإنه بالنظر إلى مقتضيات "المنصب الرسمي" يبدو ثمة اتساق لجهة أننا أمام ممارسة سياسية هي جزء من جهاز الدولة ومعبرة عن مصالح نظامها الحاكم والتقلب معه. فهنا، تتراجع الوظيفة المعيارية لمشيخة الأزهر لصالح الوظيفة السياسية.

أما علي جمعة الذي انتهت ولايته مفتيًا للجمهورية في عهد الرئيس مرسي ولم يُجدَّد له، مع رغبته في التجديد، فإنه تداخلت لديه محددات المنصب الرسمي والمطامع الشخصية، ومن ثم كثر تقلبه وأسرف في التحريض غير المنضبط، فدعم مبارك وحرم التظاهر ضده واعتبره خروجًا وفتنة، ثم قال بإباحة التظاهر وإن الظلم هو الفتنة لا التظاهر، ثم دعم الانقلاب وحرض ضد المتظاهرين وعاد إلى خطاب الخروج والفتنة، بل والتزلف للسلطة المتغلبة وخدمتها، طمعًا في منصب أو مكسب، وهنا لا مجال للحديث عن وظيفة فقهية معيارية، إذ إن المحرك الأساسي هو الهوى حيث يتداخل لديه السياسي والشخصي.

أما البوطي، فيبدو -في مواقفه المختلفة التي لم أسردها هنا- مرتبكًا، نتيجة التردد بين قناعاته الشخصية المحكومة بتصوراته القائمة على معلومات مصدرها النظام السوري وأجهزته الأمنية، وبين تغيرات سياسة النظام التي لم يكن البوطي قادرًا على استيعابها أو مواكبتها، فخضوعه للسلطة وتسليم قياده لها أوقعه في الارتباك، ولا سيما أنه لم يشغل منصبًا رسميًّا يحقق له الانتظام في صلته بالسلطة، فكان يُقرَّب تارة ويُهمل أخرى، فتارة يهجم بناء على تصوراته، وأخرى يبلغ عن أجهزة النظام.

يوسف القرضاوي

أما الشيخ القرضاوي، فقد اتسقت مواقفه من الثورات في دولها الخمس، وكانت البداية من تعليقه على حادثة إحراق محمد البوعزيزي نفسه يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، احتجاجًا على مصادرة عربة الخضار التي يتكسب بها، ورفْض شكواه التي رفعها ضد شرطية صفعته علنًا، الأمر الذي أشعل احتجاجًا شعبيًّا أطاح بالرئيس بن علي بعد نحو شهر من الواقعة.

عذر القرضاوي البوعزيزي بأنه لم يكن حرًّا حينما أَقْدم على إحراق نفسه، وحمّل المسؤولية الكاملة لـ"الأنظمة الطاغوتية" التي "جعلت هذا الشعب يعيش في أزمة نفسية"، ثم دعا اللهَ له بأن يمنحه العفو والمغفرة، ودعا المسلمين عامةً بأن يشفعوا لهذا الشاب عند الله، "لأنه تَسَبّب في هذا الخير؛ في إيقاظ الأمة" وهذا في حديث للشيخ على قناة الجزيرة يوم 16 يناير/كانون الثاني 2011، ثم أصدر القرضاوي بيانًا بتاريخ 19 من الشهر نفسه أوجبَ فيه على الأنظمة السياسية أن تجد حلاًّ لهذه المشاكل، ودعا الشباب إلى الحفاظ على حياتهم وأن "الذي يجب أن يُحرَق هم الطغاة الظالمون"، وأنه "لدينا من وسائل المقاومة للظلم والطغيان ما يُغنينا عن قتل أنفسنا".

وفي مصر، دعا القرضاوي المصريين إلى تظاهرة مليونية يوم الجمعة الرابع من فبراير/شباط 2011 في ميدان التحرير، وأفتى بأن مَن قُتلوا على أيدي أجهزة الشرطة والأمن هم شهداء، وأن هذا النوع من الاحتجاج لا يدخل في باب "الخروج على الحاكم" الذي يحظره الفقهاء، ثم أمّ الناس في ميدان التحرير بعد رحيل مبارك يوم 18 من الشهر نفسه.

وفي ليبيا، لم يتأخر القرضاوي عن تأكيد موقفه السابق، وأنه ينطبق على الحالة الليبية أيضًا، فقد أيد المظاهرات بتاريخ 20 فبراير/شباط 2011، ثم خصص خُطبة كاملة لها في الدوحة في 25 من الشهر نفسه جاء فيها: أن "من واجب الأمة أن تطلب حقوقها وأن تقول للظالم: يا ظالم".

وفي اليمن، صاغ القرضاوي بيانًا للرد على بيان "جمعية علماء اليمن" التي رأت أن "الخروج على الحكام محرَّم شرعًا؛ سواء كان بالقول أم بالفعل"، وأن "المظاهرات والاعتصامات الحالية في الطرقات العامة والأحياء السكنية وما يحدث فيها: محرّمة شرعًا وقانونًا".

فند القرضاوي هذه الادعاءات وجمع في بيانه بين الحجج الفقهية والنصية والاعتبارات الحديثة لفكرة الدولة الديمقراطية في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 2011، فأوضح أن الحاكم الحالي الذي يدافع هؤلاء عنه ويدعون إلى طاعته هو حاكم جمهوري استبد بالسلطة منذ 33 سنة، والحكم الجمهوري يوجب تداول السلطة بعد مدة محددة، وأن هذا الحاكم جاء بانقلاب عسكري، وأن الدستور الذي وضعوه والقوانين التي صدرت عنه تبيح لهم الخروج في مظاهرات سلمية.

وخلال خطبة الجمعة يوم 25 مارس/آذار 2011 في سوريا، انتقد القرضاوي موقف البوطي المؤيد للنظام السوري، ورأى أن "قطار الثورة" قد تأخر في الوصول إلى سوريا. وقد انتقد الخطوات التي اتبعتها السلطة، كما انتقد قسوة قوات الأمن وتعاملها مع المتظاهرين السلميين، ووجّه نقدًا شديدًا لرأس النظام.

ثم عاد فتحدث عن الموضوع مجددًا في الخطب اللاحقة، ففي الأول من أبريل/نيسان 2011 كرر انتقاداته للنظام السوري وإدانته لإطلاق الرصاص على المتظاهرين، وطالب بضرورة إلغاء قانون الطوارئ، وسَخِر من تهديدات النظام السوري له بالمحاكمة بتهمة "النيل من هيبة الدولة"، وفي الشهر نفسه، ردّ على من سماهم "علماء السلطة في سوريا" ووجه انتقادات شديدة لهم، وخصَّ بالذكر منهم البوطي، داعيًا إياه للاحتكام إلى الشرع وأحكامه. وفي يوم 23 من الشهر نفسه، ردّ على البيان الذي أصدره وزير الأوقاف ضده وحمل اسم "كبار علماء سوريا"، فوجه انتقادًا لاذعًا للوزير الذي ادّعى أن القرضاوي أقحم نفسه في الشأن السوريّ، مخاطبًا إياه بالقول: "خولني التدخل في الشأن السوري شخص اسمه محمد بن عبد الله رسول الله، وكتاب اسمه القرآن".

هكذا يبدو القرضاوي يقوم بوظيفة معيارية، في محاولة لاستعادة الدور التاريخي للعالِم الذي هو أشبه بالمثقف العضوي المنتمي لأمته، لا المتحدث باسم السلطة أو الموظف لديها، ومن ثم بدا أكثر اتساقًا من مخالفيه الذين لو ثبتوا على القول بمعارضة الثورات لكان أسلمَ لهم وأكثر إقناعًا. في حين أن القرضاوي أيد -على طول الخط- الشعوب الثائرة، والمظاهرات السلمية التي هي الوسيلة لتحقيق النظام الديمقراطي لديه، ولتحقيق مطالب العدل والحرية التي تسبق الشريعة عنده، ومن ثم انشغل بإثبات فكرة أن المظاهرات ليست هي "الخروج على الحاكم" بالمفهوم التاريخي، وإنما هي من باب جهاد الظلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولكنه في معارضته للانقلاب العسكري وتأييده لشرعية الرئيس المنتخب، عاد للحديث عن مفاهيم البيعة والسمع والطاعة من الناحية الشرعية إلى جانب حديثه -من الناحية الدستورية- عن الانتخاب والدستور، كما استعمل مفهوم "الخروج" في رده على خطاب علي جمعة الذي تحدث في كلمته للجيش عن "الخوارج"، وقد يكون ذلك من باب المشاكلة في سياق السجال، ولكنها عمومًا تعكس طريقة الشيخ في المزاوجة بين المصطلحات التراثية والحديثة من دون تدقيق، بل إنه لم يكن يرى بأسًا في ما أسماه "تحوير المفاهيم"، وهو الأمر الذي سبق لي نقده في دراسة سابقة.

.....

- المصدر: الجزيرة نت، 20-10-2022