محمد وثيق الندوي (مدير تحرير صحيفة الرائد)

فقدت الأمة الإسلامية علمًا من الأعلام، وشيخ الإسلام، وإمام البيان، ورجل القرآن، وفقيه العصر الموسوعي، وهو الدكتور يوسف القرضاوي، توفي في 26/9/ 2022م عن عمر يناهز 96 عامًا قضاها في خدمة الأمة الإسلامية، والحضارة الإنسانية، فأغمد بوفاته قلمٌ كان سيفًا على الملاحدة والمنحرفين، لم يفل له حدّ، طالما أرعب الأعداء والخصوم، وسكت لسانٌ ظل يجلجل ويدوِّي، بالدعوة إلى الله، والتوجيه والإرشاد، والتصنيف والتأليف، والتعليم والتربية، والمحاضرات والأحاديث.

وقد مرَّ الدكتور القرضاوي في حياته الحافلة، بأحداث فاصلة، وظروف قاسية، تعرَّض للاعتقال والتعذيب في عام 1949م في العهد الملكي، وفي يناير 1954م وفي سبتمبر من نفس العام، وفي عام 1963م في العهد الناصري.

وللدكتور يوسف القرضاوي خدمات عظيمة، وأعمال جبارة، وجهود مشكورة، تتوزع على مجالات مختلفة: مجال الفقه والفتوى، ومجال الدعوة والتوجيه، والتعليم والتربية، ومجال الاقتصاد الإسلامي، والعمل الاجتماعي والخيري، والعمل الحركي، والمشاركة في الندوات والمؤتمرات، وله مؤلفات دسمة، وكتب قيمة يبلغ عددها أكثر من 170 كتاباً في موضوعات مختلفة، كما أدى دورًا كبيرًا في تنزيل الفقه الإسلامي بِيُسْرٍ في حياة الناس المعاصرة، وكان أديب الفقهاء وفقيه الأدباء، ومفكرًا إسلاميًا كبيرًا، وداعية ومعلمًا وموجِّهًا حكيمًا، لا تنسى جهوده في هذه المجالات.

لقد عاش الدكتور القرضاوي حياته كلها محاربًا للقوى المعادية للإسلام في الداخل والخارج، والتصدِّي لتياراتها، والعمل لهدم أوكارها، وهتك أستارها، وكشف عملائها، فوقف في وجه الاستعمار والصهيونية التي اغتصبت الأرض المقدسة وشرَّدت سكانها الأصليين، وخطِّطت لهدم المسجد الأقصى، كما قاوم الشيوعية والعلمانية اللادينية والحضارة المادية، وكان -كما أخبرني الذين عرفوه عن كثب وجربوه- إنسانًا رقيق القلب، قريب الدمعة، نقي السريرة، صافي الروح، حلو المعشر، كريم الخلق، عذب الحديث، بسيطًا متواضعًا، بعيدًا عن التكلُّف والتظاهر، تسبق العبرة إلى عينيه إذا سمع أو رأى موقفًا إنسانيًا، ويهتزُّ خشوعًا وتأثُّرًا إذا ذكر الله والدار الآخرة، وعاش عمره كله حرَّ الضمير، حرَّ القلم واللسان، لم يعبد نفسه لأحد إلا لربِّه، ولم يبع ضميره ولا قلمه لمخلوق مهما كانت مكانته، فلم تلن له قناة، ولم يغرّه وعد، ولم يثنه وعيد.

وكانت له صلة قوية وطيدة بسماحة العلامة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي، الذي لقيه أول مرة عام 1951م حينما زار الشيخ الندوي مصر مع أنه قد تعرَّف عليه بقراءة كتابه الشهير "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" كما كتب في سيرته الذاتية، ثم توثَّقت هذه الصلة بمرّ الأيام، وتواصلت اللقاءات والزيارات في المناسبات المختلفة.

فقد زار الدكتور يوسف القرضاوي ندوة العلماء عدة مرات وأقام بها، وألقى محاضرات في التفسير، والحديث، والعقيدة، والفقه وأصوله، والدعوة والفكر الإسلامي، حضر مع فضيلة الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري وفضيلة الشيخ عبد المعز عبد الستار في المهرجان التعليمي لندوة العلماء عام 1975م، يقول في سيرته الذاتية "ابن القرية والكتاب: ملامح سيرة ومسيرة"(3/353).

"كان من أهم ما حدث في أواخر سنة أكتوبر سنة 1975م، المشاركة في مهرجان ندوة العلماء بلكناؤ، الهند، الذي دعا إليه الداعية الإسلامي الكبير حبيبنا العلامة الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي رئيس ندوة العلماء، وذلك بمناسبة مرور خمسة وثمانين عامًا على تأسيس ندوة العلماء التي قامت بدور مذكور مشكور، معروف غير منكور، في إقامة تعليم إسلامي، يأخذ من التراث ما صفا، ويدع ما كدر، يجمع بين العلم الواسع والإيمان الراسخ، يوفِّق بين صحيح المنقول وصريح المعقول، يرحِّب بكل جديد نافع، ويحرص على كل قديم صالح، يؤمن بثبات الأهداف، ومرونة الوسائل، هو في الأولى في صلابة الحديد، وفي الثانية في ليونة الحرير".

ثم زار ندوة العلماء عام 1980م وأقام بها عشرة أيام، قضاها في إلقاء محاضرات وأحاديث في مختلف مجالات العلوم الإسلامية، يقول عن هذه الزيارة وهو يعبر عن انطباعه عن دار العلوم لندوة العلماء:

"وفي دار العلوم: التقيت علماءها الذين تميَّزوا على غيرهم بأنهم يجمعون بين العلم والعمل، وأن الجانب الرباني حيٌّ في نفوسهم، ورثوه من آباء الندوة، ومؤسسيها الكبار: الشيخ شبلي النعماني، والسيد سليمان الندوي، والسيد عبد الحي الحسني، وعلامة الهند اليوم السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي، فكلهم نجوم هادية، ومنارات إيمانية، يعلِّمون العلم، يملئون به الرؤوس، ويعلِّمون الإيمان، يزكون به النفوس، ولذا نرى طلاب الندوة طرازًا فريدًا من المؤمنين الصادقين الذين يتعلمون فيَعْلَمون، ويَعْلمون فيَعْمَلون، ويعملون فيخلصون، ويخلصون فيقبلون، إن شاء الله". (ابن القرية والكتاب، ص:4/104)

ثم زار ندوة العلماء عام 1997م، وأقام بها أسبوعًا، وألقى محاضرات قيمة، وظلت صلته بندوة العلماء بعد وفاة الشيخ الندوي في 31/ديسمبر 1999م وخاصة برئيسها العام فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي باقية إلى وفاته، وقد كتب فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي الرئيس العام لندوة العلماء رسالة تعزية على وفاته، فيقول:

نحمده ونصلي على رسوله الكريم وبعد.

فقد ودَّعت الأمة الإسلامية اليوم علمًا من أعلامها الأفذاذ، العلامة الدكتور يوسف القرضاوي الذي عاش عمره المبارك للعلم والأدب، يعلِّم ويدرِّس، يجيب ويفتي، بحكمة بالغة، ورفق وبصيرة، فعاش جنديًا وحارسًا للإسلام، فأيما شخص اقترب من الإسلام يريد اختراق قلاعها وهدمها صرخ بأعلى صوته لمقاومته؛ يوقظ النائمين، وينبِّه الغافلين، وقد قاوم الفكر الوافد، وترك تراثًا ضخمًا، يتمثَّل في عشرات الكتب في الدين والفكر، والأدب والتاريخ، والتربية والدعوة، والإصلاح والتوجيه.

وكانت له صلة قوية بشيخنا العلامة أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله، وقد ألَّف كتابًا حول حياته "الشيخ أبو الحسن الندوي كما عرفته" وزار ندوة العلماء عدة مرّات، وأقام بها وألقى محاضرات علمية قيمة استفاد منها الأساتذة والطلاب، وشارك في الحفلة التي عقدتها رابطة الأدب الإسلامي العالمية في تركيا تكريمًا لسماحة الشيخ أبي الحسن الندوي، وألقي فيها كلمة مستفيضة حول حياة الشيخ الندوي.

وكذلك كانت بيني وبينه صلة شخصية، وشاركنا معًا في عدد من الندوات العلمية والأدبية، فكان معطاء لم يتوقَّف عن العمل، ولم تخب شعلته أو تنطفئ شمعته، حتى توفاه الله تعالى اليوم (26/9/2022م) فإنا لله وإنا إليه راجعون.

رحم الله العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، وغفر له وكتبه في المحسنين، وحشره مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

                             محمد الرابع الحسني الندوي

                         الرئيس العام لندوة العلماء، لكناؤ 26/9/2022