السؤال: ما رأي فضيلتكم فيمن يستمع إلى آيات الرحمة فقط ولا يستمع إلى آيات العذاب؟ ويكتفي بالقليل من الأعمال ويقول: رحمة الله وسعت كل شيء، هل يتساوى بعمله القليل بمن يعمل لينال أعلى الدرجات في الجنة؟

جواب فضيلة الشيخ:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

كيف يستمع آيات الرحمة ولا يسمع آيات العذاب؟! الله تعالى يقول: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} (الحجر:49-50)، هل سيقرأ الآية الأولى ويترك الآية الآخِرة؟! يقول تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} (الرعد:6)، هل سيقرأ نصف الآية ويترك النصف الآخر؟! يقول: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (غافر:3)، هل سيقرأ نصف الآية ويترك النصف الآخر؟! أيقرأ: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ}، ويترك: {شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ}؟!

ما معنى أن يستمع إلى هذه الآيات ويترك هذه الآيات؟! الآيات متصلة بعضها ببعض، المغفرة والرحمة مع البطش والعذاب، وهذا التداخل بين التبشير والإنذار يحدث توازنًا في النفس الإنسانية، وهذه طريقة القرآن، ومنهج القرآن، يمزج الرجاء بالخوف، والخوف بالرجاء، يذكر الجنة ويذكر معها النار، أو العكس؛ حتى يرجو العبد رحمة ربه ويخاف عقابه، كما قال الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر:9)، كما قال في آية أخرى عن بعض عباده: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (الإسراء:57).

بل قد تجد هذا المزج في الموضع الواحد، الموضع نفسه بشارة ونذارة، قال تعالى:{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} (يس:11)، لم يقل خشي القهار، أو خشي الجبار، وإنما قال: خشي الرحمن؛ ليكون تخويفًا في تأمين، وتحريكًا في تسكين، الذي تخشاه هو الرحمن، فالعبارة الواحدة تجمع الأمرين معًا، تجمع التخويف والترجية، والتحريك والتسكين معا، فليس من الصواب أن يذكر الأخ آيات الرحمة وينسى آيات العذاب، أو يستمع إلى هذه ويغفل تلك.

رحمة الله ليست مطلقة:

أما أن يكتفي الأخ بالقليل من الأعمال ويقول: رحمة ربي وسعت كل شيء، فأولًا رحمة الله وسعت كل شيء حقيقة، ولكن الآيات خصت هذه الرحمة، حتى هذه الآية التي جاءت في سياق الحديث عن سيدنا موسى، ودعائه ربه: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}، فرد الله تعالى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (الأعراف:155-156)، فقيَّد في العذاب وأطلق في الرحمة, خصص في العذاب وعمَّم في الرحمة. ثم قال بعد هذا مباشرة: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} (الأعراف:156-157)، فرحمة الله ليست مطلقة هكذا، مفتوحة على مصراعيها، هي مقيدة، {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}، وكما قال الله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف:56).

ولذلك حينما سأل هشام بن عبد الملك الإمام أبا حازم في مقابلة تاريخية ذكرها العلماء سأله عدة أسئلة، وكان مما سأله أن قال له: يا أبا حازم، ما بالنا نحب الدنيا ونكره الموت؟ فقال له: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخرتكم، والإنسان يكره أن ينتقل من العمران إلى الخراب. ثم قال له: فما لنا عند الله؟ قال: اعرض عملك على كتاب الله، فقد قال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار:13-14)، فلو كان عملك عمل الأبرار فأنت في نعيم، وإن كان عملك عمل الفجار تكون في جحيم، قال: فأين رحمة الله؟ قال: رحمة الله قريب من المحسنين، فإذا كنت تبحث عن رحمة الله فإن رحمة الله قريب من المحسنين(1).

..............

 (1) مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة (ص 135).