محمد حمزة العزوني

محمد حمزة العزوني

لست أدرى ماذا أقول عن خالي العظيم، فما الذي يقوله العطش للماء, وما الذي يقوله المريد لشيخه, وما الذي يقوله ابن لوالده, فالخال والد.

لكن فلنبدأ من البداية.. في البداية كانت علبة.. والعلبة كانت في الدولاب, علبة جميلة مفضضة الحواف, حين كنت أطلب قرشا من أمي كانت تشير إلى الدولاب قائلة: - افتح علبة خالك الشيخ يوسف, وخد القرش، وحين تطلب منى أمي أن أشترى شيئا من الدكان كانت تقول أيضا: - افتح علبة خالك الشيخ يوسف وخد الفلوس.

عرفت فيما بعد أن هذه العلبة المفضضة كانت علبة حلوى, وكانت بعضا من هدية أهداها الشيخ إلى أمى ليلة زفافها وكثيرا ما كنت اسأل أمي عن خالي الشيخ ولماذا لا يزورنا مثل باقي الأقارب, فكانت أمي تقول: إنه يقيم في مكان بعيد, في دولة بعيدة اسمها قطر, وأنه لا يستطيع المجئ إلى مصر حتى لا تسجنه الحكومة.

وحين تقول أمي هذا أرى سحابة حزن تخيم على وجهها وأكاد أرى دموعا تترقرق في عينيها فأسكت ولا أزيد, ومرة تجاسرت وقلت لها: ولماذا تسجنه الحكومة يا أمي, الحكومة لا تسجن إلا المجرمين, فهل خالي الشيخ مجرم؟ لست أدرى كيف نطقت بهذه الكلمة الشريرة, فما إن نطقتها حتى ندمت, و تمنيت لو أن الأرض انشقت وبلعتنى, لأن أمي أجهشت بالبكاء على الفور.

كان أبى هو الذي أجابنى عن هذا السؤال، قال أبى: - خالك الشيخ بطل عظيم من أبطال الإسلام فهو عضو في جماعة اسمها الإخوان المسلمين, بل زعيم من زعمائها الكبار. ثم راح يحكى لي عن هذه الجماعة, عن تاريخها البعيد منذ أنشأها حسن البنا, عن كفاحها ضد الانجليز, وجهادها في فلسطين, عن السجن والتعذيب الذي تعرض له الإخوان في عصر الملك وعصر الثورة وكيف قتل الملك فاروق الإمام الشهيد حسن البنا.

ثم حكي عن مساندة الإخوان للثورة في البداية, ثم خلافهم مع عبد الناصر الذي أودعهم السجون وشنق زعماءهم في النهاية.

ثم ختم أبى حديثه قائلا: خالك الشيخ سجن أكثر من مرة وعذب كثيرا في سجنه, ومن رحمة الله بنا أنه كان في قطر في المرة الاخيرة, لو كان هنا لتعرض للسجن بل للإعدام -لا قدر الله- فهو واحد من زعماء الإخوان الكبار.

ربما لم أفهم وقتها كثيرا مما قاله أبي، لكن ما أعجبني في الحكاية كلها واستثار عاطفتي أن لي خالا بطلا تطارده الحكومات وتتعقبه الشرطة كأنه أدهم الشرقاوي، ولعل الوحيد الذي استطاع ان يداعب أشواق الطفولة وأن يلهب خيال الطفل الذي كنته حينذاك هو خالي عبد الحميد الحجر -وهو خال الشيخ و خال والدتي- كان يرحمه الله حكاء عظيما وكانت حكاياته عن الشيخ تختلط فيها الوقائع بالأساطير، كان في حكاياته أقرب إلى رواد السير الشعبية القدامي.

رباه.. أين ذهبت هذه الحكايات كلها, كيف تسربت من ثقوب الذاكرة, يالى من خائب, كيف لم أسجل هذه الحكايات لوقتها. كان خالي عبد الحميد يأتي إلى بيتنا دائما وقت الظهيرة, كان يبدأ جلساته في الأغلب بأن يقرأ قليلا في كتاب "الحلال و الحرام في الإسلام", حيث كان هذا الكتاب قد أخذ مكانه في دولابنا, جنبا إلى جنب مع علبة خالي, ثم يبدأ بعد ذلك ليحكى سيرة الشيخ يوسف, ما أمتع حكايات هذا الرجل الجميل, كان قصاصا بالفطرة, وروائيا بالسليقة, لست أذكر الآن من حكاياته الكثيرة إلا حكاية واحدة قصيرة، ربما أتذكرها لأنها تكررت كثيرا على لسان كثيرين منهم أبى، ربما أتذكرها لأنها كانت مكثفة وقصيرة كأنها قصة قصيرة.

الحكاية تتلخص في أن الشيخ قبضت عليه السلطات ذات مرة بعد إلقائه خطبة هاجم فيها الحكومة, وحين أخذ المحقق يناقشه في موضوع الخطبة, أسرع الشيخ وأخرج من جيبه مصحفا صغيرا وضعه أمام المحقق وقال له: هذا هو الكتاب الذي أستمد منه جميع موضوعات خطبي وأنت تستطيع بقلمك الأحمر أن تشطب على كل الموضوعات التي لا تعجبك في هذا الكتاب، فبهت المحقق ولم ينبس ببنت شفة, وأفرج عن الشيخ.

لعل هذه الحكاية حدثت في العصر الليبرالي, لذا بهت المحقق وسكت وأفرج عن الشيخ, فقد جاء بعد ذلك عصر طلب فيه من الإخوان أن يقرءوا الفاتحة بالمقلوب.

في منتصف السبعينيات خرج الإخوان من السجون, وأصبح الشيخ قادرا على زيارة مصر, وكان في كل مرة يزورنا في القرية, ويمر على بيوت الأقارب والأصدقاء بيتا بيتا, ولعله لم يتخل عن هذه العادة إلا مؤخرا, تحت وطأة ظروفه الصحية.

في هذه الفترة ظهرت كتبه التي كانت ممنوعة, وسوف أتوقف الآن عند كتابين فقط كان لهما أكبر الأثر في تشكيل فكرى ووجداني.

أما الكتاب الأول فكان كتاب "مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام"، قرأت هذا الكتاب وأنا في أول عهدي بالجامعة, حيث كانت الأفكار الاشتراكية هي أول عتبة نستريح عليها نحن الفقراء القادمين من حواري الجوع الكافر إلى قاهرة المعز.

لكن شاء الله أن اقرأ هذا الكتاب العظيم في تلك الفترة المبكرة لأعرف أن لدينا ما هو أعظم كثيرا من الاشتراكية وأكثر عدلا منها.

وحين قرأت كتاب "حتمية الحل الاسلامى" بجزأيه "الحلول المستوردة و كيف جنت على أمتنا" و "الحل الإسلامى فريضة وضرورة"؛ تأكدت من عظمة ما لدينا من كنوز ثمينة, وأننا حين نتغافل عن هذه الكنوز, ونمد أيدينا شرقا وغربا, نكون أشبه بالوارث السفيه الذي يجلس على كنز عظيم،  لكنه يجهل قيمة هذا الكنز الموروث و يتغافل عنه ويروح يمد يديه ليستجدى الناس أعطوه أو منعوه.

بعد هذا توالت كتب الشيخ حتى وصلت الآن أكثر من مائة كتاب، وقد قرأت أغلب هذه الكتب مرارا وتكرارا، وسوف أتحدث الآن عن الانطباع العام الذي تركته فيّ كتب الشيخ؛ فحين أقرأ هذه الكتب تنفض كل تلك الاشتباكات التي أربكتنا زمنا طويلا، ولا تزال تربك الكثير منا حتى الآن، ينفض هذا الاشتباك الزائف بين العروبة والإسلام؛ فإذا العروبة هي مادة الإسلام، وإذا الإسلام هو روح العروبة ورسالتها الخالدة، كما ينفض الاشتباك المصطنع بين الدين والعلم، وبين الأصالة والمعاصرة، وكل تلك الاشتباكات التي أدخلتنا في مناقشات بيزنطية عقيمة لا فائدة منها ولا جدوى.

وجدت عند الشيخ أجوبة شافية لكل الأسئلة الحارقة التي دوختني زمنا طويلا وأنا أبحث عن ماضينا وحاضرنا وأتساءل عن هويتنا الحضارية وموقعنا بين الأمم، تأتي أجوبة الشيخ دائما وافية شافية؛ ذلك لأن الشيخ موصول دوما بوحي السماء وميراث النبوة، متصل بتراثنا الإسلامي كله من أوله إلى آخره.

أمر آخر يحدث لي حين أقرأ كتب الشيخ فكثيرا ما أجد نفسي -بحكم اشتغالي بالأدب- مفتونا بلغة الشيخ الجميلة وبيانه الرائع، فرغم الموضوعات العلمية العميقة التي يتناولها الشيخ في كتاباته إلا أنك تجد دائما هذه العربية الصافية المقطرة التي ترق وتسلس كأنما تنهمر من ينابيع ثرة في روح الشيخ ووجدانه.

يحدث لي هذا أيضا مع كتب الشيخ محمد الغزالي، وكثيرا ما أقول لنفسي إذا كان الأدب فنا لغويا في الأساس وإذا كانت اللغة هي مادة الأديب الأولى كما يقول نقاد هذا الزمان؛ فإن أعمال الشيخين أكثر "أدبية " من أعمال كثير من أدباء هذا الزمان.

ورغم أننى -بحكم طبيعتي الخجول- لم أكن أعلن أبدا عن قرابتي للشيخ, فلا أحد خارج القرية يعلم شيئا عن هذه القرابة, اللهم إلا بعض أصدقائى القريبين منى من أهل الأدب, إلا أننى فوجئت في أواخر التسعينات باستدعاء من مباحث أمن الدولة.

في تلك الأيام كنت مديرا لتحرير مجلة الرافعي الأدبية التي كانت تصدر بطنطا وظننت وقتها أن هذا الاستدعاء يخص العدد الجديد من المجلة،  والذي صدر منذ عدة أيام، لكنني فوجئت بأغرب تهمة، فوجئت بأن تهمتي الوحيدة أننى قريب الشيخ القرضاوى.

سألني الضابط بأدب شديد: ما هي قرابتك للشيخ القرضاوى؟ قلت له: الإمام الدكتور القرضاوى هو ابن خالة والدتي, يعنى خالي. قال: متى زاركم أخر مرة؟ قلت له: أنتم أعلم بتحركات الشيخ، وهو لم يزرنا منذ فترة نظرا لظروفه الصحية, لكنه دائم السؤال عنا.

كان السؤال الثاني مباشرة هل أنت من الإخوان؟ تعجبت جدا لهذا السؤال, ولصيغته, وقلت له متحديا: أعتقد أنك تعلم إجابة هذا السؤال جيدا, ومع هذا سوف أجيبك بأن هذا شرف عظيم لا أدعيه, و تهمة لا أنكرها إن كنت تحسبها تهمة, وأنا بالفعل متعاطف مع الإخوان وإن كنت لست منهم.

قال الرجل بنفس أدبه الشديد: بناء على كلامك أنت وتعاطفك مع الإخوان كما تقول, فلا يجب أن تستمر في إدارة هذه المجلة. قلت له: أنتم أحرار تفعلون ما تشاءون فالبلد بلدكم والقرار قراركم.

وكان أن فصلت بالفعل من إدراة هذه المجلة، بعد ذلك عرفت أن هذا كله قد تم بناء على بلاغ من أحد الزملاء, والعجيب أن هذا الشخص كان عضوا بارزا في أحد الأحزاب اليسارية.

مع عصر السماوات المفتوحة, وانتشار الفضائيات وفي مقدمتها قناة الجزيرة, دخل الشيخ إلى كل البيوت على امتداد العالم الاسلامى.

كان الشيخ في تلك الفترة في أوج شهرته، فقد انتهت إليه الرئاسة في علوم الدين، واحتل مكان الصدارة في العالم الإسلامى حتى أصبح فقيه العصر  وإمام الزمان, وأصبح يوم الأحد عيدا للمسلمين -على غير العادة- حيث يذاع فيه برنامج الشيخ "الشريعة والحياة".

كان الشيخ في برنامجه ذاك يمتلك دقة الفقيه وإشراقة الأديب وحماسة الداعية, وحرارة الثائر؛ لذا فإن كلماته كانت تخرج متوهجة بحرارة قلبه المتقد, فتدخل إلى قلوب المستمعين وتخالط دماءهم.

واستطاع الشيخ ببصيرته النافذة أن يرى كوامن الخير في أعماق الأمة, رغم كل ظواهر الشر التي تطفو على السطح؛ لذا ظل الشيخ طوال عمره حريصا أن ينقى هذا الخبث الظاهر على السطح, وأن يصل إلى الأعماق الخيرة بالفطرة وأن يذكرها بالله.

لم يكن الشيخ من أولئك المتشددين المتنطعين الذين يحلو لهم أن يضيقوا على خلق الله المساكين, لكنه كان من أنصار التيسير على الناس, وكم من مرة استشهد بتلك الكلمات النفيسة للإمام سفيان الثوري، "إنما الفقه الرخصة من ثقة, أما التشدد فيحسنه كل أحد".

كان الشيخ لا يتشدد إلا ضد أعداء الأمة. وكان دائما في الصدارة في معارك الأمة وقضاياها الكبرى, كالقضية الفلسطينية على سبيل المثال, ولعلنا لازلنا نذكر مواقفه الحاسمة ضد السلام أو الاستسلام للعدو الصهيوني, ولعلنا لازلنا نذكر موقفه العظيم حين قام أحد أمراء الخليج بمصافحة بيريز؛ يومها لم يتردد الشيخ ولم يتلجلج -كما يفعل غيره- ولكنه قالها صريحة واضحة حين دعا الذين وضعوا أيديهم في أيدى السفاح بيريز أن يتقوا الله ويتوبوا إليه وأن يغسلوا أيديهم سبع مرات إحداهن بالتراب.

هكذا كان الشيخ لا يتشدد إلا في قضايا الأمة وضد أعدائها التقليديين, وفى مواجهة الحكام لا المحكومين. فقد كان يعرف أن ما تعانيه الأمة إنما جاء من تلك الحكومات المستبدة الجائرة, فعمل طوال حياته أن يحارب "ظلم الحكام و حكم الظلاّم".

ولعل أحاديث الشيخ كانت من ضمن الأسباب التي أدت إلى اندلاع الثورات العربية مؤخرا؛ لذا لم يكن غريبا أن يكون الشيخ هو أول من أيد ثورة مصر المجيدة وهى تخطو خطواتها الأولى, بل كان هو الذي أصدر بيان الثورة الأول حين طالب مبارك بالرحيل قائلا له "لقد خربتها وقعدت على تلها"، قالها الشيخ بلهجة فلاح يقف على رأس حقله في صفط تراب, لا بلهجة واحد من الكبار عليه أن يجيد لعبة التوازنات وإمساك العصا من المنتصف، كما فعلها الكثير من الكبار أو الذين يظنهم الناس كبارا, وما هم في الحقيقة بكبار.

صرخت أمى لحظتها -من شدة الفزع- وهى تسمع الشيخ، وقالت في هلع شديد: خالك ده مش هيجبها البر.. إذا ما كانش خايف على نفسه, يخاف على ابنه اللي في الثورة- آه يا أمي الطيبة، ألم تعرفي أخاك الضخم بعد؟! ألا تعرفين أنه فقيه الثورة وإمام الثوار؟

حقا ها هو ذا عبد الرحمن يسقي صبارات الثورة في الميدان، لكن أيداهن الشيخ السلطة من أجل عبد الرحمن، وكل الذين في التحرير؟! -يا أم- هم أبناء الشيخ وهم عنده كلهم عبد الرحمن.

بعدها بأيام قليلة كنت أنا الذي أصرخ مهتاجا من الفرحة: أرأيت يا أم -ها قد أينع الصبار فسقط الطاغية ونجح الثوار، ألم تسمعي يا أم التكبير والتهليل؟!  وها هو ذا الشيخ في التحرير يؤم ملايين الثوار.

أعرفت يا أم اخاك الضخم الآن. ألم أقل لك أنه فقيه الثورة وإمام الثوار.

ــــــــــ

* قاص وناقد رئيس اتحاد كتاب الغربية 15/3/2011.