د. مسعود صبري

د.مسعود صبري

هذه نبضة محب عن الشيخ الجليل علامة زمانه، وفقيه عصره، أبو المحاسن جمال الدين، الشيخ الفقيه الأصولي يوسف بن عبد الله القرضاوي المصري الحنفشعي – كما يحلو أن يسمي نفسه نسبة إلى المذهبين الحنفي والشافعي.

وشيخنا العلامة يوسف القرضاوي أحد أعلام الأمة ورموزها ومجتهديها، شهد له القاصي والداني بالفضل والعلم والفقه والفتوى، صاحب التصانيف الماتعة، والمؤلفات اللامعة، صنف في كثير من علوم الشريعة لسعة علمه واطلاعه وجريان قلمه وغزارة أفكاره. اقترن اسمه بالإفتاء خاصة في القضايا المعاصرة، حتى صار علما عليها، فهو الضيف الدائم لبرنامج ( الشريعة والحياة)، وهو اسم على مسمى، إذ قصد الشيخ منه أن تكون الشريعة مرجعا للناس في حياتهم، وهو صاحب  ( فتاوى معاصرة)، و ( فقه الزكاة)، و( فقه الجهاد) وغيرها من تصانيفه الذي امتازت بالشمولية، فقد كتب في الفقه وأصوله، وفي الاقتصاد الإسلامي، وفي الفكر الإسلامي، وفي علوم القرآن والسنة، وفي العقائد  والتزكية، وفي الدعوة والتربية والصحوة، وفي الحركات والجماعات، وفي الأدب والشعر، وفي السير والتراجم، واهتم أخيرا وليس آخرا بعلم التفسير.

وهو يذكرنا بشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله-، فالشبه بينهما كبير[1]، فقد كان الإمام ابن تيمية – رحمه الله- رجلا بأمة، كما حال شيخنا العلامة القرضاوي، وكان ابن تيمية – رحمه الله- فقيها أصوليا في المقام الأول، والحال في شيخنا القرضاوي كذلك، واهتم الإمام ابن تيمية بالإصلاح بجانب العلم، وكذلك حال شيخنا القرضاوي، واهتم الإمام ابن تيمية – رحمه الله- في آخر حياته بعلم التفسير، والحال كذلك مع شيخنا العلامة القرضاوي أمد الله في عمره وأحسن في عمله، واهتم الإمام ابن تيمية بالجهاد ضد أعداء الأمة، وحال شيخنا مع الاحتلال الصهيوني اليوم كذلك، وكان للإمام ابن تيمية عناية بالبدع والرد على الفرق الضالة وحال شيخنا القرضاوي كذلك، وفي عصرنا اهتم شيخنا القرضاوي بالرد على شبهات العلمانيين والقوميين واليساريين وغيرهم، واهتم كلا الرجلين بعلاقة أمة الإسلام بالدول العظمى كل في عصره، واهتم كلا الرجلين بالتصنيف والتأليف مع الخطابة والإفتاء والتدريس، وهي وظائف علماء الأمة التي يحملونها على كاهلهم، وكتب كل من الرجلين من المصنفات المطولة والمتوسطة والرسائل القصيرة.

وكلا الرجلين من أهل المقاصد، وإن اختلفا مذهبا، وكلاهما على نهج واحد في الفتوى، وهو التوسع في مفهومها، وأنها وسيلة من وسائل الإصلاح وليس التوقف عند بيان حكم الشرع في المسألة، ومن يطالع فتاوى الرجلين يجد بينهما شبها كبيرا.

واهتم كلا الرجلين بواقع الأمة فهو مع الأمة بهمومها ومشاكلها، سواء فيما تعلق بالداخل أو الخارج، وأوجه الشبه بين الرجلين تحتاج إلى نوع تأمل وتقص، فالعلامة يوسف القرضاوي هو بحق ابن تيمية عصره وزمانه.

وشيخنا العلامة يوسف القرضاوي أزهري النشأة لكنه درة الأزهر وتاجه، فقد امتاز العلامة القرضاوي بأنه رجل المؤسسات، وهو فكر عجيب لم يعهد في كثير من شيوخ الأزهر خاصة ممن لم يتح لهم فرصة أن يكون صاحب منصب في الدولة، فدعا إلى إنشاء الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية كمشروع حضاري شامل لمواجهة التنصير والتبشير، كما دعا إلى إنشاء عدة مؤسسات للعناية بفلسطين المحتلة، وفي مجال الإعلام أنشأ موقع إسلام أونلاين، وكان في فترة أكبر موقع إسلاميا، وثاني موقع عربي بعد موقع الجزيرة، كما أنشأ المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث؛ ليكون مرجعا للمسلمين في أوربا، وتوج عمله بإنشاء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين مع ثلة من إخوانه العلماء، وهو رئيسه منذ إنشائه حتى الآن.

وهو بهذا يعطي لنا نموذجا للعالم الفقيه الرباني الذي جمع بين العلم والعمل، وبين الفردية والمؤسستية، وقد انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين منذ ريعان شبابه، ثم ما لبث أن رأى أن يتنحى عن جانب التنظيم حتى تكون كلمته أشمل وأوسع، لأنه يرى أن العالم ملك للأمة كلها بكل أطيافها من أبناء التيار الإسلامي بتنوع أطيافه وغيرهم ممن لا ينتمون إلى حركة بعينها.

كما امتاز العلامة القرضاوي من موقفه من الحكام، وهو موقف امتاز بالوسطية والاعتدال، فهو لا يرفض التعامل معهم بالكلية، ولا هو من علماء السلطان الذين لا هم لهم إلا خدمة ملكهم أو رئيسهم، فهو يتعامل مع الحكام انطلاقا من دور العالم، وهو دور النصح والإرشاد، وبيان الصواب من الخطأ، والحلال من الحرام، ولهذا وقف منذ كان طالبا في معاهد الأزهر، ضد الحكام الظالمين في عهد الملكية، وفي عهد الثورة، ودخل المعتقل عدة مرات، وظل مرفوضا من حكام مصر حتى أعير إلى قطر في بلاد الخليج، فكان موقفه من الحكام جيدا، لا يمنع عنهم نصحًا، ولا يضمر لهم شرا، ومن هنا حار بعض العامة من موقفه لأنهم يظنون أن العالم لابد أن يكون له موقف ثابت من الحكام، إما معهم و ضدهم، والحق أن الشيخ له موقف ثابت، فهو يدور مع الحق حيث دار.

وقد أتيح للشيخ – حفظه الله- أن يجوب غالب بلاد الأرض شرقا وغربا، وكان له تأثير كبير في دول العالم الإسلامي وغير الإسلامي، وهو يرعى بالعناية والتقدير من المنصفين من أبناء البشرية من شعوب العالم.

وليس أدل على مكانة الشيخ ورفيع شأنه مما كتب عنه وهو مازال على قيد الحياة، ورغم كثرة ما كتب، فمازالت هناك جوانب في فكر الشيخ وحياته تحتاج إلى سبر بعض أغواره،  لتضيء للناس بعض ما خفي عنهم من منهج العلامة القرضاوي فقيه العصر.

ومع كل هذا فهو رجل سريع الدمعة، رقيق القلب خاشعه، يتأثر بالكلمة الصغيرة إن خرجت من القلب، يستمع لكل الناس صغيرهم وكبيرهم، متواضع غاية التواضع، لا يستنكف أن يصرح بخطئه، أو أنه تعلم شيئا ممن بعض تلامذته، وهو رافع لواء الوسطية التي ضاعت منذ قرون، يدعو إلى شمولية الإسلام، ليجمع الناس في حياتهم بين الجد وشيء من الترفيه عن النفس، وبين روح الجهاد وحلاوة الشعر والإنشاد، وبين الدعوة للصيام والتمتع بطيبات الحياة، فهو – بلا شك- نموذج فريد قل أن يجود الزمان بمثله، وما أرى الشيخ بما فيه من هبات وعطيات إلا هبة من الله تعالى اختصه بها دون كثير من عباده، لعل الله اطلع على قلب القرضاوي فرأى فيه خيرا.

أدام الله نعمه على شيخنا، وأبقاه ذخرا للعالمين، ونفع بدينه وعلومه في الدارين.. آمين.

ـــــــــ

[1]- علق الشيخ القرضاوي على هذا التشبيه بقوله: أنا يسرني أن أنسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، أو أشبه به، ولكني أقولها لله وللحقيقة: أين الثرى من الثريا؟! فما أنا إلا من صغار تلاميذ الإمام الموسوعي المجتهد والمجدد، الذي لا نظير له. أسأل الله تعالى أن يجمعنا معه في رفقة سيدنا وحبيبنا محمد، مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن اولئك رفيقا.