عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية

تحميل الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

هذا بحث قصدت فيه إلى بيان سعة الشريعة الإسلامية ومرونتها وقابليتها لمواجهة التطور البشري، والتغير الزماني والمكاني؛ مما يجعلها صالحة - بغير شك - للتطبيق في كل زمان ومكان.

ولقد خيل لبعض الناس من المستشرقين وأمثالهم - ممن يكتبون عن الإسلام بروح التعصب، وعقلية المتحامل - أن الشريعة الإسلامية شريعة جامدة صارمة، لا يتسع صدرها لمسايرة التطور، ومواجهة ما يجد من أحداث الزمان بروح العصر ... إلخ، وذلك أن أساسها الوحي، ومصدرها الأول النصوص الدينية، التي لا يملك المسلم إزاءها إلا السمع والطاعة، وليس مقتضى إيمانه وإسلامه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (النور:51) ، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب:36) .

وهذه المقدمة التي ذكروها - من حيث إنها شريعة ربانية دينية - صحيحة في نفسها، ولكن النتيجة التي بنيت عليها غير صحيحة، إنما دفع إليها: الوهم أو الجهد أو التحامل. ويستحيل أن يوحي الإله العليم الحكيم، البر الرحيم، لخاتم رسله، بشريعة عامة خالدة، تحرجهم في دينهم، أو تضيق عليهم في دنياهم، أو تعجز عن مواجهة الجديد من أحوالهم وأوضاعهم، وقد وصفها منزلها بالكمال، وأراد بها الرحمة واليسر، ونفى عنها الحرج والعسر.

ولقد كانت هذه الشريعة أساس التشريع والقضاء والفتوى في العالم الإسلامي كله قريبًا من ثلاثة عشر قرنًا، دخلت فيها مختلف البيئات، وحكمت فيها شتى الأجناس، والتقت فيها بعدد من الحضارات، فما ضاق ذرعها بجديد، ولا قعدت عن الوفاء بمطلب، بل كان عندها لكل مشكلة علاج، ولكل حادثة حديث.

لم تكن النصوص الدينية - التي هي أساس هذه الشريعة - قيدًا على حركة الأمة الإسلامية والحضارة الإسلامية، بل منارات تهتدي بها، ومصابيح تسير على ضوئها، وحوافز تدفع بها في طريق الخير والصلاح، وحواجز تحول بينها وبين الشر والفساد.

أما كيف اتسعت هذه الشريعة لأحداث العصور المختلفة، والبيئات المتنوعة، وكيف تستطيع أن توجه التطور، وتعالج كل جديد بما يفي بمصالح الخلق، ويحقق مقاصد الشرع، ولا يغفل روح العصر؟  فهذا ما يتكفل هذا البحث ببيانه وتوضيحه، مؤيدًا بالأدلة راجعًا إلى أوثق المصادر {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود:88) .