خطابنا الإسلامي في عصر العولمة

تحميل الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله وكفى، وسلام على رسله الذين اصطفى، وعلى خاتمهم المجتبى، محمد وآله وصحبه ومن بهم اقتدى فاهتدى. أما بعد:

فقد كتب كثيرون -بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م الشهيرة- يطالبون بوجوب إعادة النظر والمراجعة لخطابنا الديني الإسلامي، وخصوصًا بالنسبة للآخر، ونظرتنا إليه، وموقفنا منه.

وهذا الكلام بعضه حق، وبعضه باطل، وبعضه حق أريد به باطل، فمن الحق: أن بعض الأفراد أو الفئات منا، تنهج نهج التشدد والغلو، ولا سيما مع الآخر، أي مع المخالفين في الدين، أو المخالفين في المذهب، أو المخالفين في الفكر، أو المخالفين في السياسة.

والحمد لله، أن وفقني للوقوف في وجه تيار الغلو والتطرف، منذ أمسكت القلم لا دخل ميدان التأليف.(1)

ونهج الغلو والتشدد مكروه بمقتضى الفطرة، مذموم بحكم الدين، وهو أكثر ذمًا في عصر تقارب فيه الناس ثم ازدادوا تقاربًا، حتى أصبحوا كأهل قرية واحدة.

ومن الحق أن يراجع الناس أفكارهم ومواقفهم واجتهاداتهم، على ضوء المستجدات، وفي إطار الثوابت التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، كما قال علماؤنا بوجوب تغير الفتوى بتغير موجباتها.

فقد توجب هذه المراجعة تغييرًا في مضمون بعض المقولات، وقد توجب تغييرًا في أسلوبها، وقد توجب تغييرًا في ترتيبها في سلم الأولويات، إلى غير ذلك.

ومن الحق أن كثيرًا من المخلصين من المسلمين أنفسهم شعروا بضرورة هذا التغيير، ودعوا إليه، ومنهم إخوة نثق بدينهم وإيمانهم، كما نثق بتفكيرهم وسداد نظرتهم، في أمريكا نفسها، وفي أوروبا أيضًا. وإذا كان هذا من الحق، فإن من الباطل ما يطالب به بعض الناس: أن نشكل لنا دينًا من جديد، نحذف منه ونبقي، ونغير فيه ونبدل، وفق ما تطلبه أمريكا وحلفاؤها!

وعلى هذا يجب أن نغير مناهج تعليمنا الديني كلها، وخطابنا الديني كله، حتى ترضى عنا أمريكا، وما هي براضية، فما يرضى هؤلاء إلا أن ننسلخ من ديننا {وَدَّ كَثِيرٞ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَوۡ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِكُمۡ كُفَّارًا حَسَدٗا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡحَقُّ} (البقرة:109) ،  {وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡيَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡ} (البقرة:120) .

ولقد سلكت بعض الأنظمة العربية والإسلامية هذا السبيل منذ زمن، فاتخذت فلسفة «تجفيف المنابع» أي منابع التدين الإيجابي الذي يربي الشخصية المسلمة، والعقلية المسلمة، والنفسية المسلمة، وحذفت -ولا تزال تحذف- كل ما يغرس معاني القوة والبطولة والغيرة على الحق، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحاربت كل دعوة صادقة لإحياء الإسلام الصحيح، وتربية الناس عليه، وشجعت إسلام الخرافات والأضرحة والدروشة، لأنه مشغول عنها، بل سائر في ركابها، ساكت عن مظالمها وانحرافاتها.

إننا نرحب بتجديد الخطاب الديني، والارتقاء به، وتطويره إلى ما هو أحسن وأمثل: فكرة وأسلوبًا، أو مضمونًا وشكلًا، والمسلم ينشد الأحسن دائمًا، ولكنا نحذر من خطورة التنادي المستمر بتغيير الخطاب الديني الإسلامي في هذا الوقت خاصة، ولا سيما من أقلام مشبوهة، لا يهمها أمر الدين ولا أهله، وليس لله ولا للآخرة مكان في حياتها الفكرية أو السلوكية، ولا تبالي برضا الله أو سخطه، لكن يعنيها كل العناية: أن يرضى السيد الأمريكي عنها، وأن ينفحها ببعض بركاته وكراماته!

إن التغيير في هذا الوقت! أو في هذه «الهوجة» محفوف بخطرين:

الأول: خطر الإذعان للضغوط الأمريكية المدججة بالسلاح والمال والعلم والدهاء والتخطيط، فيستجيب لهم منا من يستجيب رغبا ورهبا، ويصنع لنا «إسلاما أمريكانيا» لا يهمه إرضاء الله بقدر ما يهمه إرضاء «العم سام»!

والثاني: خطر تمكين الفتات اللادينية: لتساهم في توجيه المرحلة القادمة للأمة، بترويج فكرها المستورد، ومفاهيمها الدخيلة، تحت عنوان التجديد والتطوير، وإنما هو التبديد والتخريب.

فالواقع أننا نخشى من تيارين كلاهما أشد خطرا من الآخر:

1- تيار الغلو والتشدد والتنطع، الذي يريد أن يضيق على الأمة ما وسع الله. ويعسر عليها ما يسر الله، وإن يعادي العالم كله، ويقاتل الناس جميعا، ولو سالموا المسلمين، ولا يتسامح من مخالف له، مسلما أو غير مسلم.

2- وتيار الانفلات والتسيب، الذي اتخذ إلهه هواه، فلا يرجع إلى أصل، ولا يتقيد بنص، ولا يستند إلى إمام معتبر. إنه رفض اتباع أئمة الإسلام، ورضى بتقليد أئمة الغرب، فمنهم يستمد، وعليهم يعتمد، وبهم يصول ويجول!

لهذا كان على أهل العلم والدعوة، وخصوصا دعاة المنهج الوسطى: أن يقولوا كلمتهم، ويبينوا وجهتهم، ويشرحوا رسالتهم، في خضم هذه الفتن المتلاحقة التي تذر الحليم حيران، وفي هذا الجو الرهيب الذي يحاط فيه بالأمة من كل جانب، وعليهم أن يعضوا بالنواجذ على الحق الذي ائتمنهم الله عليه، معتصمين بحبل الله المتين. {يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ ٱللَّهِ وَيَخۡشَوۡنَهُۥ وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَ} (الأحزاب:39) ، {فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:256) .

وأود أنبه هنا على حقيقة ناصعة لا ريب فيها، وهي: أن خطابنا الإسلامي - بحمد الله تعالى - منذ نحو أربعين سنة أو تزيد(2) : هو هو، لم يتغير ولم يتبدل، منذ هدانا الله بفضله وتوفيقه، إلى اختيار (منهج الوسطية) وهو المنهج الذي رأيته معبرا عن الإسلام الحق، وعن منهج الأمة التي مدحها الله بقوله: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا} (البقرة:143) وحقيقته: إقامة الوزن بالقسط في الأمور كلها، بعيدا عن الطغيان والاخسار، اللذين حذر القرآن منهما، كما قال تعالى: {وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِيزَانَ * أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ * وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَانَ} (الرحمن:7-9) .

فما نقدمه اليوم ليس جديدا على نهجنا، ولا هو من ثمرات 11/9/2001م ولذا نجد فيه مقتبسات كثيرة من كتبنا القديمة.

الجديد اليوم: أن كثيرا من المسلمين ممن كانوا يعارضون تيار الوسطية: أصبحوا ينادون به، ويشعرون بالحاجة إليه، حتى بعض الحكام انتبهوا إلى أهمية هذا الأمر، وضرورة التمسك به، وتربية الأمة عليه، بعد أن كانوا يرفضونه، ويقاومون دعاته {فَلِلَّهِ ٱلۡحَمۡدُ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَرَبِّ ٱلۡأَرۡضِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ * وَلَهُ ٱلۡكِبۡرِيَآءُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (الجاثية: 36،37) .

ولا أريد أن اختم هذه المقدمة، حتى أنبه على قضية مهمة، وهي: أن أمريكا والغرب يطالبوننا نحن المسلمين، أن نراجع خطابنا الديني، وأن تسعى لتغييره وتطويره، ولكن أحدا لم يطلب منهم -كما طلبوا منا- أن يغيروا هم من خطابهم، فاليمين المسيحي المتطرف هو الذي يقود أمريكا اليوم، ويرسم سياستها، والرؤساء الأمريكان من عهد «كارتر» إلى اليوم، من أنصار هذا اليمين، حتى جاء «بوش» الصغير، وجسد هذا التطرف اليميني بقوة ووضوح، وقال فيما قال: إن ربي أمرني: أن أضرب ابن لادن فضربته! وأمرني أن أضرب صدام حسين، فضربته! كأنه نبي يوحى إليه!

هذا اليمين المسيحي المتطرف هو الذي يساند الصهيونية المغتصبة الظالمة في اغتصابها وظلمها، ويحمي بقوته ما اغتصبته بالدم والعنف، ويؤيدها في اعتداءاتها المستمرة على الشعب الفلسطيني، بالمال والسلاح والفيتو، بناء على رؤى واجتهادات دينية عنده، هي التي زينت له حماية الاغتصاب والطغيان، والمعاونة على الإثم والعدوان، فلماذا لا يراجع بوش وجماعة اليمين المتصهينين رؤاهم واجتهاداتهم التي دفعتهم إلى تأييد العدوان والمعتدين، وغض الطرف عن كل ما يصيب أبناء فلسطين من الأذى والبلاء في أنفسهم وأموالهم وذراريهم وبيوتهم ومزارعهم ومرافق حياتهم كلها؟!

ولماذا لا يطالب اليهود بمراجعة خطابهم الديني الذي أغراهم باغتصاب فلسطين، وإخراج أهلها منها، وتشريدهم في آفاق الأرض بغير حق، وضرب من بقى منهم بالصواريخ والمروحيات والدبابات، تقتل وتدمر بلا هوادة ولا رحمة؟ ولماذا لم يفعل ذلك آباؤهم منذ نحو تسعة عشر قرنا من الزمان، حينما ضربهم الرومان ضربة قاضية، قطعتهم في الأرض أمما؟ لماذا أغفل آباؤهم الوعد الإلهي المزعوم لهم آلاف السنين، ثم تذكروه فجأة في هذا العصر؟

أتمنى على الذين يدعون المسلمين أن يراجعوا خطابهم الديني: أن يدعوا اليهود والمسيحيين أن يغيروا خطابهم ولاهوتهم أيضا، فهذا هو مقتضى العدل والمساواة بين الخصوم.

أما نحن فقد راجعنا خطابنا من قديم، بدعوة من ديننا نفسه، لا بطلب من بوش ولا غير بوش.

والحمد لله رب العالمين.

 

الدوحة: شوال 1423هــ                                الفقير إليه تعالى

 يناير 2003م                                           يوسف القرضاوي

 

.....

(1) في أول كتاب لي، وهو كتاب «الحلال والحرام في الإسلام» منذ سنة 1960م، وأنا أتبنى تيار الوسطية والاعتدال، الذي يتميز بعدة خصائص منها: التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة، والدعوة إلى الحوار والتسامح مع المخالفين. وتجسد هذا المنهج بوضوح أكثر، حينما برزت «الصحوة الإسلامية المعاصرة» منذ أوائل السبعينيات ولمست حاجتها إلى التسديد والترشيد، حتى لا تحرفها موجات الغلو والتنطع الذي اعتبره الإسلام من مهلكات الأمة.

(2) أي منذ نشرت الطبعة الأولى من كتاب: «الحلال والحرام في الإسلام» سنة 1960م.