الشيخ الغزالي كما عرفته.. رحلة نصف قرن

تحميل الكتاب

مقدمة الطبعة الثالثة     

هذا الكتاب «الشيخ الغزالي كما عرفته» صدر في حياة الشيخ الغزالي رحمه الله، إذ لم أجد معنى لما يجري عليه الناس في بلادنا، ولا سيما بين عادة الإسلام، حيث يُهضَم عظماء الرجال، فلا ينوَّه بمكانتهم، ولا يكتب الناس عن مآثرهم، إلا بعد رحيلهم عن هذه الدنيا، هذا مع أن رسولنا الكريم بريء ممن لم يوقروا كبراءهم، ولم يعرفوا حق علمائهم، وشرف شرفائهم.

وقد صدرت الطبعة الأولى، والشيخ الإمام على قيد الحياة، ورآها بعينيه، وسرّ بها كثيرًا، وقرأ منها نحو مائة صفحة، كما أخبرني قارئه وسكرتيره الخاص، وحين سافر الشيخ سفرته الأخيرة للمشاركة في مؤتمر الجنادرية بالرياض، ووافاه الأجل هناك، كان الكتاب من متعلقاته الخاصة التي وجدت معه، اصطحبه الشيخ رحمه الله، ليكمل مطالعته كلما أتيحت له فرصة.

والآن تصدر هذه الطبعة، وقد مضت على وفاة الشيخ عدة سنوات، مشتملة على بعض التنقيحات والتصحيحات التي رأيتها ضرورية، وكنت أود أن أضيف إليها بعض الفقرات في بعض الفصول، ولكن كثرة المشاغل لم تمكِّني من ذلك، وأعتقد أن ما كتبته كاف في تحقيق الغرض من الكتاب.

بقي دَين على الجيل الجديد من أبنائنا الصاعدين: أن يعمق الجوانب التي تحدثت عنها، ويوسع القول فيها، ويغدو الشيخ الإمام موضعًا لأطروحات علمية أكاديمية لرسائل الماجستير والدكتوراه، تتناول الجوانب الفكرية والدعوية والجهادية من حياة الشيخ، ولا سيما في كليات الدعوة وأصول الدين والدراسات الإسلامية؛ فهذا من حق الشيخ الغزالي على هذه الأمة، التي وهب لها حياته، وعاش طوال عمره المبارك، مجددًا لدينها، حارسًا لرسالتها، مشيدًا بحضارتها، ذائدًا عن حرماتها ومقدساتها، شاهرًا سيفه ضد أعدائها، والكائدين لها؛ ولم يكن له سيف غير قلمه ولسانه.

ولقد تحدث الكثيرون عن الشيخ بعد أن خلا مكانه، وغاب عن الساحة، وأغمد حسام طالما سل في سبيل الله، وظل مصلتًا حتى آخر لحظة في حياته، وسقط صاحبه وهو في يده مدافعًا عن الإسلام، رضي الله عنه. لقد رثيته ببعض ما يستحقه في الصحف، وتحدثت عنه في خطبتي للجمعة في مسجد عمر بن الخطاب بالدوحة، وصليت عليه مع المسلمين صلاة الغائب، وأقمنا له ليلة حافلة، تحدث فيها عدد من العلماء والدعاة من إخوانه وأحبابه، كما أقام له الإخوة في مصر ليلة مماثلة نظمها الأخ الدكتور محمد سليم العوّا وإخوانه، وتحدث فيها عدد من العلماء والمفكرين، وشاركت فيها بكلمة بعثت بها الدوحة.

وفي الذكرى الأولى لوفاة الشيخ، أقام المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالأردن، بالاشتراك مع جميعة البحوث والدراسات الإسلامية، والمعهد العالي للفكر الإسلامي، ندوة في «عمّان» استمرت يومًا كاملًا، ساهم فيها عدد من المفكرين والباحثين بأوراق علمية مقدورة، حول تراث الشيخ الفكري، ونشاطه المتنوع في خدمة الإسلام، ونصرة قضاياه، وكان لي شرف الحضور والمشاركة فيها كذلك، كما حضرها من أبناء الشيخ الدكتور علاء الغزالي.

ولا يزال الحديث عن الشيخ الجليل موصولًا، وسيظل إن شاء الله، وما زال إخوانه وأبناؤه وتلاميذه يذكرونه كلما جد الجد، وأدلهم الخطب، وتلبدت السماء بالغيوم، على نحو ما قال الشاعر قديمًا: سيذكرني قومي إذا جد جدهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر!

رحم الله شيخنا الغزالي، وتقبله في الأئمة الهداة المهديين، وأخلف الأمة فيه خيرًا.

والحمد لله أولًا وآخرًا.

 

يوسف القرضاوي

القاهرة: جمادى الأولى عام 1420هـ

سبتمبر عام 1999م