الفتوى بين الانضباط والتسيب
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه. أما بعد ...
فعندما عقدت العزم على إخراج كتابي «فتاوى معاصرة» منذ حوالي عشر سنوات، رأيت أن أكتب له مقدمة تتضمن فيما تتضمن - منهجي في الإفتاء، والقواعد التي يقوم عليها، مع بيان أهمية الفتوى ومكانتها في دين الله وحياة الناس، وشروط المفتي العلمية والأخلاقية، ومزالق المتصدين للفتوى في عصرنا الحاضر... ثم رأيت هذه المقدمة قد طالت أكثر مما ينبغي، فأبقيت ما رأيت أنه ملائم لتقديم الكتاب، وتعريف القارئ بمنهج صاحبه، وفصلت الباقي عنها، ونشرته مستقلًا في مجلة «المسلم المعاصر» في حلقتين.
والآن طلب إلي بعض الإخوة المهتمين بشؤون الفكر والثقافة الإسلامية، أن أنشر هذا البحث في كتاب أو كتيب، لتعميم النفع به، فما نشر في المجلات الفكرية لا يقرؤه إلا عدد محدود.
وقد زكى هذا عندي، ما لمسته من تعجل بعض الناس بالفتوى، وتورطهم بالإجابة الحاسمة في أشد الأمور خطرًا، محرمين أو محللين، دون أن يحصلوا الحد الأدنى من الشروط اللازمة لمن يقول للناس: هذا حلال، وهذا حرام؛ بل رأيت من الشباب المتدين الطري العود؛ من يقحم نفسه في هذا المضيق، ويجترئ على القول في دين الله، بغير أهلية لهذا الأمر الخطير، ولعلك لو سألته عن الخاص والعام، أو المنطوق والمفهوم، لم يدر شيئًا مما تقول، بل لعلك لو سألته أن يعرب لك جملة، أو شبه جملة لقابلك بالصمت، أو أجاب بما يدل على الجهل الفاضح!
ومما يؤسف له أن هذا الشباب ينسب إلى تيار «الصحوة الإسلامية» وتستغل مواقفه هذه وأمثالها للإنكار عليها، والتنديد بها، كما يؤخذ حجة علينا نحن دعاة الصحوة وموجهيها والمدافعين عنها.
بيد أن من الحق أن نقول أيضًا: إننا ندعو إلى الصحوة وندعمها بكل طاقاتنا، وندفع - بأكفنا وصدورنا - عدوان - العادين عليها، والمتربصين بها، والكائدين لها... ولكننا - مع هذا - نعمل على ترشيد مسيرتها، وتسديد خطواتها، وتقويم خطئها إذا أخطأت، كما يصنع الأب الحاني مع أبنائه، والمعلم المربي مع تلاميذه.
ورأيت من النافع في هذا المقام؛ أن أضيف إلى البحث بعض ما كتبته في مقدمة «الفتاوى»، إلى بعض لمسات وتحسينات وإضافات أخرى، وهذا يحدث دائمًا كلما أعاد المرء النظر فيما كتبه من قبل، وهو ما نبه عليه القاضي الفاضل: عبد الرحيم البيساتي قاضي صلاح الدين من قديم، وجعله من أعظم العبر، ودليل استيلاء النقص على جملة البشر.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علمًا. نحمدك اللهم على كل حال، ونعوذ بك من حال أهل النار.
الفقير إلى ربه
يوسف القرضاوي