من المناسبات التي مرت في تلك الآونة (النصف الثاني من أربعينيات القرن الـ20): الاحتفالات بمرور عشرين عاما على تأسيس حركة الإخوان، وقد أصدرت جريدة الإخوان اليومية عددا ضخما خاصا بهذه المناسبة، تضمن بعض تاريخ الإخوان، وألوانا شتى من أنشطتهم المتنوعة، ومساهماتهم في خدمة المجتمع، كما احتفلت شعب الإخوان في أنحاء مصر بهذه المناسبة، وكان لي نصيب من المشاركات في عدد من البلدان.

وكان مما أسهمت به في هذه المناسبة (قصيدة) بعنوان (الدعوة تتحدث عن نفسها) ألقيتها في طنطا وفي أكثر من بلد، وقد أخذها مني إخوان (محلة أبو علي) لتنشر في مجلة أو نشرة خاصة تظهر بهذه المناسبة، وكان لا بد لرجال المباحث أو القسم المخصوص كما كان يسمى: أن يوافق على مادة المجلة قبل أن تنشر، ولكن المجلة بقيت عنده مدة، فلم يوافق، ولم يرد مواد المجلة إلى أصحابها، وضاعت النسخة الوحيدة التي أملكها لهذه القصيدة.

ولكني ما زلت أحفظ أبياتا متناثرة منها، أنتهز هذه الفرصة لأسجلها هنا، منها:

يا دعوة الحق قصِّي ما لقيت فقد  *  يؤذى الهدى ويعان الباطل البور

قال: ولدت وحق الشرق مكتئب  *  وباطل الغرب مسرور ومغرور

لا عدل في الأرض، بل ظلم وتفرقة  *  والعدل أعظم ما تحوي الدساتير

حـق الإباحي محفوظ ومحترم  *  وحق ذي الدين مهضوم ومـهدور

وفيها:

ظنوا وراء اللحى بُلْهًا ودروشة  *  مهلا، فخلف اللحى أسد مغاوير

للغرب هم أجل ، للشرق هم أمل  *  للدين نصر وللأوطان تحرير

وعن دعوة الإخوان:

كم أنشأت شعبا كالأنجم انتشرت  *  في مصر دور هدى يا نعمت الدور

أكرم بها شعبا بل يا لها شعلا  *  تكوي وتهدي كذاك النار والنور

تكوي أناسيّ أعيا الطب داؤهمو  *  والكيّ آخر ما تأتي العقاقير

وترسل النور يهدي من له بصر  *  والعمي تنكر والخفاش مذعور

ومنها:

كم من سفيه تعدَّى فابتسمت له  *  أصون ذيلي، فـإن الكلب مسعور

وكـم كبير تحداني يناطـحني  *  فعاد من صخرتي والرأس مكسور

شِعري الذي ضاع

وبمناسبة ضياع هذه القصيدة أذكر أنه ضاع لي عدد من القصائد التي أنشأتها في تلك المرحلة، وجلها في الوطنيات والمناسبات الإسلامية، مثل قصيدتي في ذكرى الهجرة من بحر الطويل، وكان مطلعها:

سهـرت إلـى نجم السها أتطلع  *  وأصبحت من جام الأسى أتجرع

وما بي هوى ليلى ولا عشق زينب  *  ولا غرني قرط وعقد مرصع

ولكنني أهـوى الـعلا فـي محمد  *  وليس لقلبي في ســواه تطـلع

ومن هذه القصيدة:

فهل كان أسطول، وكانت قنابل  * وكـانت مـظـلات تقيه وتمنع؟

عـديم عـديم كل هذا، وإنما * هو النصر من أفق السماوات يطلع

بحسبك نسج الـعنكبوت مظلة  * وقنبلة مـن صنع ورقـاء تسجع

وكنت ما أزال على الاعتقاد الشائع بأن هناك حمامة عششت على الغار، وعنكبوتا نسجت عليه، ولم يثبت هذا بحديث صحيح، وبخاصة ما يتعلق بالحمامة، والقرآن يقول: (وأيده بجنود لم تروها) التوبة: والحمام والعنكبوت جنود مرئية.

ومن هذه القصيدة:

وماذا ستجدينا القصور شوامخًا  *  وأخـلاق أهــلها خـراب وبلقع؟

وماذا يفيد القز والجلد أجرب  *  وهل ينفع الطربوش والرأس أقرع؟

ومن القصائد الضافية قصيدة وداع الشهداء في فلسطين، وهي من بحر الخفيف، ولا أذكر إلا مطلعها:

زملوهم بما بهم من ثياب  *  لن يعيب الحسام بالي القراب!

ومن هذه القصائد قصيدة اجتماعية عنوانها (نساء اليوم) ألقيتها في دار الإخوان، تعليقا على ما نشر في الصحف من أن بعض الجمعيات النسائية، اجتمع أعضاؤها، وكان لهن مطالب منها: ضرورة حذف (نون النسوة) من لغة الخطاب! فكان مما جاء في القصيدة:

ما الذي طالب النساء به اليو * م: أطالبن إنجلترا بالجــلاء؟

طلب الغيد حذف نون إناث  *  يا لها مـن مـطـالب شماء؟

وغدا يطبن (الذين) و(وهذا)  *  معرضات عن (هذه) و(اللائي)

وغدا يلتمسن بكرا وعـمْرا  *  بدلا مـن سعـاد أو أسـمـاء

لا تقولوا: هـذا بعيد وناء  *  ليس شـيء عـلى أولاء بناءِ!

ومن أهم القصائد الضائعة التي أسفت عليها: قصيدة تأملية أنشأتها مبكرا تحمل نزعة فلسفية، وكنت في السنة الأولى الثانوية، وعنوانها (مناجاة القبر) لا أذكر إلا بيتين منها، هما:

حنانيك ماذا في حناياك يا قبر *  بربك خبِّر قبل أن يفـدح الخُبْر

ألا ليت شعري ما تكنُّ ليوسفٍ  *  أروح وريحان أم النار والجمر؟

وقصيدة أخرى أنشأتها بمناسبة سكناي في بيت كان مشبوها، وقد اتخذ وكرا للفساد، ولم نكتشفه إلا بعد سكنانا فيه، فبقينا فيه شهرا واحدا، ثم رحلنا عنه، وفيه قلت:

إن أنس لم أنس دارا كنت ساكنها  *  تبا لـساكـنها، تبا لـكاريهـا

قد خيم الشر فيها، واستطال بها  *  زرع الـمفاسد إذ دارت سواقيهـا

ابن الـفضيلة يبدو كـاليتيم بها  *  وابن الـرذيلة يعـلي رأسـه تيها

كم من عجوز بها شمطاء شائهة  * هـي (العُزلاء) حقـا ليس تشبيها

تميس في الخز كالطاووس تائهة  *  والخز يخزى ويأسى من مخازيها

قـوادة فـي اقتناء الغيد بارعة  *  صيادة لشباب الشر تغـويهـا

أمضيت شهرا بها قـد خلته سنة  *  ساءت نهارها، ساءت لياليها

إلى آخر القصيدة وكانت أكثر من ثلاثين بيتا.

وقصائد في مناسبات وطنية، أو دينية مثل المولد النبوي، وقصيدة في رثاء الشيخ المراغي، وغيرها، كلها ذهبت فيما ذهب. تخلص منها إخواني الذين أودعتها عندهم خوف مداهمات التفتيش، وهذه ستكشفهم وتدل عليهم، فلم يكن منهم إلا أن أحرقوها، وهم لا يعلمون أنهم إنما أحرقوا معها قلبي، سامحهم الله، وجزى من خوفهم إلى هذه الدرجة ما يستحق.

حادث السيارة الجيب:

ومن الحوادث التي وقعت في هذه الفترة: حادثان مهمان، كان لهما أثر في تاريخ جماعة الإخوان. الحادث الأول، هو ما سمي بحادث (سيارة الجيب) وهو سيارة ضبطت فيها أوراق خطيرة تتعلق بالنظام الخاص في الإخوان، وما يخطط له من تدبير انقلاب لنظام الحكم الملكي المصري، وتحويله إلى نظام شورى إسلامي، وقد هرب الذي كان يسوق السيارة، ولكن الأوراق كشفت كل شيء.

وقد اتهم فيها عدد من الأفراد، سيقوا إلى السجن، ثم إلى المحاكمة، وقد طنطنت الصحف ـ على عادتها ـ بهذه الواقعة، وشنعت على الإخوان باعتبارهم إرهابيين يعملون على قلب نظام الحكم بالقوة، ولو أنهم نجحوا في تدبيرهم لأصبحوا أبطالا، ونثرت لهم الزهور، ووضعت على رؤوسهم التيجان، واعتبروا محررين للوطن، ومنقذين للأمة، وتسابق رجال القانون الدستوري يبررون عملهم هذا في ضوء (الفقه الثوري) كما حدث لرجال ثورة يوليو من بعد.

ولكن لأنهم لم ينجحوا، صوبت لهم السهام من كل جانب، وسمي عملهم هذا تخريبا وإرهابا وعنفا، وجريمة يعاقب عليها القانون. وصدق الشاعر الجاهلي حين قال:

والناس من يلق خيرا قائلون له  *  ما يشتهي، ولأم المخطئ الهبل!

على كل حال، لقد أحيلت هذه القضية إلى محكمة مدنية، برئاسة المستشار أحمد بك كامل، وكان قد اتهم فيها أكثر من ثلاثين شخصا، منهم عبد الرحمن السندي، ومصطفى مشهور، ومحمود الصباغ، وأحمد حسنين، وأحمد زكي وغيرهم.

وكان الجو السياسي قد تغير، بعد سقوط حكومة إبراهيم عبد الهادي، وكانت فرصة ليصول فيها المحامون الإسلاميون والوطنيون، أمثال مختار عبد العليم، وشمس الدين الشناوي، وعبد المجيد نافع، وعزيز فهمي، وأحمد حسين وغيرهم. وأن تسمع شهادات رجال كبار مثل اللواء المواوي، واللواء فؤاد صادق وغيرهما.

وقد أصدرت المحكمة فيها حكما تاريخيا، برأ أكثرية المتهمين، وحكم على أفراد قليلين منهم بأحكام مخففة، ما بين سنة وثلاث سنوات، ولكن الشيء المهم في الحكم أنه أنصف الإخوان بوصفهم جماعة إسلامية وطنية. وأبرز دورهم الوطني والجهادي في مصر وفلسطين، ودورهم الثقافي والاجتماعي في خدمة مصر، ثم كانت المفاجأة أن انضم رئيس المحكمة المستشار الكبير أحمد كامل بعد ذلك إلى الإخوان، ونشرت ذلك الصحف بالخط العريض: حاكمهم ثم انضم إليهم!

قتل الخازندار:

والحادث الثاني من الحوادث التي وقعت في هذه الفترة، وكان لها أثر سيئ على الإخوان: قتل القاضي أحمد الخازندار، قتله اثنان من شباب الإخوان من المنتمين إلى النظام الخاص. هما محمود سعيد زينهم، وآخر نسيت اسمه. وقد قبض عليهما وسيقا إلى المحاكمة وحكم عليهما بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة.

لم يكن للأستاذ حسن البنا المرشد العام علم بهذه الحادثة، ولا أذن فيها، ولا أخذ رأيه فيها. إنما الذي تولى كبرها، وحمل تبعتها هو النظام الخاص ورئيسه عبد الرحمن السندي، الذي دبر العملية وخطط لها، وأمر بتنفيذها، ولما سئل: كيف تقوم بمثل هذا العمل، دون أن تأخذ أمرا صريحا من المرشد العام؟

قال: إني سمعت من المرشد ما يفيد جواز قتل هذا القاضي، وإن لم يكن تصريحا.

قيل له: وماذا سمعت من المرشد؟

قال: عندما أصدر القاضي الخازندار حكمه على بعض شباب الإخوان في إحدى الحوادث بالحكم سبع سنوات، في حين حكم في قضية أخرى من أخطر القضايا على المتهم بالبراءة، قال: ربنا يريحنا من الخازندار وأمثاله.

قيل له: وهل مثل هذه الكلمة تعطيك فتوى بشرعية قتله، مع أن مقصود الأستاذ: ربنا يريحنا منه بتعيين القضاة العادلين الصالحين، أو بالموت أو بالغزل، وليس بالقتل. فالقتل لا يحل المشكلة قط. ولقد سمعت من الأخ الكبير الأستاذ محمد فريد عبد الخالق، وكان رئيسا لقسم الطلاب في ذلك الوقت، وكان من القريبين من الأستاذ البنا، يقول: إنه دخل على الأستاذ البنا، بعد نشر وقوع الحادثة، فوجده أشد ما يكون غضبا وحنقا، حتى إنه كان يشد شعره من شدة الغضب..

وقال له: أرأيت ما فعل إخوانك يا فريد؟ أرأيت هذه الجريمة الحمقاء؟ إني أبني وهو يهدمون، وأصلح وهم يفسدون. ماذا وراء هذه الفعلة النكراء؟ أي مصلحة للدعوة في قتل قاض؟ متى كان القضاة خصومنا؟ وكيف يفعلون هذا بدون أمر مني؟ ومن المسؤول عن الجماعة: المرشد العام أم رئيس النظام الخاص؟ هؤلاء سيدمرون الدعوة. إلى آخر ما قال الأستاذ حسب رواية الأستاذ فريد، وقد سمعت منه هذه القصة أكثر من مرة.

لقد كان هذا خطأ، بل خطيئة ارتكبها النظام الخاص، وهو الذي يتحمل وزرها، وقد شعر الأستاذ البنا في الآونة الأخيرة أن النظام بدأ يستقل بنفسه، ويتمرد على سلطانه، ويجعل من نفسه جماعة داخل الجماعة، أو دولة داخل الدولة، بل يرى أن كلمته يجب أن تكون هي العليا، وهي مشكلة عويصة يبدو أن الأستاذ بدأ يفكر في حلها، ويسر إلى بعض المقربين منه بخصوصها، وإن لم يهتد سبيلا إلى حلها، أو لم يمهله القدر حتى يجد طريقا لعلاجها.

ولقد اتخذت هذه الحادثة (حجة) لاتهام الإخوان بالعنف، ووصمهم بالإرهاب، وقد ناقشت تهمة (الإخوان والعنف) في كتاب (الإخوان المسلمون سبعون عاما في الدعوة والتربية والجهاد) وفندت كل الشبهات المطروحة، وخصوصا شبهة قتل الخازندار، التي كانت حادثة فريدة لم تتكرر في تاريخ الإخوان، على كثرة ما صدر ضدهم من أحكام قاسية من قضاة مدنيين وعسكريين، ولم يفكروا يوما في الانتقام من أحد منهم.

بل إن الإخوان قد رأسهم وتولى زمامهم بعد مرشدهم الأول أحد كبار القضاة، وهو المستشار حسن بك الهضيبي المرشد الثاني للإخوان. وهو مستشار بمحكمة النقض الكبرى. وكان وكيله بعد ذلك أحد القضاة المرموقين، وهو القاضي الفقيه عبد القادر عودة، صاحب الموسوعة الجنائية الإسلامية (التشريع الجنائي الإسلامي) في جزأين.

وسأعود للحديث عن (النظام الخاص) ورأيي فيه، في مرحلة لاحقة إن شاء الله.