مرحلة جديدة وخطيرة

لم تنتهِ المرحلة الثانوية بالنسبة لي بعد، ولكني أردت أن أفرد الفترة القادمة منها بفصل خاص؛ لما وقع فيها من أحداث كبار، وأهوال جسام، كان لها أثرها في حياتي ومسيرتي خاصة، ومسيرة الدعوة الإسلامية والشعب المصري والعربي عامة.

حل الإخوان في 8 ديسمبر 1948م

كان أول حدث وقع هذه المرحلة، هو "حل جماعة الإخوان المسلمين" ومصادرة كل مؤسساتها، والاستيلاء على أملاكها، وحظر كل نشاطاتها، ومنع أي تجمعات لأفرادها والمنتمين إليها؛ فكل خمسة منهم ضمهم مجلس، فقد خالفوا القانون، واستحقوا العقاب؛ وترتب على هذا الحل في ظل الأحكام العرفية - أن صدرت أوامر الحاكم العسكري العام "النقراشي باشا" باعتقال عدد كبير من الإخوان في القاهرة ومختلف المديريات.

وتكهرب الجو في مصر وتوتر، وساد الغليان في الشارع المصري عامة، ولدى الإخوان خاصة، وسُئل مرشد الإخوان عن رأيه في هذا الحل للجماعة، فقال: هذا بمثابة أن يفقد شخص ما (شهادة ميلاده)، وبتعبيرنا اليوم (بطاقته الشخصية) فهو موجود بالفعل، ولكن لا يملك ورقة رسمية تثبت وجوده.

وهنا يبرز سؤال في الأذهان هو: لم وقت حل الإخوان في هذه الظروف العصيبة بالنسبة للقضية الفلسطينية؟

ولقد أجاب الأستاذ البنا رحمه الله على هذا السؤال فقال: (إن رغبة الحكومات العربية في إنهاء قضية فلسطين، وعلى غير ما تريد الشعوب، كان من العوامل التي أوحت للحكومة المصرية بهذا الموقف) انظر الإخوان المسلمون والمجتمع المصري ص30 .

وقد ذكر الأستاذ البنا -قبل قتله- في مذكرةٍ أسبابا بالإضافة إلى تصفية القضية الفلسطينية ردا على المذكرة التي قدمها وكيل الداخلية الأستاذ عبد الرحمن عمارة وطلب فيها حل الإخوان ، ومن هذه الأسباب الضغط الأجنبي ، فقد أقر وكيل الداخلية نفسه للمرشد العام بأن مذكرة قدمت إلى النقراشي باشا من سفير بريطانيا وسفير فرنسا ، والقائم بأعمال سفارة أمريكا ، بعد أن اجتمعوا في فايد في 6 من ديسمبر 1948 م يطلبون فيها المبادرة بحل الإخوان المسلمين ، وذلك بالطبع طلب طبيعي ، من ممثلي الدول الاستعمارية ، الذين يرون في الإخوان المسلمين أكبر عقبة أمام امتداد أطماعهم ونشعبها في واد النيل وفي بلاد العرب ، وأوطان الإسلام.

وليست هذه أولى المرات التي طلب فيها هذا الطلب ، بل هو طلب تقليدي كان يتكرر دائما على لسان السفير البريطاني في كل المناسبات ، لكل الحكومات ، وكانت كلها تُحْجِم عن إجابتها ، فلقد طلبت السفارة من النحاس باشا في سنة 1942م والحرب العالمية على أشدها ، والألمان على الأبواب: حل الإخوان المسلمين ، وتعطيل نشاطهم ، فابى أن يجيبهم إلى ذلك ، واكتفى بإغلاق الشعب كلها مع بقاء المركز العام إلى حين.

وكان في وسع النقراشي أن يرفض هذا الطلب ، وأن يتفاهم مع الإخوان على وضع يريحهم ويريحه . ولقد كان الإخوان على أتم الاستعداد لهذا التفاهم وخصوصا بعد عودة المرشد العام من الحجاز ، إلا أنه لم يفعل وخطا هذه الخطوة التي لا تدل إلا على أن مصر ما زالت للأجانب قبل أن تكون لأبنائها ، وأنه ما زال للأجانب كل النفوذ والسلطان في هذه الأوطان ثم مضى في تفصيل الظروف والأسباب إلى أن قال : "إن هذا من تدبير اليهودية العالمية والشيوعية الدولية والدول الاستعمارية ، وأنصار الإلحاد والإباحية ، الذين يرون في الإخوان السد المنيع الذي يحول بينهم وبين ما يريدون".

وهذا الذي قاله الإمام البنا عن تدخل القوى الأجنبية وسفاراتها في حل جماعة الإخوان ، قد أيدته الوثائق الرسمية فيما بعد ، بما يدفع أي احتمال للشك أو الجدل .

يقول الأستاذ شمس الدين الشناوي المحامي في إحدى مرافعاته:

"حديثي تؤيده الوثائق، لن نفتري على أحد ، ولن تأخذنا الحماسة لنجدف في بحور الوهم والادعاء .. لقد كانت بطولة الإخوان المسلمين في حرب فلسطين عام 1948 م مثار دهشة العالم أجمع ، ومثار خطر داهم على الكيان الصهيوني وقيام دولة إسرائيل .. ليس هذا الكلام تحيزا للإخوان أو تعصبا لدعوتهم ، فقد شهد كبار ضباط الجيش المصري في حرب فلسطين أمام محكمة الجنايات التي كانت تنظر قضية "السيارة الجيب" التي اتهم فيها نفر من شباب الإخوان المسلمين بمحاولة قلب نظام الحكم وتغيير دستور الدولة بالقوة !!

وقد شهد اللواء أحمد علي المواوي - بعد أن أقسم اليمين أمام المحكمة -"أنه كان يستعين بالمتطوعين من الإخوان المسلمين كطلائع للجيش وكقوة حقيقية تعمل من جانبه الأيمن في الناحية الشرقية . وكانوا يصلون إلى النطاق الخارجي للمستعمرات اليهودية ويزرعون الألغام من تحت الأسلاك الشائكة ويستعملونها في تلغيم الطرق الموصلة إلى المستعمرات اليهودية وقد نتج عن ذلك خسائر كبيرة لليهود تقدم لي من جرائها مراقبو الهدنة يشتكون من هذه الأعمال التي كانت تعمل وقت الهدنة ولم يكن عند الجيش المصري ألغام" .

ويواصل اللواء المواوي شهادته أمام المحكمة فيقول:

"وبالنسبة لقرية "العسلوج" فقد احتلها اليهود أول يوم للهدنة ، ونظرا لأهميتها فقد طلب رئيس هيئة الأركان المصرية باسترجاعها بإي ثمن فكلفت قائد المتطوعين المرحوم أحمد عبد العزيز بإرسال قوة من الشرق من المتطوعين وكانت صغيرة بقيادة ملازم، وأرسلت قوة كبيرة من الغرب تعاونها جميع الأسلحة. ولكن القوة الصغيرة هي التي تمكنت من دخول القرية".

وشهد الصاغ محمود لبيب بأن المتطوعين احتلوا في 12 يوما: العوجة والعسلوج وبير السبع والفالوجا وعراق المنشية وبيت جبريل والخليل وبيت لحم ، ودخلوا في حدود القدس الجديدة ، وأصبح النقب جميعه تحت إشراف الإخوان المسلمين، كما شهد بذلك اللواء فؤاد صادق وغيره من الشهود مثل المرحوم الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين.

وترتب على هذه الروح الفدائية القوية التي أظهرها الإخوان المسلمون في حرب فلسطين : أن دب الرعب في قلوب اليهود ، وخشي الإنجليز - الذين يحتلون منطقة القناة - على أنفسهم ، بعد انتهاء حرب فلسطين ، فدبرت المؤامرة للقضاء على الإخوان ، وتغييبهم عن الميدان لهذه الأسباب ، وأولها : قيام إسرائيل وبقاؤها بعد ذلك!!

ويضيف الأستاذ محمد شمس الشناوي:

لقد عقد موشي ديان مؤتمرا صحفيا في أمريكا سنة 1948 م وقد سأله أحد الصحفيين هذا السؤال:

هل يستطيع أن يضمن بقاء إسرائيل وسط دول كبيرة تعاديها وتضمر لها الشر؟!

فأجاب موشى ديان: "إن إسرائيل لا تخشى لقاء هذه الدول مجتمعة أو متفرقة فهي كفيلة بهزيمتهم ولكنها تكره أن تلقى فئة واحدة فقط وهم الإخوان المسلمون وستكفينا حكومتهم مؤونتهم".

وحتى يكون هناك مبرر لتنفيذ الخطة المدبرة: قدَّم الأجانب في مصر شكوى في 9 /7 / 1948م إلى السفير البريطاني في القاهرة ، يذكرون فيها أن حياتهم في مصر أصبحت لا تطاق ، للاعتداءات التي تحصل عليهم في شوارع القاهرة بزعم أن لهم صلة باليهود الذين يحاربونهم في فلسطين ، وذلك برغم أنهم أظهروا حسن نواياهم نحو المصريين ، ويؤكدون أن سلطات الشرطة المصرية لم تتدخل لمنع هذه الجرائم، وأن الإشاعات الرائجة هي أن جماعة الإخوان المسلمين تؤدي دورا مهما في هذه الحوادث!!

وجاء في ختام الشكوى : "وسنكون عارفين لفضلكم لو أنكم اتخذتم الإجراءات اللازمة لوضع حد لهذه الحوادث المشينة " (صورة للشكوى).

وفي 10 /11 / 1948 م اجتمع سفراء انجلترا وأمريكا وفرنسا في فايد ، وقرروا اتخاذ الإجرآت اللازمة بواسطة السفارة البريطانية لحل جمعية الإخوان المسلمين التي فهم أن حوادث الانفجارات الأخيرة في القاهرة قد قام بها أعظاؤها ، وأرسلت هذه الإفادة إلى رئيس المخابرات تحت رقم 13 في 13 / 11 / 1948 م وترجمة الخطاب كالآتي:

الموضوع : اجتماع سفراء صاحب الجلالة البريطانية وأمريكا وفرنسا في فايد في 10 /11 /1948 ،

رقم القيد 1843/ 1س/48 ،

التاريخ 13 /11/ 1948 ،

إلي رئيس المخابرات رقم 13:

" فيما يختص بالاجتماع الذي عقد في فايد في 10 الجاري بحضور سفراء صاحب الجلالة البريطانية وأمريكا وفرنسا أخطر أنه ستتخذ الإجراءات الازمة بواسطة السفارة البريطانية في القاهرة لحل جمعية الإخوان المسلمين ، التي فهم أن حوادث الانفجارات الأخيرة في القاهرة قام بها أعضاؤها".

إمضاء / ج .د . أوبريان

وفي 20/ 11 /1948 أرسل رئيس إدارة المخابرات فرع "أ" بقيادة القوات البريطانية بالشرق الأوسط، إلى إدارة المخابرات (ج-س-13) في القيادة العليا للقوات البريطانية في مصر خطابًا، هذا ترجمته الحرفية:

1- بخصوص مذكرتكم رقم 743 / أ ن ت / ب / 48 المؤرخة في 17 /11 /1948.

2- لقد أخطرت هذه القيادة العليا رسميًا من سفارة صاحب الجلالة البريطانية بالقاهرة أن خطوات دبلوماسية ستتخذ بقصد إقناع السلطات المصرية بحل جمعية الإخوان المسلمين في أسرع وقت ممكن.

3- فيما يتعلق بالتقرير الذي كان قد رفع من الرعايا الأجانب المقيمين بمصر، فقد أرسلت لوزارة الخارجية للعلم.

التوقيع/ رئيس إدارة حرف "أ"

قيادة القوات البريطانية في الشرق الأوسط

كولونيل: أ ر م. ماك درموف

وبناءً على ذلك أبلغت السفارة البريطانية النقراشي باشا بهذا القرار، وكان ذلك مصحوبًا بتبليغ شفوي، أو تهديد بمعنى أدق أنه في حالة عدم حل جماعة الإخوان المسلمين ، فإن القوات البريطانية سوف تعود على احتلال القاهرة والإسكندرية.

استدعى رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي وزير الداخلية وقتئذ اللواء عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية ، وشرح له الأمر - وهو طلب السفارة البريطانية حل جمعية الإخوان المسلمين وإلا احتلوا القاهرة والإسكندرية - وطلب منه كتابة مذكرة تفيد ما طلبته السفارة البريطانية من تدخل سافر في الشئون الداخلية لمصر ، وهي دولة مستقلة ذات سيادة من الناحية الرسمية !!

تعهد اللواء عبد الرحمن عمار بذلك واتصل بالمديرين وطلب منهم أن يوافوه بالحوادث التي كان الإخوان المسلمون طرفا فيها ، ولو كان مجنيا عليهم ! وقد ثبت هذا في شهادته أمام محكمة الجنايات في قضية مقتل النقراشي .

وتحدث الأستاذ الشناوي عن محاولة الأستاذ البنا الاتصال بالقصر الملكي لمنع هذه الكارثة والتفاهم لمعالجة الموقف بما يتفق مع المصلحة الوطنية ولكنهم سدوا في وجهه كل الأبواب . وصدر قرار الحل في 8 من ديسمبر عام 1948 م مشفوعا بمذكرة عبد الرحمن عمار التي تتضمن أسباب الحل الظاهرية، أما الأسباب الحقيقية فهي الاستجابة لرغبات الإنجليز والأمريكان والفرنسيين وتمهيد الطريق لترسيخ جذور دولة بني صهيون وإزاحة أهم عقبة في هذا الطريق وهم الإخوان المسلمون .

وأغلقت دور الإخوان وصودرت ممتلكاتهم واعتقل عدد كبير منهم من القاهرة والأقاليم إلا فردا واحدا هو قائد الجماعة ومؤسسها هو حسن البنا.

ويضيف الأستاذ شمس الدين الشناوي:

ولقد سمعت بنفسي من الإمام الشهيد حسن البنا في مكتب فتحي رضوان المحامي (الذي رفع دعوى بإلغاء قرار الحل أمام مجلس الدولة) وقد كلمني تليفونيا وطلب مني الحضور لوجود شخص يريدني عنده فذهبت إليه ووجدت الإمام الشهيد حسن البنا ، وبعد السلام ترك ترك فتحي رضوان لنا الغرفة ، وكان الإمام الشهيد يشعر بالأسى والمرارة لهذه الأحداث السريعة المتلاحقة ، فحذرته من الاغتيال حيث كنت علمت أن بعض شباب السعديين - وعلى رأسهم فتحي عمر وكامل الدمياطي - قد اجتمعوا في ناديهم وأقسموا على اغتيال حسن البنا ثأرا للنقراشي ، وطلبت من الأستاذ البنا الاحتياط والحذر فقال عليه رحمة الله:

ماذا أصنع وقد اعتقلوا الإخوان وتركونى وحدى، لقد طلبت منهم اعتقالى فرفضوا، وقلت لهم إن كانت "الإخوان المسلمين" عصابة إجرامية فأنا رئيسها.. إنكم بذلك تقتلوننى.. وسحبوا مسدسى المرخص.. واعتقلوا أخى عبدالباسط الضابط الذى كان يصاحبنى فى تنقلاتى.. وسرقوا سيارتى من أمام المنزل..ومنعونى من السفر إلى الخارج.. وطلبت منهم الذهاب إلى عزبة أحد الإخوان ببنها فرفضوا!! .. وطلبت زيارة الإخوان فى معتقلهم فى هايكستب، فرفضوا أيضا.. والآن يطلبون مني زيارتهم لأمر يقصدونه؟!. (المؤامرة على الاسلام - لجابر رزق - ص 36-45)

وقد سأل أحد الصحفيين الأستاذ البنا : ما الأسباب التي دفعت بالمسئولين إلى حل الإخوان ؟ فقال : كما يقال : إن من هذه الأسباب : العوامل الحزبية التي تصاحب قرب موعد الانتخابات النيابية ، إذ أنه من المعروف أن الحزب السعدي يريد أن يظفر بأغلبية برلمانية تمكنه من الاستمرار في الحكم . ومن المعروف أن الإخوان المسلمين هم قوة شعبية ينتظر منها الصمود في هذا الموقف ، فمن التكتيك الحزبي أن يشوه موقفهم بمثل هذا العمل قبل حلول حوعد الانتخابات الذي سيكون في أكتوبر 1949 ما لم تطرأ عوامل علي الموقف. ( المرجع السابق).

ولقد كتب الأستاذ البنا رحمه الله قبل استشهاده مذكرة فند فيها : أسباب الاتهامات الباطلة التي انتحلتها حكومة السعديين للكيد للإخوان وتدبير قرار الحل الغاشم الذي استصدرته وعنون لهذه المذكرة بعنوان : القول الفصل .

ويتحدث ريتشارد ميتشيل في كتابه عن " الإخوان" عن هذه الفترة فيقول:

وفي هذه الأثناء كتب البنا رسالة "القول الفصل" بعد أن يئس من تسوية الأمر مع االحكومة ووزعت الرسالة في الخفاء ، وقد أوردت وجهة نظر الإخوان فيما حدث لهم إبان تلك الفترة . والواقع أن البنا أنكر جميع التهم التي وجهت للجماعة في قرار الحل الأول وردها إلى ظروفها ، مبينا أنها جميعا مفتريات مختلقة أو حوادث محرفة . وأضاف بعض التعليقات على الحوادث المختلفة التي وقعت قبل القرار وبعده ، وأصر على أن الأسلحة التي كانت في حوزة الجماعة كان معترفا بها من قبل الحكومة وبعلم بها ، إذ كانت جزءا من الاتفاق بين الحكومة والجامعة العربية ، ولم يكن في النية استخدامها في أي نشاط سري عدا استعمالها في فلسطين .

أما الانفجارات التي حدثت في المؤسسات اليهودية فلم تكن - ولا يمكن أن تكون - على وجه قطعي بأمر من القيادة ، وأردف قائلا : إن هذه الأحداث ينظر إليها بوصفها نتائج لحرب فلسطين ، ولولاء بعض "مواطنينا اليهود" وزعمائنا المصريين الذي يشك فيه دون ريب ، وعلى الرغم أنه أبدى أسفه لموت أحمد الخازندار فإنه أصر على أن الجماعة لايجوز أن تكون مسئولة عن أعمال أفراد أعضاء فيها ، مذكرا الرأي العام : أن القاضي قد عرض نفسه لنقد الشبان ، وذلك بحكمه بالسجن على شباب وطني هاجم البريطانيين.

كذلك أبدى البنا أسفه لمقتل النقراشي ، ولكنه ذكَّر بأنه لم تكن هناك جماعة لتُسأل ، ولم يكن هناك زعماء ولا خطة ، لأنهم جميعا كانوا إما في السجون وإما تحت المراقبة ، ولم يكن الحادث إلا ما خشي منه كرد فعل للموقف ، كما ذكَّر الناس باستنكاره الشديد لحادث إلقاء القنبلة على دار الحكمة ، وأصر مرة ثانية على أن الواقع أنه إذا كانت القيادة غير قادرة على مزاولة سلطتها فإن المسئولين الوحيدين عن هذه الحوادث هم وحدها الذين ارتكبوها .

واستطرد البنا واصفا الاضطهاد والتعذيب اللذين تعرض لهما أعضاء الجماعة في حملة الاعتقالات الشاملة التي تمت دون اتهام : فهناك التعذيب في السجون وفقدان العمل والمتاع ، وهناك التفتيش التعسفي والمراقبة .

كذلك أنكر البنا التهمة بأن جماعة الإخوان المسلمين أصبحت هيئة سياسية وأنها تعمل على قلب نظام الحكم ولخص في فصل ختامي ما قدمه الإخوان المسلمون لوادي النيل وللدول العربية وللأمة الإسلامية .

وكانت هذه الرسالة آخر ما كتبه مرشد الإخوان، إذ قُتل قبيل غروب الشمس في 12 فبراير 1949، بعد أن تلقى استدعاء مجهولاً إلى المركز العام لجمعية الشبان المسلمين. وإزاء مبنى الجمعية، وعلى قارعة الطريق أطلق عليه الرصاص بينما كان يهم بركوب سيارة أجرة، مات بعدها بدقائق في أحد المستشفيات القريبة (هامش : يعلق الأستاذ صالح أبو رقيق قائلا : الأعمار بيد الله .. وإنما صعدت روحه إلى بارئها بسبب النزيف ؛ إذ امتنع الطبيب المعالج أن يزوده بالدم خضوعا للتعيمات العليا - د. محمد الترميزي)

وكان البنا قد أخبر زملاءه بأن إحجام الحكومة عن القبض عليه معناه إصدار أمر رسمي باغتياله ، وقد دلت التحقيقات والمحاكمات المختلفة التي جرت فيما بعد على أن اغتياله كان أمرا مدبرا بلا ريب، أو على الأقل مرضيا عنه من رئيس الوزراء (مع احتمال تأييد القصر) وأنه تم على يد أعضاء البوليس السياسي . ولم يقدم الذين اشتركوا في الاغتيال إلى المحاكمة إلا حين أعاد ضباط الجيش التحقيق في القضية بعد ثورة يوليو 1952م . وفي عام 1954 م صدرت الأحكام على المتهمين الرئيسين الأربعة : فحكم على المتهم ارئيسي في الجريمة أحمد حسين جاد بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة ، وحكم على ضابطين آخرين هما محمود عبد الحميد ومحمد محفوظ بالسجن خمسة عشر عاما وعلى ضابط آخر هو محمود الجزار بسنة واحدة . ( الإخوان المسلمون لريتشارد ميشيل ص 163-164)

وقد جاء في مذكرة "القول الفصل" هذه الفقرة:

"ومن الذي يفعل هذا ويحكم به؟؟ الحكومة المصرية التي أخفقت في المفاوضات مع الإنجليز فقطعتها وذهبت إلى مجلس الأمن فعادت منه بخفي حنين وتركت قضية الوطن على رفوفه العالية في زوايا الإهمال والنسيان وتجاهلت الإنجليز بعد ذلك تجاهلاً تماماً وتركتهم يفعلون ما يريدون حتى أضاعت بهذا التجاهل واتبعت سياسة التردد والاضطراب في قضية فلسطين قبلت الهدنة الأولى فأضاعت بهذا القبول كل شيء وحرمت الجيش المصري الباسل ثمرة انتصاره وأفقدت الوطن ملايين الجنيهات وآلاف الرجال فضلا عن فقدان الكرامة وسوء الحال والمال..

ودللت يهود مصر فلم تتخذ معهم أي إجراء مع مواقفهم من مناصرةٍ أعداء الوطن وخصوم البلاد والتي يعيش آمنا في ظلها كل أجنبي آفاق ومتشرد طريد وعابث عربيد آمنا مطمئناً على نفسه وماله وعبثه وفساده وتحمي حانات المسكرات وبيوت العاهرات ودور المنكرات وأبواب المراقص والبارات والتي عجزت كل العجز عن إنقاذ شعبها من براثن الفقر والمرض والجهل والعطل والغلاء الفاحش الذي يئن منه الأقوياء فضلاً عن الضعفاء والتي لا يؤيدها ولا يسندها إلا نفر قليل ضئيل من أصحاب المصالح الشخصية فهي في وادٍ والأمة في وادٍ.

هذه الحكومة التي تطارد الإخوان المسلمين وهم الشعب وتحكم عليهم بالإجرام والنفي والتشريد ومصادرة الأموال والأملاك والحريات ولو أخذت الأمور وضعها الصحيح وكانت الكلمة للحق لا للقوة لحَاكَمْنا كم نحن أيها المفرطون على هذا التفريط ولحاسبناكم على هذا العجز أشد الحساب ولكن دولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون" (انظر : حسن البنا - مواقف في الدعوة والتربية ص316)

اعتقال الإخوان إلا حسن البنا:

وكان الأمر العجب أن يُعتقل العدد الكبير من أفراد الإخوان، ولا يُعتقل المرشد العام للإخوان، ومؤسس الحركة حسن البنا!! وكان في هذا إشارة يفهمها الشخص العادي -فضلا على اللبيب- أن هناك أمرا يُبيَّت بليل للرجل، والاعتقال يُعتبر أمانا بالنسبة له، أما إطلاق سراحه -وإخوانه وأتباعه معتقلون- فهي الفرصة الذهبية لتنفيذ ما يريدون بشأنه.

انتهز الأستاذ البنا الفرصة؛ ليكتب فيها الرد على مذكرة "عبد الرحمن عمار" وكيل وزارة الداخلية، التي تضمنت أسباب حل الإخوان، وفنّد كل الشبهات التي أوردها بمنطق قوي.. واحدة بعد الأخرى، ولكن من يقرأ؟ ومن يسمع؟ فلم يتح لهذا الرد أن يراه أحد!.

كما انتهز هذا الوقت ليمر على عدد من رجال الدولة، يحاول أن يصل معهم إلى تقارب أو صلح مع الحكومة؛ حفاظا على استقرار البلد وأمنه، وحرصا على جمع الصفوف وراء قضية الوطن من ناحية، وقضية فلسطين من ناحية أخرى، وتفاديا لوقوع ما لا تحمد عقباه.

ولكن للأسف لم يجد آذانًا صاغية، ولا قلوبًا واعية؛ ولقد قال له واحد ممن اتصل بهم عندما.. قال: "أخشى أن يحدث ما لا تُحمد عقباه". قال له : "وماذا عسى أن يحدث يا شيخ حسن؟ يُقتل رئيس الوزارة؟‍‍‍‍‍.. يأتي رئيس غيره!، أما سمعت المثل العربي: إن ذهب عير فعير في الرباط!" يعني: إذا ذهب حمار، فإن الحمير لم تنته، هناك حمار غيره يقوم مقامه .