كان قلم الشيخ الغزالي هو أبرز الأقلام في تلك الفترة، سواء في عرض الدعوة أم في الدفاع عنها، وقد بدأ يكتب عن العقيدة الإسلامية بنفس جديد، وأسلوب جديدٍ بعيدًا عن المنهج التقليدي القديم، وإن استفاد منه في بعض جوانب شتى، وهذه المقالات هي التي جمعها بعد ذلك في كتابه "عقيدة المسلم".

وكان من أشهر المعارك التي خاضها بقلمه في تلك الفترة؛ معركة الرد على الشيخ خالد محمد خالد في كتابه الجديد الذي أحدث ضجة في المجتمع المصري، بل ربما في المجتمع العربي في ذلك الوقت، وهو كتاب "من هنا نبدأ".

كان الشيخ خالد في صف الإسلاميين قبل ذلك، وكان محسوبًا على "الجمعية الشرعية" أتباع الشيخ السبكي، وقد قرأت له بعض مقالات في مجلة الاعتصام مغرقة في النزعة الصوفية، عرفت أنها جمعت بعد ذلك في كتابه "والموعد الله"، وقال لي بعض الإخوة البارزين في الجمعية الشرعية بالمحلة الكبرى ممن كانوا قريبين في فكرهم من الإخوان: إن الشيخ خالد كان من أبرز الوعاظ المؤثرين بالجمعية الشرعية، وكان من أحسن الناس تلاوة للقرآن، حتى إن بعض من صلوا خلفه قالوا: كأنما تسمع ضربات قلبه من شدة خشوعه وتأثره بالقرآن؛ وهذا يدل على أن الرجل لم يكن يوما دجالًا ولا ممثلًا .

وكان هو مع الشيخ الغزالي وبعض الأزهريين قد أنشأوا فيما بينهم لجنة سموها "لجنة النشر للأزهريين" شعارها "الدين في خدمة الشعوب"؛ ردًا على الماركسيين الذين يقولون "الدين أفيون الشعوب"، وكان مما تبشر به اللجنة: كتاب للشيخ خالد عنوانه "يا أربعمائة مليون هبوا"، وكان هذا الرقم هو العدد الشائع عن المسلمين في ذلك الوقت، وكانت اللجنة قبل محنة الإخوان ودخول المعتقلات تقول: انتظروا هذا الكتاب المثير.

فلما خرجنا من المعتقلات وجدنا بدل الكتاب المنتظر للشيخ خالد كتابًا آخر مناقضًا على طول الخط؛ هاجم فيه الفكر الإسلامي في أكثر من فصل، وخصوصًا في فصل "قومية الحكم" الذي أنكر فيه إسلامية الحكم، وهاجم مقولة أن الإسلام دين ودولة أو دعوة ودولة!

وكان الشيخ خالد صاحب قلم رشيق أنيق، وأسلوب شائق رائق أخاذ، يخاطب العقل المعاصر ويتفنن في كسبه وجذبه وإقناعه، ثم إنه ليس غريبًا على الإسلام، فهو واحد من الذين تخرجوا في أزهره، وحملوا عالميته، كما أنه أحد الذين عاشوا في رحاب الجمعيات الدينية؛ ولهذا كان الشيخ خالد حريصًا على أن يضع تحت اسمه هذه العبارة "من العلماء".

وهذه هي المرة الثانية التي يصدر فيها كتاب من عالم أزهري يهاجم ما استقر الفكر الإسلامي والإجماع الإسلامي، بعد كتاب علي عبد الرازق الشهير "الإسلام وأصول الحكم"، الذي صدر قبله بأربعة وعشرين عامًا أي في سنة 1925م، وكانت له ضجة كبيرة في زمنه، ورد عليه كبار العلماء مثل: الشيخ محمد بخيت والشيخ محمد الخضر حسين وغيرهما، وقد ثار الأزهر عليه، واحتجت هيئة كبار علمائه، وقررت تجريده من شهادة العالمية... إلخ

وكما رحبت الدوائر الصليبية والاستشراقية والتبشيرية والعلمانية وغيرها من القوى المعادية للرسالة الإسلامية والأمة الإسلامية بكتاب الشيخ علي عبد الرازق؛ رحبت هذه الدوائر نفسها وعلى نطاق أوسع بكتاب الشيخ خالد وروجت له؛ فهذا تحقيق لمقولة المبشر المعروف "زويمر": "إننا ننجح حقًا حين يهاجَم الإسلام بأقلام أبنائه أنفسهم، لا بأقلامنا نحن الغرباء عنه"، فكيف إذا كان هذا الابن من علماء الأزهر؟!

من أجل هذا احتفوا بكتاب الشيخ خالد كما احتفوا بكتاب الشيخ علي عبد الرازق، على أن كتاب الشيخ علي كان كتيبًا صغيرًا لم تتبعه كتب أخرى، بل كان أشبه بما يسمونه "بيضة الديك". أما خالد فقد أتبع كتابه بجملة كتب، تسير في الخط نفسه، كل واحد منها يجرد الإسلام من مقوم من مقوماته، فكتاب "من هنا نبدأ" جرد الإسلام من حقه في الحكم وإقامة الدولة، وكتابه "الديمقراطية أبدًا" جرد الإسلام من حقه في التشريع، وكتابه "هذا أو الطوفان" جرد الإسلام من حقه في توجيه الأخلاق ورعاية الفضائل، ورأى أن الأخلاق المدنية أهدى من الأخلاق الدينية!

فماذا بقي يا ترى للإسلام بعد أن جُرد من الحكم ومن التشريع ومن الأخلاق؟!

رد كثيرون على الشيخ حالد، منهم الأستاذ محمد فريد وجدي في مجلة الأزهر في عدة مقالات تحت عنوان "ليس من هنا نبدأ"، والشيخ عبد المتعال الصعيدي في مجلة الأزهر في سلسلة مقالات بعنوان "ليس من هنا نبدأ".

ولكن قلم الشيخ الغزالي هو أقدر الأقلام التي تصدت للرد على دعاوي الشيخ خالد، بعلمية وموضوعية، وبلغة أدبية عالية، وبأسلوب لا يحتد كثيرًا على الشيخ خالد، برغم ما يعرفه كثيرون عن قلم الغزالي الذي يصبح أحيانًا شعلة من نار.

ولكن كان الشيخ الغزالي يعرف الشيخ خالد، ويحسن الظن به، ويرى أن فيه خيرًا كامنًا في أعماقه، وأنه رجل حر لا يبيع نفسه لأحد، وأن الجمعيات الدينية هي المسئولة في نظره عما وصل إليه الشيخ خالد؛ فقد مرت عليه أوقات كان فيها شديد الحاجة إلى المعونة، ولم تمتد إليه يد بالعون.

وحين ذكر أن الأزهر يفكر في تجريد الشيخ خالد من شهادة العالمية؛ انتقد الشيخ الغزالي ذلك بحدة وقال: لماذا يكيل الأزهر بكيلين؟ لقد كتب الشيخ عبد المتعال الصعيدي ما يُفهم منه إنكار الحدود في الشريعة الإسلامية ولم يجرده الأزهر من العالمية، وقد سحبها من الشيخ على عبد الرازق ثم عاد وردها إليه.

كان الغزالي حسن الظن بصديقه القديم خالد، برغم خلافه الفكري الجذري معه، ورده عليه في مقالات نُشرت في كتاب سماه "من هنا نعلم"، ولكنه لم يكن قاسيًا عليه، كما قسا على آخرين ممن رد عليهم، وقد صدقت الأيام حسن ظن الغزالي في خالد، وأنه كان في محله، فما أسرع ما دار الزمن حتى وجدنا خالدًا يصدر كتابًا يعلن فيه بصراحة وشجاعة قلما يتوافر مثلها لغيره، رجوعه عما سطره في كتابه "من هنا نبدأ" عن الدولة والحكم في الإسلام، وهي أهم وأبرز نقطة اختلف فيها مع الغزالي خاصة والإسلاميين عامة، وبيَّن الدوافع التي دفعته إلى اتخاذ هذا الموقف الفكري في ذلك الزمن، وذلك في كتابه "الدولة في الإسلام".

لم يتح لي أن ألتقي بالشيخ خالد في حياتي، برغم حرصي على ذلك، لوجودي خارج مصر من أول الستينات، ولكني لقيته وجها لوجه مصادفة دون أن أعرفه في منزل الشيخ الباقوري، بعد خروجه من الوزارة، وكان يتحدث في مجلسه بثقة وجدارة، ثم استأذن وانصرف، فسألت بعض الجلساء: من هذا؟ قالوا: إنه خالد محمد خالد، وكانت هي المرة الأولى والأخيرة.

ومن المواقف التي أذكرها ولا أنساها، كما لا يمكن أن ينساها كل مصري يجري في عروقه دم الحرية والكرامة: ما سمعته بأذني -وأنا في ذلك الوقت في الدوحة- حين انعقد المؤتمر الوطني الكبير الذي دعا إليه عبد الناصر سنة 1962م؛ ليحشد القوى الوطنية من ورائه؛ لتأييد اتجاهه الجديد في التحول الاشتراكي، ولا سيما المثقفين من الكتاب والأدباء والعلماء والصحفيين والإعلاميين وغيرهم.

وقد كان عبد الناصر يريد أن يجمع الخيوط كلها في يده وأن تكون مصر وشعبها ومقدراتها كلها رهن إشارته وطوع إرادته، وكما قال لبعض الإخوان في أحد الاجتماعات بصراحة: أريد أن أضغط على زر فتتحرك مصر كلها وأضغط زر آخر فتتوقف كلها!!

وقد حضر الجميع في هذا المؤتمر مسالمين ومسلمين، سائرين في الركاب، متمسحين بالأعتاب، مهللين للاشتراكية، مسبحين بحمد القومية العربية، مباركين ممجدين للاتجاهات الناصرية، ولم يشذ عن هذا الموكب المساير إلا رجلان: أحدهما الشيخ محمد الغزالي الذي تحدث عن وجوب تميزنا بتشريعنا وقيمنا وآدابنا وأزيائنا، سواء كانت أزياء الرجال أم أزياء النساء، بدل هذا التبذل والتكشف الذي نراه، تقليدًا للمرأة الغربية والحضارة الغربية، في وقت نريد أن نتحرر منها ومن أغلالها.

وقد ثارت الثائرة، وقامت القيامة على الشيخ الغزالي، وهاجمه صلاح جاهين في جريدة "الأهرام" بزجله ورسومه الكاريكاتورية وكان فيما قاله:

في سط ما المؤتمر حامى الوطيس شغال  **  من أجل قوت العيال أجيال ورا أجيال

صاحب الفضيلة الغزالى قام على حيله  **  قالك: كمام الحريم لازم يكونوا طوال!

وأما الرجل الثاني الذي خرج عن خط المؤتمر وتكلم بصوت عال وبشجاعة نادرة، بكلمات في غاية الصدق والقوة والروعة؛  فهو الشيخ خالد..

تكلم عن "الحرية" التي هي أم التنمية، وينبوع التقدم ومصدر القوة الحقيقية للوطن والمواطنين، وبدون هذه الحرية وتوفيرها للقريب والبعيد، والمؤيد والمعارض؛ لا أمل في تقدم، ولا رجاء في مستقبل، الحرية بكل صورها وكل معانيها.. إلخ ما قاله في هذا السياق، مما لم أعد أذكره كله، ولكنه كان ضد عبد الناصر وفلسفته في حكم البلد حكمًا فرديًا، لا حرية فيه لصحافة ولا لأحزاب ولا لمعارضة.

ولم يستطع أحد أن يهاجم كلمة الشيخ خالد كما هاجم كلمة الشيخ الغزالي؛ لأن خالد كان يتكلم باسم العالم الحر، وباسم الديمقراطية وباسم الدنيا الجديدة التي يتغنى بها الجميع، ولا يستطيع أحد أن يتهم خالد بأنه رجعي أو عميل لأي قوة كانت بخلاف الشيخ الغزالي الذي كان يتكلم باسم الإسلام.

كما أسجل هنا موقفًا آخر ذكره أخونا عبد الحليم خفاجي في كتابه "عندما غابت الشمس" نقله عن أحد رجال الثورة المعروفين، وهو أبو الفضل الجيزاوي، قال عبد الحليم: "كان من بين المعتقلين أبو الفضل الجيزاوي أحد الضباط الأحرار الذين شاركوا عبد الناصر في قيام الثورة؛ دفع ثمن مطالبته بالإفراج عن المسجونين السياسيين بمجلس الأمة، ويومها رد عليه زكريا محيي الدين قائلًا: ليس لدينا إلا مساجين عاديين.. وقد بكي الرجل وهو يرجونا أن نقدم على خطوة التأييد، لننجو من قبضة الشياطين الذين يدبرون لنا أسوأ مصير، فشكرنا عاطفته وأحببناه. وأكدنا له أن ثقتنا في الله تحمينا من أي سوء وما زالت تتوالى في كل يوم".

وعندما وقف خالد محمد خالد مدافعًا عن الحريات فى اللجنة التحضيرية؛ شعرنا بالاعتزاز بأن فى مصر رجالًا لم تتزلزل، وشاركَنـا أبو الفضل الجيزاوي تقديره، وهو من رجال الثورة المعروفين، وزاد على ذلك بقصة عنه لا يعلمها غيره.. سأقصصها عليكم للتاريخ؛ لأنكم أى الإخوان المسلمين أصحابها. هكذا قال لنا أبو الفضل.

قلم لا يُشترى

وقال: كنت يومها مسئولًا عن التوجيه المعنوى للجيش حين قامت الثورة بضرب الإخوان فى عام 1954.. اشترينا كل الأقلام، وسخرناها للهجوم عليكم، وخاصة فتاوى العلماء ومن لهم وزن فى الحقل الإسلامى، ولم يعد أمامنا سوى قلم خالد محمد خالد الذى سيفوق وزنه كل ما سبق من الأقلام.

قصدنا منزله، ومعى مجموعة من ضباط الجيش، وعرضنا الأمر عليه قائلين:

أعطنا مسودة هجومك على الإخوان، وقدِّر بنفسك ما تشاء من ثمن، ونحن سنطبع منها ما نشاء من أعداد.. ولوّحنا له فى حالة الرفض بالمصير، فلم يهتز له طرف، وأجابنا فى هدوء:

"لقد جاء عرضكم السخىُّ فى وقت أحتاج فيه للجنيه الواحد لدفع إيجار شقتى الذى تأخرت فى دفعه شهرين لأول مرة لخلو يدى، ومع هذا يمنعنى من الاستجابة لطلبكم ثلاثة موانع:

الأول: أن الكاتب الحر تنبع فكرته من نفسه، ولا تُفرض عليه.

الثانى: أنه ليس من المروءة أن أُجهز على الإخوان وهم فى محنتهم، عاجزين عن الرد عن أنفسهم.

الثالث: أن سكوتكم أنتم على ما يُفعل بالإخوان من أساليب ديكتاتورية سيجعل عبد الناصر يستمرئ هذا الأسلوب مع البلد كلها بعد ذلك، وستكونون أنتم أول الضحايا". (انظر: "عندما غابت الشمس" ص447-449)

فما أروعه من موقف وما أبلغه من جواب.

وحين انتقل خالد إلى جوار ربه رثيته بكلمات مناسبة على منبر جامع عمر بن الخطاب بالدوحة بوصفه أحد الأقلام الحرة الشجاعة التي لم تبع ولم تُستأجر لأحد في يوم من الأيام.