ذكرت ما كنت أعانيه من قلق وحيرة وأسى؛ نتيجة الانقسام الحاد في صفوف الجماعة التي عشنا فيها شبابنا، ونذرنا لها حياتنا، وقد علمنا من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن وقائع التاريخ: أن شر ما تصاب به الجماعات هو انقسامها على أنفسها، وتفرق أبنائها فيما بينهم.

قرأنا في القرآن قوله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال:46)، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} (آل عمران:100) أي بعد وحدتكم متفرقين، وبعد أخوتكم متعادين، كما تبين أسباب النزول للآيات.

وقرأنا قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: "لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا"، وقرأنا في التاريخ أن معظم ما أصاب المسلمين من هزائم وانكسارات كان سببها افتراق أمرائهم وملوكهم فيما بينهم، والنزعات الانفصالية التي مزقت دولتهم .

وطالما ذكرّنا الإخوان بقول إمامهم الشهيد: أنا لا أخاف عليكم من الإنجليز ولا من الأمريكان ولا من غيرهم؛ إنما أخاف عليكم من أنفسكم: أن تعصوا الله فيتخلى عنكم، أو أن تتفرقوا فلا تجتمعوا إلا بعد فوات الفرصة. وشاء القدر الأعلى أن يخرجنا من هذه الحيرة والأسى الذي أرق جفوننا؛ حادث خطير، اهتزت له أركان مصر عند إذاعته على الهواء، وقدر لنا أن نسمعه أول ما أذيع؛ ألا وهو "حادث المنشية" الشهير، ومحاولة اغتيال عبد الناصر أثناء خطابه في ميدان المنشية الشهير بمدينة الإسكندرية، وأذيع أن الذي حاول الاغتيال من أعضاء الجهاز السري للإخوان المسلمين.

وهنا دخلنا في مرحلة جديدة، فقد أصبح الإخوان ـ وبخاصة من كان له منهم نشاط معروف ـ مطلوبين للثورة، وقد ذكرت أني اعتقلت من قبل في ليلة الامتحان، ولولا شفاعة الأستاذ البهي ما خرجت، والآن لم تعد تنفعنا شفاعة الشافعين، ولا عاد في مقدور أحد أن يشفع لأحد، والرحى دائرة، والوطيس حامٍ.

وقد منح هذا الحادث كل الفرصة لعبد الناصر، ليضرب بيد من حديد، ويأخذ الإخوان كلهم بجريرة هذا الحادث الذي اتهم جماعة الإخوان وقيادتهم بتدبيره . أما كيف تم هذا الحادث؟ ومن المسؤول عنه؟ وما مدى مسؤولية الجماعة وقيادتها ومرشدهم العام عن هذا الحادث؟ فيلزمنا أن نقف هنا قليلًا ـ بل طويلًا ـ لننظر في تسلسل الأحداث، وكيف مضت في تسارعها، قبل أن نسارع بتصديق الاتهام أو تكذيبه.

ولا نزاع أن الجو كان مكهربًا، والعلاقة كانت متوترة، بل مشتعلة بين الإخوان والثورة منذ مدة، وزادها اشتعالًا وتوترًا اختفاء المرشد العام الذي طال نسبيًا، وإصدار النشرات السرية التي كانت باستمرار تنتقد الثورة، أو قل تهاجمها بعنف في سياستها، وتتهمها بأشياء يصعب على الثورة أن تسكت عنها، وقد فشلت كل الجهود التي حاولت التقريب والمصالحة بين الطرفين، مثل محاولة الأخ الأستاذ محمود عبد الحليم التي قدم فيها مذكرة، وحكاها بتفصيل في كتابه: "الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ" الجزء الثالث ـ وقد أشرنا إليها من قبل.

تسلسل الأحداث

ونذكر هنا ما رواه د.ريتشارد ميتشل في كتابه عن "الإخوان" حيث يقول عن تلك الفترة : "في 4 أكتوبر زار "يوسف طلعت" الهضيبي في الإسكندرية، وأخبره بوجود الكثير من البلبلة واللبس الفكري في الصفوف حول أفضلية ما يجب عمله ونوع ذلك العمل، وطلب من المرشد أن يخرج على الناس، حتى يوضح الأمر، ويرفع من الروح المعنوية المتدهورة للجمعية، وقد أجاب الهضيبي أن مكتب الإرشاد يرغب في أن يبقى مختفيًا، كما أخبره أنه أحس بالقلق في الأيام القليلة الماضية من خشية احتمال وقوع عنف واغتيال، وأضاف: "إذا أردتم القيام بمظاهرة تؤيدها جميع طبقات الشعب،؛ فذلك هو الصواب"، ومع ذلك فيجب أن تقتصر المظاهرة على المطالبة "بحرية الصحافة، وبمجلس نيابي، وبعرض اتفاقية الجلاء على الشعب"، كما يجب أن تكون "مظاهرة شعبية"، وأكد: أنه يرفض قبول أي "عمل إجرامي"، مؤكدًا أنه يعتبر نفسه "بريئًا من دم أي شخص كان". انتهى

بهذا الوضوح الذي يضاهي شمس الضحى في الظهور؛ كان جواب المرشد العام الأستاذ الهضيبي عليه رحمة الله، وكان رجلًا مستقيم الفكر والسلوك لا يعرف الالتواء، ولا اللعب بالألفاظ، فلا يمكن أن ينسب إليه أحد من المفترين أنه وافق على أي خطة فيها اغتيال. وقد وضح الصبح لذي عينيين.

في هذا الوقت كان هناك شخص واحد، يفكر وحده في علاج هذه القضية ـ قضية علاقة الإخوان بالثورة ـ بطريقته الخاصة. هذا الشخص هو هنداوي دوير المحامي .وأنا أعرف هنداوي دوير وأعرف نوع تفكيره، فقد لقيته عدة مرات بالمحلة الكبرى، إذ كان يعمل في مصنعها قديما قبل أن يحصل على ليسانس الحقوق، وينتقل إلى القاهرة، ومن عرف "دوير" عرف أنه رجل ذكي، ورجل مغرور، ورجل متحمس عجول. كما أنه رجل مخلص للدعوة لا يمكن أن يتهم بخيانة أو عمالة للخصوم.

تفكير هنداوي دوير يقوم على أن هذا النظام يعتمد في بقائه على شخص واحد، هو سنده وعموده الأساسي، فإذا سقط هذا الشخص سقط النظام كله، هذا الشخص هو جمال عبد الناصر، وكيف يذهب أو يسقط عبد الناصر عمود النظام الثوري؟ إنه أمر في غاية السهولة: رصاصات يطلقها رامٍ ماهر في صدره، فيخر صريعًا، ويخر معه نظامه أيضًا.

فهل عجزت جماعة كبرى كالإخوان أن يكون فيها رام ماهر؟ كلا. بل هو موجود، بل هو أقرب ما يكون إليه. إنه في شعبته نفسها. إنه الشاب الرامي الحاذق (النشانجي) محمود عبد اللطيف السباك أو السمكري المعروف. ما  أبسطه من حل، وما أسهله من علاج، لا يحتاج إلى جماعات مسلحة، ولا إلى تدبير انقلاب على نظام الحكم، وما يحتاج إليه من إمكانات وتدبيرات، وما يحوط به من محذورات وتخوفات. بخلاف هذا الحل الذي يقوم على مجرد يد رامية ماهرة وعدة رصاصات!!

ولم يفكر المحامي الذكي المعجب بنفسه: ما العمل إذا أخفق هذا الحل، وفشلت هذه الخطة؟ لم يسمح لنفسه أن يفكر في الوجه المقابل؟ بل افترض النجاح  أبدًا. اختار هنداوي دوير محمود عبد اللطيف، وأوهمه أنه مكلف من قيادة الإخوان باغتيال عبد الناصر. ودوير هو رئيسه في شعبة إمبابة، وله عليه حق السمع والطاعة. وكما يقول ريتشارد ميتشل: أمهله ثلاثة أيام ليتخذ قراره.

يقول ميتشل :

"وفي 19 أكتوبر ـ وهو اليوم الذي أمضى فيه عبد الناصر المعاهدة مع بريطانياـ قبل عبد اللطيف مهمة اغتياله بسبب "ارتكابه الخيانة" بإمضاء المعاهدة التي "ضيعت حقوق البلاد"، ووضعت الخطط للقيام بهذا العمل في نفس اليوم، إلا أن الظروف التي أحاطت بعبد الناصر في الاجتماعات العامة لم تساعد على تنفيذ الخطة بنجاح؛ وبناء على ذلك فقد أجّل تنفيذها لوقت أكثر ملاءمة.

وفي 24 أكتوبر قام كمال خليفة وكان من أكثر أعضاء مكتب الإرشاد احترامًا بزيارة لجمال سالم نائب رئيس الوزراء، وقدم التهنئة للحكومة على إكمالها المفاوضات وإمضائها للمعاهدة، وشاع من مصادر يعتد بها أن الهضيبي قرر إصدار بيان جديد يبين فيه انطباعه الحسن عن المعاهدة، على خلاف انطباعه عن الخطوط الرئيسية السابقة للاتفاق، واستمرت "لجنة الاتصال مع الحكومة" في جهودها لرأب الصدع.

وفي عصر يوم 26 أكتوبر كان أحد أعضاء مكتب الإرشاد، في مكتب أنور السادات ليطلب تحديد موعد مع رئيس الوزراء لحل بعض المشاكل القائمة، وفي نفس الوقت زار عبد العزيز كامل أحد الأعضاء البارزين في الجماعة ورئيس قسم الأسر منزل صديقه هنداوي دوير(1) الذي كان زميلًا له في شعبة إمبابة بقسم القاهرة، ولم يذكر دوير لعبد العزيز كامل آنئذ أنه عمل على إرسال عبد اللطيف إلى الإسكندرية في صباح ذلك اليوم كجزء من المؤامرة الإرهابية.

وفي المساء حيث وقف عبد الناصر(2) أمام جموع حاشدة، ليذكر مصر وجهوده الوطنية الشخصية، وليحتفل بنتائجها التي تجلت في اتفاقية الجلاء، أطلقت عليه النار ثماني مرات، وتوقف رئيس الوزراء لحظة ستظل ذكراها الحزينة باقية لأمد طويل، وقطع خطابه حينما دوت الطلقات النارية، ثم استأنف الكلام، وقد تمكن وحده من حفظ النظام حينما اخترق أثر هذه الرصاصات نفوس الجماهير، ولم تمض ساعات حتى أذيعت كلمات عبد الناصر في تلك اللحظة وتكررت إذاعتها في القاهرة ومنها إلى سائر العالم العربي. قال عبد الناصر:

"أيها الشعب.. أيها الرجال الأحرار.. جمال عبد الناصر من دمكم، ودمي لكم، سأعيش من أجلكم، وسأموت في خدمتكم، سأعيش لأناضل من أجل حريتكم وكرامتكم. أيها الرجال الأحرار.. أيها الرجال.. حتى لو قتلوني فقد وضعت فيكم العزة، فدعوهم ليقتلوني الآن، فقد غرست في هذه الأمة الحرية والعزة والكرامة، في سبيل مصر وفي سبيل حرية مصر سأحيا، وفي خدمة مصر سأموت".(3)

لم يصب رئيس الوزراء، فأتم خطابه، واستأذن من الجماهير منصرفًا. لقد أمده هذا الحادث بفرصة العمر الوحيدة التي تمتع بها ذلك الوقت في صراعه العدائي الذي تميزت به علاقته مع الشعب الذي حاول أن يحكمه، كما أمده دون جدال بفرصة الإجهاز على الإخوان المسلمين. وفي 9 من ديسمبر اللاحق شُنق ستة من الإخوان وكان قد اُعتقل آلاف منهم، وقضي على الجماعة قضاء مبرمًا. وبهذه الأحداث ينتهي هذا الفصل.ا هـ.

أما القضاء المبرم على الجماعة، فهو أمر توهمه عبد الناصر ومن معه يومًا، ثم تبين لهم أنهم واهمون، وأن الإخوان أرسخ جذورًا، وأعمق امتدادًا مما ظن الظانون، ورغم ما حشده عبد الناصر ورجاله من كل أدوات التعذيب البدني والنفسي؛ فإن الدعوات الربانية لا يقضى عليها بالسجون تفتح، ولا بالمشانق تنصب، ولا بالسياط تلهب، ولا بالأموال تصادر، بل ربما زادها ذلك يقينًا وثباتًا.

.......

(1) وصفت هذه الزيارة بأنها جزء من المؤامرة قصد بها إخفاء غرض الجمعية الحقيقي من "المؤامرة" في ذلك اليوم، ونحن نعتقد أن زيارة خليفة والحوادث الأخرى التي وردت في الفقرة المذكورة تؤكد في الحقيقة وجهة نظرنا من أن الحوادث سبقت القيادة. أبو رقيق. يعلق الأستاذ صالح أبو دقيق على هذا بقوله: خالف هنداوي دوير تعليمات قسم الأسر، الذي يقضي بأن يكون رئيس القسم الدكتور عبد العزيز كامل، على علم تام بكل أسرار الأسر، عندما لم يبلغه بإرسال محمود عبد اللطيف إلى الإسكندرية، ويفسر هذا إلى حد كبير المعاملة الحسنة التي كان يلقاها هنداوي في السجن الحربي، وانهياره التام عند قدومه على حبل المشنقة، وهو يصيح: "أين جمال عبد الناصر؟ إننا لم نتفق على هذا"!! ودفن ومعه السر الكبير.

(2) يعلق أبو رقيق هنا قائلًا: وقف جمال عبد الناصر، ليقوم بدور البطل في تلك التمثيلية الفاجرة البارعة إذ ما تلك الشجاعة الفائقة أمام ثماني رصاصات توجه إلى صدره؟ وما هذا الثبات المقطوع النظير الذي نزل عليه في تلك اللحظات المفزعة؟ وما هذا الحظ النادر الذي نجا به المستبد الغادر من رصاصات الشهيد محمود عبد اللطيف المعروف عنه أنه أمهر رامي "نشانجي" منذ حرب فلسطين؟ وعندنا أكثر من اثني عشر دليلًا دامغًا تثبت براءة الإخوان من هذه الفعلة النكراء. هذا والشخص الذي أطلق الرصاصات في الهواء وهو بجوار محمود عبد اللطيف ومسك هذا وترك ذاك، موجود على قيد الحياة، وكل مظاهره تدل على أنه تاب وأناب، وفي حال من الورع لعله يغلب عليه يومًا ويعلن الحقيقة على الملأ؛ ليبرئ ذمته أمام الله المنتقم الجبار. ولا شك في أنه يعلم أن شرط قبول التوبة رد المظالم، وكم من المظالم حلت بالأبرياء بسبب هذه الفعلة.

(3) من بين المراجع العديدة المتاحة (بما في ذلك الصحف اليومية) أنظر. البيان الواضح 1 في م م ر (5 نوفمبر 1954) ص 12-21. وكان يعتقد في ذلك الوقت أن الحكومة قامت بتدبير الحادث حتى تتخلص من الجمعية، وهو اعتقاد ساندته معالجة الحكومة المشبوهة لهذا النبأ.