جاء واحد من قِبل عمدة القرية، وهمس في أذن خالي: إنهم في دوار العمدة يحتاجون إلى فضيلة الأستاذ، لمدة خمس دقائق. ورأيت وجه خالي قد تغير واكفهر، فسألته: ماذا في الأمر؟ فأخبرني الخبر. فقلت له: لا بأس، أذهب إلى دوار العمدة، وهي فرصة للسلام عليه، ولبست حلتي الإفرنجية «البذلة» مستعدًا لهذا اللقاء.

وعندما ذهبت إلى دوار العمدة قالوا: الحقيقة أن مركز المحلة هو الذي طلب الأستاذ. وهم ينتظرونه عند المحطة، حتى لا تحدث ضجة في البلد، وأمر العمدة بعربة «الحنطور» أن توصلني إلى المحطة.

الاستدعاء إلى مباحث طنطا:

وعند المحطة وجدت بالفعل سيارة تنتظرني، ووجهها جهة المحلة، فما أن ذهبت إليها وركبتها، حتى غيرت وجهتها، واتجهت إلى طنطا، وقال لي رجال الأمن الذين فيها: حضرتك مطلوب في طنطا. قلت لهم: على بركة الله، ربنا يقدّر الخير.

وذهبنا إلى تفتيش المباحث العامة في طنطا، وكان رئيسه يعرفني منذ اعتقال سنة 1954م، ولما دخلت عليه رحب بي، وسألني في دهشة: هل فعلت شيئًا يا شيخ يوسف في قطر قبل أن تأتي؟ قلت له: لو كنت فعلت شيئًا يؤاخذ به الإنسان في مصر، لبقيت في قطر، ولم أنزل برجلي إلى مصر مختارًا!

قال: معقول. طيب، هل فعلت شيئًا في مصر بعد أن وصلت؟ قلت: وهل أنا لحقت أفعل أي شيء؟ إن لي أيامًا معدودة في مصر، شغلت فيها بمرض صديق لي، ثم وفاته ودفنه من يومين.

قال الرجل: فلماذا يطلبك الجماعة في مصر «القاهرة»؟ وهم يطلبون معك زميلك في قطر: أحمد العسال! على كل حال أعتقد أن الأمر بسيط؛ ولهذا لم يشددوا في طلبك، وأنت لك خالة هنا أخذناك من بيتها أيام «الهوجة» وتستطيع أن تخرج من هنا، وتذهب إليها، وتبيت عندها، وغدًا في الثامنة صباحًا تكون عندنا. قلت له: أفعل إن شاء الله.

خرجت من تفتيش المباحث، لا متجهًا إلى بيت خالتي، ولكن إلى سنترال الهاتف «التليفون» لأكلم جماعتنا في القرية، فلا بد أنهم في غاية القلق، إذ ذهبت إلى دوار العمدة لخمس دقائق، كما قالوا، ولم أعد، ولا يعرفون ماذا حدث، وليس في منزل خالتي تليفون حتى أتكلم منه، فليس أمامي إلا السنترال، لأكلم منه أقرب تليفون إلى جماعتنا في القرية.

وقد عرفت منهم أنهم ذهبوا إلى المحلة بحثًا عني، وأنهم لم يجدوني هناك، وقال لهم بعض الناس: إنهم أخذوني إلى طنطا. كان تليفوني هذا مهمًا، ولا سيما لزوجتي التي أصابها من الاضطراب والقلق ما أصابها، وهي بعيدة عن منزلها ومستقرها.

طمأنتهم أني بخير، وأني سأبيت عند خالتي لأذهب إلى القاهرة في الصباح؛ لأجيب عن سؤالهم، ثم أعود في المساء إن شاء الله، وبعد ذلك ذهبت إلى خالتي لأبيت عندها كما اتفقت مع رئيس المباحث.

ولم أكد أدخل بيت خالتي، حتى وجدت الجو مكهربًا، والأعصاب متوترة، وقد بادروني بالسؤال: ماذا حدث؟ إن القوم جاءوا يسألون عنك. وعجبت مما جرى، هل غيّر القوم رأيهم بهذه السرعة؟! وقالت خالتي: يمكنك أن تخرج من هنا الآن؛ لتذهب إلى بيت واحدة من ابنتي خالتك، حتى الصباح.

قلت لها: لا داعي، سأبقى هنا حتى يأتوا ليطلبوني، ولتجر المقادير في أعنتها، ويقضي الله ما يشاء. وما هي إلا دقائق، حتى حضر رجال المباحث، ولم يهنئوني بتناول العشاء، وذهبت معهم إلى تفتيش المباحث، واعتذروا لي بأن الرئاسة في مصر، بعد أن وافقوا على أن تذهب إليهم غدًا، رجعوا فطلبوا إرسالك إليهم على وجه السرعة. والآن نحن ننتظر زميلك العسال؛ لنرحلكما معًا إلى القاهرة.

وقد أبقوني في حجرة المكتب، وظللت أكثر من ثلاث ساعات، وأنا أتابع بحثهم عن العسال، وكيف لم يجدوه عند أصهاره في طنطا، وبعد مزيد من البحث لم يعثروا له على أثر، فطلبوا من مركز بسيون الاتصال بقريته في الفرستق، وتكلف شيخ الخفراء بالذهاب إلى بيت والده، فإن كان موجودًا أتوا به إلى طنطا فورًا، وأمسكت قلبي بيدي: ماذا سيكون وقع هذا الطلب على والدة العسال، وهم يطلبونه في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل؟ وما هي إلا دقائق حتى أبلغ مركز بسيون طنطا: أن العسال ليس في قريته، وأنه غادرها من عدة أيام.

الترحيل إلى القاهرة:

كان مكتب المباحث بطنطا مشغولًا بالبحث عن العسال، ومكتب القاهرة يستعجل وصولنا أنا والعسال، فلما لم يجدوا العسال؛ قرروا أن يرسلوني وحدي، وفي الغد يرسلون صاحبي.

وكلّف أحد الضباط أن يرافقني في سيارة الشرطة «البوكس» ليوصلني إلى المكان المقصود: ومعه عدد من الشرطة الحراس بأسلحتهم، وقد ركبت مع الشرطة في الخلف، حتى خرجنا من المدينة، فأمر الضابط السائق بالوقوف، ثم جاء إليَّ فناداني باسمي، وطلب إليَّ أن أركب إلى جواره بالأمام، وتأسف لي أن اضطرته الظروف أن يقودني في هذه الرحلة، قلت له: لا داعي للأسف، فأنت تؤدي واجبك.

قال: لقد كنت طالبًا بمدرسة المنصورة الثانوية حين كنت تخطب بمسجد آل طه بالمحلة بالكبرى، وكنت وعدد من زملائي الطلبة نأتي إلى المحلة، في أيام الجمع، قاصدين لسماع خطبتك، والصلاة خلفك، فلك علينا حق الأستاذية، وعلينا لك واجب التلاميذ، وقد تعلمنا منك الكثير، قلت: الحمد لله، الكلمة الطيبة لا يضيع أثرها لا عند الله، ولا عند الناس.

ووصلنا إلى القاهرة، وسلمني إلى مكان معين، ومن هذا المكان نقلني إلى موضع آخر، ومنه إلى مكان هو السجن الحربي، ولنا به نسب وصلة قديمة، وقد وصلت إليه مع تباشير الفجر، ووُضعت في زنزانة من زنازين الحربي التي جربناها طويلًا من قبل، وفي الصباح ألقوا إليَّ بقطعة خبز جافة صلبة كأنها الحجر، ولا أذكر هل كان معها إدام أو لا؟ ولم يكن عندي رغبة في تناول أي طعام.

ثم ما لبث أن جاء حلاق السجن، وعرض عليَّ أن يحلق لحيتي، فأبيت، وظل الرجل يلح عليَّ أن يحلقها لي حتى لا تسبب لي الأذى، كما سببت لآخرين، كُلِّفوا أن ينتفوها بأيديهم، وما زال هذا الحلاق يغريني ويحذرني؛ حتى سلمت له لحيتي فحلقها، وكنت قد عدت لإطلاقها عند سفري إلى قطر، بعد أن اضطررت إلى حلقها قديمًا (نوفمبر 1954م) قبيل اعتقالي.

إلى مبنى المخابرات المصرية:

وما هي إلا ساعات، حتى نودي عليَّ للرحيل إلى مكان آخر، وركبت سيارة عسكرية وجدت فيها أخي أحمد العسال، بعد أن جاءوا به، دون أن يستطيع أحدنا أن يكلم الآخر، وأُخذنا إلى مكان جديد، لا عهد لنا به من قبل، فليس هو سجن مصر، ولا سجن القناطر، ولا سجن القلعة، ولا طرة، ولا غيرها، ولكنه مبنى في شكل عمارة كبيرة، فيها حجرات كثيرة، وقد وُضعت في حجرة منفردة، ووُضع أخي العسال في حجرة أخرى بجوارها، وقد عرفت في آخر المدة أنه مبنى المخابرات في منطقة سراي القبة.

وفي المساء نودي عليَّ للتحقيق معي، وأنا لا أدري في أي شيء سيحققون معي، وعن أي شيء سيسألونني؟ ويبدو أن الذين يسألونني من الضباط الذي يلبسون ملابس مدنية، أظنهم كانوا ثلاثة أو أربعة.

وقد بدأوا سؤالي: هل تعرف أحدًا في الدُّقي؟ قلت: نعم أعرف جماعة سعودي: الحاج سعودي وإخوانه.

قالوا: ألا تعرف أحدًا آخر؟

قلت: لا أذكر الآن.

قالوا: ألا تعرف عبد العزيز كامل؟

قلت: بلى، أعرفه جيدًا.

قالوا: فلماذا تنكر، وقد زرته أكثر من مرة.

قلت: لم أنكر، ولو سألتموني مباشرة لأجبت بالإيجاب. وهل في معرفة عبد العزيز كامل أو زيارته تهمة؟ على أن عبد العزيز كامل عاش دهرًا وهو من سكان إمبابة، وهو حديث عهد بسكنى الدقي، ولذا لم يخطر ببالي لأول وهلة.

قالوا: هل تعرف أحدًا من ضباط الجيش؟

قلت: لا أذكر أحدًا غير معروف الحضري، وقد كان معنا في السجن الحربي.

قال: عادتكم تنكرون كل شيء، وليس هناك طريقة تنطقكم غير طريقة حمزة البسيوني والسجن الحربي.

قلت: وماذا أنكرت أنا حتى تقول هذا الكلام؟

قال: ألا تعرف الضابط محمود يونس؟

قلت: بلى، أعرفه.

قالوا: فلماذا ادعيت أنك لا تعرف أحدًا؟

قلت: لو سألتني عن معرفة محمود يونس ما أنكرت، ولكن هذه معرفة قديمة، ولم أره منذ سنين، وصلته بالأخ العسال أقدم وأوثق.

قالوا: وهل تعرف صلة محمود يونس بعبد العزيز كامل؟

قلت: أظنه كان يريد أن يتزوج ابنة أخته أو نحو ذلك، فهذا هو سر صلته به فيما أعلم.

قالوا: أهذا كل صلته بعبد العزيز كامل؟

قلت: هذا كل ما أعلمه عن صلته به، وأي صلة يمكن أن تكون بين يونس وكامل؟

قال أحدهم: هكذا أنتم أيها الإخوان، تتخذون دائمًا سبيل الجحود والإنكار، ما لم تُستخدم معكم أدوات تجبركم على الكلام.

قلت له: والله، ما عندي شيء أخفيه.

وسألوني بعض الأسئلة عن قطر، وعن عملي في قطر... ثم أمروني بالانصراف، وأنا لا أدري شيئًا عن هذه الأسئلة التي وجهت إليَّ، ولماذا سُئلت عن عبد العزيز كامل ومحمود يونس دون العالمين؟

وهل انتهى التحقيق معي أو لا زالت له بقية؟ كل هذه الأسئلة بقيت معلقة لم أجد لها جوابًا.

النوم على الكرسي وفوق المكتب بالبذلة:

وعادوا بي إلى الحجرة التي خُصصت لي، ويظهر أنها حجرة لبعض الموظفين، فيها كرسي ومكتب كبير، فكنت أنام على الكرسي أحيانًا، وأحيانًا أخرى أنام فوق المكتب، أفرد عليه ظهري، وإن كان طوله لا يتسع لي، أجتهد أن أنكمش وأضم بعضي إلى بعض.

لا أذكر كم ليلة بتها بهذه الطريقة المزعجة، ولكن أعتقد أنها لم تطل، فقد منّوا عليَّ بفراش وغطاء ومخدة على الأرض، فكان هذا نعيمًا ورفاهية بالنسبة لما كنت عليه أولًا، أما طعامهم، فالحق أنه كان جيدًا، فكثيرًا ما كانوا يطعموننا الكباب والكفتة والسمك وغير ذلك، مما لم يكن يخطر ببالنا أيام السجن الحربي، ولكن مشكلتي أني بلا ملابس، فقد خرجت من بيت خالي على أني ذاهب لدوار العمدة لدقائق ثم أعود، ثم انتهى الأمر إلى ما انتهى إليه.

ومن المؤسف أن أبقى على هذه الحال ما يقرب من أسبوعين، أنام وأستيقظ في ملابسي نفسها، ولولا أني بفضل الله قليل العرق بالفطرة، لكانت حالتي يرثى لها، والغريب أني لا أجد مسئولًا أشكو إليه حالي، غير الحراس الذين يقفون على أبواب حجرتي، وهم لا يحلون ولا يربطون.

ثم جاء الفرج، فإذا بطرد من الملابس يصل إليَّ بعد لأي، فقد ظل يتنقل من جهة إلى جهة، حتى انتهى إليَّ، وصحب هذا أمر آخر، فقد نُقلت إلى حجرة غير الحجرة، ودور غير الدور، وفي الحجرة الجديدة سرير سفري أنام عليه؛ فكان ذلك مزيدًا من الرفاهية والتدليل.

ومع هذا بقي وضعي ووضع زميلي معلقًا، لا أدري ما تهمتي؟ وهل أغلق ملف التحقيق معي أو لا يزال مفتوحًا؟ وإن كان أُغلق، فلماذا لم يُفرج عني؟ وفي أي مكان أنا؟ وما هذه الصرخات والآهات التي أسمعها أحيانًا إذا جن الليل؟ كل هذه الأسئلة ونحوها لا أجد من يجيبني عنها.

لماذا كان هذا الاعتقال شديدًا عليَّ؟

الحق أن هذه الفترة التي اعتقلت فيها، وإن لم تطل كثيرًا، فقد استمرت نحو سبعة أسابيع أو خمسين يومًا، كانت من أشد الفترات قسوة على نفسي، رغم أني لم أُمس فيها بإيذاء بدني، ولا بأي آلة من آلات التعذيب، لكنها مرت بطيئة ثقيلة، فيومها بشهر، وليلها بدهر، وكان هذا الاعتقال الذي آكل فيها الكباب شديد الوطأة عليَّ، على خلاف اعتقالاتي السابقة في عهد الملكية (1949م)، وعهد الثورة أوائل 1954م، وأواخرها، وهو الاعتقال الذي استمر نحو عشرين شهرًا في السجن الحربي.

فما سر هذه الشدة والقسوة؟

أعتقد أن سر ذلك يرجع إلى جملة أسباب أساسية:

أولًا: إني أخذت في هذا الاعتقال غدرًا، بلا تقدمة، ولا سبب أعرفه، وقديمًا قالوا: إذا عُرف السبب بطل العجب، وأنا لم أعرف سببًا قريبًا ولا بعيدًا لاعتقالي، إنما أُخذت من الدار إلى النار، كما يقولون، وبهدومي التي عليَّ.

ثانيًا: كان الاعتقال في المرات الماضية ضمن مجموعات كبيرة من الإخوان، فالإنسان يعزي نفسه بالتأسي بهم، وقد قيل: البلايا إذا عمت طابت. والشر خير إذا ما كان مشتركًا، وقد قال تعالى للكفار يوم القيامة: {وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} (الزخرف:39)، أي أنهم في الدار الآخرة لن ينفعهم ما ينفع الناس في الدنيا من تخفيف العذاب عنهم إذا اشتركوا فيه، فهذا الاعتقال لم يكن بهذه الصورة الجماعية، بل هو اعتقال خاص.

ثالثًا: إن اعتقالي هذه المرة، وأنا زوج وأب، غير اعتقالي فيما مضى، وأنا خالٍ من المسئولية، فقد كنت دائم التفكير في زوجتي وبناتي الصغيرات، اللاتي تركتهن في القرية، واختُطفت من بينهن فجأة، ولا أدري ما وقْع هذا الأمر عليهن؟ وماذا فعلت زوجتي؟ هل عادت إلى القاهرة أو لا؟ وهل علِم أهلها بما حصل أو لا؟ وكيف واجهت الموقف وحدها؟ لا بد أنها مهمومة بأمري، وبخاصة أني فارقتها بالملابس التي على جسدي، إلى غير ذلك من التساؤلات الكثيرة التي كانت تشغل بالي وتؤرقني في هذا الاعتقال دون الاعتقالات الماضية.

رابعًا: إن أقسى ما في هذا الاعتقال هو: الحبس الانفرادي، فقد كان السجن الحربي -على مرارته وقسوته- نعيش فيه مجموعات في داخل الزنازين: سبعة أو ثمانية. وكان في هذه الزحمة رحمة، وفي هذا التكدس إيناس لنا، وتهوين لما نحن فيه من بلاء، حيث يأنس كل منا بأخيه، ويتأسّى به، ويأخذ القوي بيد الضعيف، ويتعلم كل منا من إخوانه، فيصبر الجزوع، ويتشجع الجبان، ويرضى الساخط.

لقد قال علماء الاجتماع المحدثون: إن الإنسان حيوان اجتماعي، وقال الأقدمون: الإنسان مدني بطبعه، أي لا يستطيع أن يعيش وحده، بل يحيا مع غيره في جماعة؛ لهذا كان السجن الانفرادي عقوبة في غاية القسوة، ولا سيما إذا طال؛ ومن هنا خلق الله آدم وأسكنه الجنة، ولكنه لم يدعه وحده، بل خلق له من نفسه زوجًا ليسكن إليها، وقال له: {اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (البقرة:35)، إذ لا معنى لجنة يعيش الإنسان فيها منفردًا بلا أنيس ولا جليس.

التصبُّر والرضا:

ومع قسوة هذه الفترة كان لا بد للإنسان أن يرضي نفسه بالواقع، وأن يتصبر ويروض نفسه على الصبر ليصبِّره الله، كما وعد بذلك الحديث الصحيح: "ومن يتصبر يُصبِّره الله". إن السخط على الواقع لا يجلب على صاحبه إلا الشعور بالمرارة والكآبة واليأس، وهذه آفات خطيرة تكدر على المرء عيشه، وتضيّق عليه الأرض بما رحبت، والمؤمن يرضى بما كتبه الله له، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وقد ورد: إن الله عز وجل بقسطه جعل الفرح والرّوح «راحة النفس» في الرضا واليقين، وجعل الغم والحزن في السخط والشك.

ولا غرو أن أسلمت زمامي لله، وفوضت أمري إلى الله، وتركت أمر أهلي وعيالي إلى رب كريم لا ينسى أحدًا من خلقه، وقد عودني سبحانه أن يجعل لي من كل عسر يسرًا، ومن كل ضيق فرجًا، ومن كل محنة منحة. وقد قال تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } (البقرة: 216).

وقد قال عمر رضي الله عنه: ما أُصبت ببلاء إلا وجدت لله عليَّ فيه أربع نعم: أنه لم يكن في ديني، وأنه لم يكن أكبر منه، وأني لم أُحرم الرضا به، وأني أرجو ثواب الله عليه! وبهذا يفلسف المؤمن المصيبة تنزل به، فيحولها إلى نعمة تستحق الشكر لله، إذا نظر إليها من زوايا غير تلك التي ينظر منها عوام الناس. كنت أقضي وقتي في تلاوة القرآن وذكر الله تعالى، أرطب بهما لساني، وأنوّر بهما قلبي، وأرضي بهما ربي.

لم يكن معي مصحف، كما كان مع أخي العسال، فقد أحضر معه حقيبته، وفيها ملابسه ومصحفه، ولكني كنت أحفظ القرآن جيدًا بحمد الله وفضله، فلم أجد لي مؤنسًا في هذه الخلوة أفضل من كتاب الله؛ فهو الذي يقويني إذا ضعفت، وينبهني إذا غفلت، ويذكرني إذا نسيت، ويملؤني ثقة وأملًا بالغد، ويطرد عني كل شعور بالقنوط والإحباط، {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف:87).

إني أقرأ في هذا القرآن كيف نجى الله إبراهيم من النار، وجعلها عليه بردًا وسلامًا، وكيف أخرج يوسف من الجب، وأخرجه من السجن، وولاه على خزائن الأرض، ومكن له في مصر يتبوأ منها حيث يشاء. عرفت في القرآن كيف رد الله يوسف على يعقوب، وكيف كشف الضر عن أيوب، وكيف نجّى ذا النون «يونس» من بطن الحوت، حين نادى في الظلمات: أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.

ورق وقلم:

ثم إني طلبت من سجانيّ حين رأيتهم يحسنون معاملتي: أن يوفروا لي بعض الورق الأبيض، مع قلم لأكتب، وكان القوم كرامًا فلم يضنوا عليَّ بما طلبت، وجاءوني بورق مسطور، وقلم رصاص، وشكرتهم على حسن استجابتهم، ورجوتهم أن يبروا لي القلم كلما احتجت إلى ذلك، وأن يمدوني بالورق كلما نفد من عندي؛ وهكذا طفقت أستفيد من وقتي بالكتابة، منتفعًا بهذه الخلوة الإجبارية؛ فكتبت شعرًا، وكتبت نثرًا.

كتبت ثلاث قصائد: أولاها: في رثاء أخي محمد الدمرداش الذي ودعته قبل اعتقالي بيومين، والثانية: قصيدة غزلية في «بنت قنا»، وبنت قنا هي «القلة القناوية» البيضاء الشهيرة ذات العنق الطويل، والغريب أن هاتين القصيدتين اختفتا عني بعد خروجي من الاعتقال، ولم أعثر عليهما إلا مصادفة بعد ثمانية وثلاثين عامًا، وقد نُشرتا في آخر طبعة من ديواني «نفحات ولفحات»، والقصيدة الثالثة: عنوانها «ثورة لاجئ» وقد نشرتْها أكثر من مجلة، وألقيتُها في ندوة شعرية في قطر.

كما كتبت مقدمة لبحثي عن الزكاة، الذي أعده لرسالة الدكتوراه، وكان عن مشكلة الفقر، وكيف عالجها الإسلام؟ ثم رأيت بعد ذلك أن أطوره وأوسعه وأفصله عن بحث الزكاة، وأصدره في كتاب مستقل.

قلق على العسال:

كان العسال يسكن الحجرة المجاورة لي، أُحس به ويُحس بي، ولكن لا يرى أحدنا الآخر، حتى إني عندما كنت أذهب لدورة المياه أمرّ على حجرته، وهنا لا بد أن يغلقوها حتى لا أرى مجرد جسمه، وفي مدة معينة أحسست أن أحمد غير موجود، حتى إنهم يسمحون بالمرور على حجرته وبابها غير مغلق تمامًا «موارب»؛ وهنا أخذ مني القلق كل مأخذ على رفيقي وصديقي. ترى هل أعادوا التحقيق معه، ونقلوه إلى مكان آخر؟ أم ماذا جرى؟

وكان الحراس الذين يتولون حراستنا: شبانًا يبدو أنهم على شيء من التعليم، فهم يحملون الثانوية أو ما يعادلها، كما نسمعهم من وراء الباب يحدث بعضهم بعضًا، وفي يوم من الأيام سمعت أحدهم يقول لصاحبه: أنت يا فلان يا بتاع شنشور، قال له: وما لها شنشور؟ بلد العلماء الفضلاء.

وعرفت هذا الشنشوري بصوته، وفي مرة فتح عليَّ الباب يناولني الغداء، فانتهزتها فرصة، وقلت له: أنت من شنشور؟ قال: نعم، هل تعرفها؟

قلت له: أعرفها وزرتها أكثر من مرة، ولي فيها أصدقاء.

قال: من تعرف من رجالها؟

قلت: أعرف الشيخ مناع القطان، والشيخ عبد الرزاق عفيفي.

قال: تعرف الشيخ عبد الرزاق؟ قلت: نعم، وهو الآن في السعودية، وله مكانة كبيرة بين أهلها وعلمائها.

قال: الشيخ عبد الرزاق هو عمي.

كان الشاب يكلمني همسًا، وهو يتلفت يمينًا وشمالًا، حتى لا يراه ولا يسمعه أحد، وهو يكلم أحد المعتقلين.

قلت له: أريد أن أسألك: في أي مكان نحن؟

قال: هذا مبنى المخابرات. ربنا يسترنا وينجينا منه.

قلت: وما وضعنا الآن؟ وهل بقي علينا تحقيق؟

قال: إن نقلكم إلى هذا الدور معناه التمهيد للإفراج عنكم. فلا ينقل هنا إلا من لم يثبت عليه شيء.

قلت: ولكني ألاحظ أن جاري لم يعد في حجرته، فأين ذهب؟ هل أعادوا التحقيق معه؟

قال: لا، لقد أصيب بمغص شديد، فنقلوه إلى المستشفى، وأظنهم أجروا له عملية الزائدة. وأعتقد أنه بمجرد عودته سيفرج عنكم.

قلت: جزاك الله خيرًا، لقد أزحت عن نفسي غمة، وشرحت لي ما لم أكن أفهمه.

قال لي: أين تسكن؟ قلت له: في حدائق شبرا في شارع كذا.

قال: لولا أننا نعلم أننا مراقبون، لذهبت إلى بيتك، وطمأنت أهلك وأولادك، ولكن لو ثبت على أحد منا شيء من ذلك فيا ويله ثم يا ويله، ويا سواد ليله. ربنا يخرجنا من هذا المكان على خير.

تنفست الصعداء حين علمت أن أخي العسال لم ينقل إلى مكان آخر للسؤال والتحقيق، ودعوت الله له بالشفاء العاجل، وما هي إلا أيام قليلة حتى عاد بسلامة الله، ثم نودي علينا -أنا والعسال-  لنقابل الضابط المسئول، ولا أعرف اسمه ولا رتبته، ولكنه قال لنا: سيُفرج عنكما الآن، ولا نريد أن يعرف أحد أين كنتما، ولا ماذا قلتما وماذا قيل لكما، واعتبرا هذه الفترة إجازة إجبارية خاصة أخذتموها.

إفراج:

ولم نقل شيئًا، وخرجنا من المكان الذي عرفنا من قريب أنه مبنى المخابرات، وكان بعيدًا عن العمران وسط المزارع، بمنطقة قصر القبة أو سراي القبة، وإن كان اليوم قد أحاط به العمران من كل جانب، وتعانقت أنا والعسال عناقًا حارًّا، بعد أن غادرنا باب المخابرات، وودّع كلانا أخاه؛ لأنه سيأخذ مواصلة غير مواصلتي.

ولم أجد في جيبي غير خمسة قروش، ولا أدري أكان معي نقود أكثر، وضاعت في «الأمانات» التي لا تؤدى إلى أهلها في السجن الحربي، كما ضاع قلم «باركر» كان معي، أم ربما لم يكن معي نقود ساعة أخذوني؟ على أية حال، حمدت الله على القروش الخمسة، فهي تكفيني أجرة للأوتوبيس الذي يوصلني إلى العباسية، ثم أركب ترام (21) من العباسية إلى شبرا.

ومن حسن حظي: أني حين ركبت «الأوتوبيس» وجدت أحد إخواني وتلاميذي بالمحلة الكبرى، وهو الأخ عصمت عبد الرحمن، وقد فوجئ بي، وهو يعلم أني كنت معتقلًا، فسألته: أمعك شيء من النقود؟ فقال: معي نصف جنيه، فقلت: أعطني إياه. وهنا فكرت أن آخذ سيارة أجرة «تاكسي» من العباسية، بدل الترام الذي يأخذ مدة طويلة حتى يوصلني، وأنا شديد الشوق إلى أهلي وبناتي، بعد هذه المدة، وتمنيت لو كان لي جناحان لطرت طيرًا إلى منزلي.

إلى منزلنا بشبرا:

وأسرعت إلى المنزل، ودققت جرس الباب، ولي دقة خاصة تعرفها زوجي، وهو أني أدق الجرس مرتين متتاليتين، فقالت زوجتي: سبحان الله، هذه دقة زوجي، وبادرت بفتح الباب، لتجدني أمامها؛ فكان عناق وبكاء، ودموع وشموع. إنها دموع الفرح باللقاء بعد الفراق، وما أحلى اللقاء بعد الفراق، وخصوصًا فراقًا من هذا اللون الذي كان، لا رده الله.

وكان أول ما لفت نظري وسرني؛ أني وجدت شقيق زوجتي الأوسط «أحمد» يعيش معها. وحدثتني زوجتي طويلًا عن تلك الأيام العصيبة الكئيبة، التي قضتها حين اختُطفت من بينهم في صفط.

قالت: عندما نادوك، قالوا لي: إنه ذاهب للسلام على العمدة، فلما تأخرت بدأت أقلق، ولا سيما أنّا كنا مدعوين إلى العشاء عند خالتي الكبرى «نور»، فأخبروني بتأجيل الدعوة إلى الغد، وبدأت أجد الحزن والغم على وجوه خالك وخالاتك، وهم لا يستطيعون أن يتكلموا حتى لا أعرف بما جرى، وفجأة مرت إحدى نساء الحارة وقالت بصوت مرتفع: صحيح يا جماعة، أخذوا الشيخ يوسف!

وهنا هبوا في وجهها وزجروها، فعرفت حقيقة الموقف، وأُسقط في يدي، وبقيت يومين على أحر من الجمر، ننتظر عودتك، كما أفهمونا في أول الأمر، ثم صممت أن أعود إلى بيتنا في مستقرنا في القاهرة، فعدت، ومعي خالك، الذي أصر أن يرافقني ولا يتركني، وخصوصًا في الأيام الأولى.

قلق زوجتي عليّ:

قالت زوجتي: وكان الذي يقلقني ويؤرقني أمران، أحدهما: أني لا أعلم عنك شيئًا، ولا نعرف أين أنت، حتى نرسل إليك بعض الملابس واللوازم، ولم أستطع لا أنا ولا خالك ولا أصدقاؤك أن نهتدي إلى مكانك، ولا أن نجد من يلتزم بأخذ الملابس وإرسالها إليك، وكنت أقول في نفسي: كيف تعيش وليس معك غيار ولا أي شيء؟

وقد ذهبت أنا وخالك إلى الشيخ الغزالي في وزارة الأوقاف، وإلى الشيخ عبد الله المشد في الأزهر، وإلى غيرهما ممن يعرفونك، ليساعدونا في الوصول إليك، فحاولوا واجتهدوا، ولكنهم عجزوا أن يفعلوا شيئًا، أبدوا لنا أسفهم واعتذارهم، وذرفت الدموع من عيني الشيخ الغزالي، وهو يعتذر إلينا عن عجزه أن يفعل لنا شيئًا، وقال لي: الله معكِ يا بنتي! وثقي أنه إن شاء الله سيعود إليك بخير.

وأخيرًا، استطاع بعض الأقارب أن يجد جهة تتسلم منا الملابس، وتتعهد بإرسالها إليك، فسلمناها لهم، ونحن لا ندري أبلغت محلها أم لا؟ فليس لنا إلى معرفة ذلك من سبيل، وقلت في نفسي: إن الله جل شأنه لن يتخلى عنك ولن يضيعك، ومن كان مع الله كان الله معه.

والأمر الثاني: إني لم أكن أريد لوالدتي أن تعرف بما جرى، ولا سيما بعد مرض أبي بالشلل النصفي، وانشغال أمي به، فإذا بلغها ما حدث؛ ازدادت همًّا على هم، وكربًا على كرب؛ فكنت حريصة على كتمان الخبر ما استطعت، حتى لا يتسرب إليها.

وكان شقيقي سامي يزورني ما بين الحين والحين، وسرعان ما جاء لزيارتي، وعرف بما كان، واتفق معي على أن يبلغ والدته أن حكومة قطر، انتدبت الأستاذ يوسف في مهمة، وأني في حاجة إلى أخي أحمد يقيم معي حتى عودته، وانطلت عليها الحيلة، وصدقت المقولة، وأرسلت أحمد للعيش معي، وتعلم أن جيراننا فضوليون، وكثيرًا ما سألوني: أين الأستاذ يوسف؟ لماذا لم يظهر منذ أول الإجازة؟ وأقول لهم: هو موجود، ولكنه مشغول في بعض مهام مكلف بها من قطر.

وقد جاء صديقك الشيخ محمد سيد طنطاوي (شيخ الأزهر الآن) يسأل عنك، وفتح جيراننا الباب ليروا ويسمعوا ماذا أقول له، فاضطررت أن أدخله، وأقول له الحقيقة في الداخل، حتى لا يعرف الجيران شيئًا، وقد كان الرجل كريمًا، وقال لي: أي مساعدة أو خدمة تطلبينها، فأنا وزوجتي تحت أمرك، وشكرت له موقفه، جزاه الله خيرًا.

متهم في انقلاب لا أعرف عنه شيئًا:

ولقد سألتني زوجتي، وسألني صهري، وسألني خالي، وسألني بعض المقربين من إخواني عن التهمة التي أُخذت فيها، وغيبت عنهم من أجلها: ما هي؟ قلت لهم: علمي والله علمكم، وأنا في الحقيقة لم توجه لي تهمة، ولا أعلم لماذا أخذوني وحجزوني عندهم هذه المدة؟

وكل ما سألوني عنه شخصان، لا أعلم عنهما شرًّا، ولا أعرف لهما جرمًا، وهما: الأستاذ عبد العزيز كامل، والضابط محمود يونس، ولا أدري سر السؤال عنهما، ولا الربط بينهما.

وما هي إلا أيام حتى عرفت من الناس التهمة التي أُخذت بها، وهي شبهة المشاركة في انقلاب ديني الطابع، دبّره بعض الضباط في الجيش، مع فئة من القيادات الدينية الصوفية، وعلى رأسهم: الدكتور حسن عباس زكي وزير الاقتصاد السابق، والأستاذ عمر مرعي شقيق السيد مرعي رئيس مجلس الشعب، ومعهما الأستاذ عبد العزيز كامل، وقد قال الأستاذ عبد العزيز الشوربجي المحامي المعروف إن هذا الانقلاب لا وجود له إلا على ورقات تحمل مجرد أفكار وتخيلات لدى بعض الضباط! ولم يثبت التحقيق على أي من هؤلاء ما أُخذوا به، وقد أُفرج عنهم جميعًا بعد ذلك دون أن يُدانوا بشيء.

أما تهمتي أنا والعسال -كما تخيلوها- فهي أننا ممولون من الخليج للانقلاب المزعوم، وذلك لما لنا من صلة بالأستاذ عبد العزيز كامل والضابط محمود يونس!! وكيف نكون ممولين، ونحن لا زلنا حديثي عهد بالخليج، فلم يمض أكثر من تسعة أشهر لي في قطر، والعسال كان قبلي بسنة دراسية، فماذا عسى أن يكون لنا من مال نسهم به في تمويل انقلاب؟! إنها الأوهام والخيالات التي يركض وراءها أحيانًا رجال الاستخبارات، يحسبون السراب ماء، حتى إذا جاءوه لم يجدوه شيئًا.

اللقاء بصلاح نصر:

جاء موعد سفرنا إلى قطر في منتصف سبتمبر، ولم يؤذن لنا بالسفر، وبدأ العام الدراسي، ولم نتمكن من مغادرة مصر، وعدنا -أنا والعسال- لمباشرة عملنا في المكتب الفني لإدارة الوعظ والإرشاد بالرواق العباسي بالأزهر، ولم تكفّ وزارة المعارف في قطر عن إرسال البرقيات إلى الأزهر وإلى الوزير المسئول عن الأزهر السيد حسين الشافعي عضو مجلس الثورة، للسماح لنا بالسفر لمباشرة عملنا هناك.

ويبدو لي أن هذه البرقيات وصلت إلى إدارة المخابرات التي كان على رأسها: رجل الاستخبارات الشهير صلاح نصر، وفوجئنا يومًا باستدعائنا -العسال وأنا- لمقابلة صلاح نصر في مكتبه في إدارة المخابرات في المبنى الذي كنا ضيوفًا عليه سبعة أسابيع.

وفي الوقت المحدد استقبلونا بالباب، وحملونا إلى مكتب الرجل الذي إذا ذُكر اسمه ارتعدت الفرائص، واصطكت الأسنان، وزلزل الرعب القلوب! دخلنا على صلاح نصر، فإذا هو رجل ناعم الملمس، حسن اللقاء، أحسن استقبالنا، ورحب بنا، وأظهر أسفه واعتذاره لما وقع لنا، وأنه كان خطأ لا مبرر له، لم يعلم به إلا بعد رجوعه من سفر طويل.

وقال: إني سمعت كثيرًا عن إخلاصكما ونشاطكما وسمعتكما الطيبة في سائر الأوساط في الداخل والخارج، وإننا نعتبركم سفراء لبلدكم، ونريد أن نبدأ صفحة جديدة في التعاون من أجل مصر، وخير مصر، وتقدم مصر.

وقال: إن همزة الوصل بيننا هو واحد منكم تعرفونه ويعرفكم، هو الأستاذ محمد نجيب جويفل، وسيرتب معكم طريق الاتصال بكم، وسأصدر الأوامر برفع الحظر عن سفركم، ويمكنكم أن تستعدوا للعودة إلى قطر متى شئتم.

كان صلاح نصر يتكلم، ونحن نسمع، وهو يتكلم بثقة واطمئنان إلى ما يقول، كأنما يصدر أمره إلى جنود في كتيبة يقودها، فما عليه إلا أن يأمر، وما عليهم إلا أن يقولوا: سمعنا وأطعنا! ولهذا لم يتصور أن يكون لنا رأي يخالف رأيه، أو إرادة تناقض إرادته، ومن نحن حتى نقول: لِمَ؟ ناهيك أن نقول: لا!!

ولم نملك إلا أن نشكره على حسن استقباله لنا، وعلى إزالة العقبات من طريق سفرنا، راجين أن نتعاون جميعًا على البر والتقوى، وأن يوفقنا الله تعالى لخدمة ديننا ووطننا وأمتنا. شكرنا صلاح نصر، رغم أسفه واعتذاره لنا، واعترافه بأن اعتقالنا كان خطأ غير مبرر.

وأعتقد أنهم اكتشفوا هذا الخطأ منذ حققوا معنا أول ليلة كنا فيها عندهم، وأننا ليس لنا في الثور ولا في الطحين؛ بدليل أنهم لم يستدعونا للسؤال مرة أخرى، ولكن الذي أمر باعتقالنا نسينا، أو أهمل أمرنا، حتى مضى علينا نحو خمسين يومًا، بعيدين عن أسرنا وأهلينا.

شكرنا صلاح نصر، وهل كان يسعنا إلا أن نشكره، وإن أخطأت إدارته في اعتقالنا باعترافه! ولو كنا في بلد ديمقراطي لوجب أن يحاكم من أخطأ في اعتقالنا، بلا سبب ولا مبرر، وإذا كان أخطأ في الاعتقال، فلماذا لم يعالجه بسرعة الإفراج عنا؟ ولكن إهدار حقوق الإنسان، وحرية الإنسان، وقيمة الإنسان؛ جعلت أمثال هؤلاء لا يبالون بسجن من سجنوا، واعتقال من اعتقلوا، وإن استوثقوا أنهم برآء من كل ما يُنسب إليهم براء الذئب من دم ابن يعقوب.

فكيف يمكن التعاون مع هؤلاء؟! وهل هو إلا تعاون على الإثم والعدوان؟! كيف يتعاون المسلم الملتزم مع الذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق؟! والإسلام يُحذِّر أشد التحذير من أمرين: من الظلم، فإنه ظلمات يوم القيامة، ونذير بالهلاك والخراب في هذه الدنيا {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} (النمل:52).

ويُحذِّر كذلك من معاونة الظالم؛ فإن معاونة الظالم مشاركة له في إثمه، وقد قيل: أعوان الظالم كلاب جهنم؛ ولهذا أشرك القرآن في الإثم - مع فرعون وهامان - جنودهما، كما قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} (القصص:8)، وقال تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} (هود: 113)؛ ولهذا حذَّر السلف من التعاون مع الظالمين أو الاقتراب منهم، والركون إليهم، حتى قال الحسن رحمه الله: مَن دعا لظالم بطول البقاء؛ فقد أحب أن يُعصى الله في أرضه.

ولهذا كان مما أزعجنا في لقاء صلاح نصر: عرضه علينا أن نتعاون معهم، ونحن لا نشاركهم في الأهداف ولا في الوسائل؛ فهم لا يتورعون عن استخدام وسائل غير أخلاقية وإن كان الهدف نفسه مشروعًا، واتفقنا على أن نتهرب من لقاء جويفل إذا اتصل بنا، ولو ترتب على ذلك ألا ننزل إلى مصر في المستقبل، ولا نتورط في أن نحطب في حبل هؤلاء.

والواقع أننا بعد رجوعنا إلى قطر، لم يتصل بنا أحد، لا نجيب جويفل، ولا غيره، وأعتقد أن الأخ نجيبًا رحمه الله كان يعرف موقفنا جيدًا، ويوقن في قرارة نفسه أن لا جدوى من الاتصال بنا؛ ولهذا لم يسع إلى ذلك، ولم يحاوله، ولم يفكر فيه، والحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيرًا من خلقه.

استدعاء المباحث بالداخلية:

وقبل سفرنا إلى الدوحة استدعاني الضابط أحمد راسخ، بالمباحث العامة بوزارة الداخلية، كما استدعى العسال، كل منا على حدة، وقد سألني عما حدث لنا في الاعتقال في المخابرات، وما التهمة الموجهة لنا؟

فقلت له: أنتم أدرى بما وقع لنا، لقد نزلنا ضيوفًا على جماعة أكرمونا وأطعمونا الكباب! ثم اعتذروا إلينا أخيرًا، أما تهمتنا، فالحق أنه لم توجه إلينا أية تهمة، وإنما وجهوا إلينا أسئلة لا تتضمن أي اتهام، ولا ندري في الحقيقة: لماذا وُجهت إلينا؟ وعلى عادة راسخ طلب ألا ننساه ولو برسالة في العيد، وعلى عادتي لم أبعث إليه في عيد، ولا غير عيد.

وسافرت أنا والعسال إلى قطر، لنمارس عملنا بها، ونشاطنا فيها من جديد، وحين ركبنا الطائرة، وغادرنا القاهرة، تذكرنا قول الشاعر قديمًا، حين ركب دابته:

عَــدَس مــا لِعَــبّـادٍ عَـلَيـكِ إِمـارَةٌ  **  نَــجَــوتِ وَهَــذا تَــحــمِـليـنَ طَـليـقُ!