كان لابد للإجازة أن تنتهي، وما أسرع ما انقضت؛ لكأن أيامها ساعات، ولكأن ساعاتها دقائق، وهذا أبدًا شأن الأوقات الطيبة، تمر مر السحاب، وتذهب كالبرق الخاطف.

وودعت الإخوة في لبنان بعد أن قضيت هذا الشهر في ربوعه، وعدت بأسرتي إلى الدوحة، بعد أن متعت عيني بجمال لبنان، وأمتعت صدري بنسيم لبنان، وأمتعت بطني بطعام لبنان، وأمتعت عقلي بمكتبات لبنان. وحملت معي بعض الكتب التي اشتريتها من لبنان، كما حملت أسرتي ما اشترته من ملابس وأمتعة من لبنان.

وما إن عدت إلى الدوحة حتى قابلتني أخبار مهمة ومقلقة؛ فقد قُبض على 10 من الإخوان الذين كانوا يعملون في قطر، والذين لهم صلة بي، وبعضهم أنزلوه من الطائرة وقد ركبها متوجهًا إلى الدوحة، مثل الأخ أحمد المنيب -رحمه الله- الذي كان يعمل معي سكرتيرًا للمعهد الديني، ومثل الأخ عبد الحميد طه، الذي كان يعمل مشرفًا على إحدى المناطق التعليمية.

وأكثرهم اختطفوه من بيته من بين أهله وذويه، مثل الأستاذ عبد الحليم أبو شقة، والأستاذ محمد المهدي البدري، والشيخ عبد اللطيف زايد، والأستاذ رشدي المصري، وقد أُخذوا إلى "السجن الحربي" الذي جربناه من قبل، وقد تطورت أدوات التعذيب فيه أكثر من قبل، نتيجة للتطور أو التقدم العام في التكنولوجيا، وأول ما يتجلى فيه التقدم عندنا هو فن التعذيب، أو علم التعذيب!

وكان الجيش هو الذي يشرف على الاعتقال والتحقيق، بإشراف وزير الحربية شمس بدران، ومَن وراءه من ضباط القوات المسلحة، التي خاضت معركة لا مبرر لها مع أبناء شعبها، بدل أن تتجه إلى العدو الذي يهدد وجودها على حدودها الشمالية.

وبالتحقيق مع الإخوة العاملين في قطر، وسؤالهم عن التنظيم الإخواني فيها؛ اجتمعت كلمتهم -دون توافق- على أنه لم يوجد تنظيم في قطر، بل كان لقاءً أسبوعيًا بعد صلاة الفجر في كل يوم جمعة في بيت من بيوت الإخوة، نقرأ فيه الأدعية المأثورة، وقد تُلقى كلمة روحية، ثم يتناول الجميع الفطور معًا، وينصرفون بعد ذلك.

وقد سُئلوا جميعًا: مَن رئيس الجلسة؟ ومَن الداعي إليها؟ فقالوا: القرضاوي والعسال، وأعادوا السؤال: أيهما الرئيس؟ فقالوا: لا رئيس.

وسألوا: هل طُلب منكم اشتراك مالي؟ فكان جواب الجميع: لا.

وصدقهم المحققون؛ إذ لا تنظيم بلا رئاسة ولا بيعة ولا اشتراك.

وأُفرج عن عدد منهم، وسُمح لهم بالرجوع إلى الدوحة في وسط المعمعة، والرحى دائرة، أذكر منهم الإخوة: عبد الحليم أبو شقة، وعبد الحميد طه، ورشدي المصري.

ولكنهم استبقوا آخرين لعدة سنوات، منهم: الشيخ عبد اللطيف زايد، والشيخ محمد المهدي البدري، والأستاذ أحمد المنيب.

ومما فوجئنا به كذلك اعتقال صهري شقيق زوجتي: الأستاذ سامي عبد الجواد، الذي أخذوه من عمله، وكان يرأس مأمورية الشهر العقاري بمدينة زفتى، وكان حديث العهد بالزواج، وقد رُزق طفله الأول منذ أسابيع، وكان وقع اعتقاله شديدًا على زوجته وعلى والدته، التي صدمها هذا الاعتقال صدمة عنيفة.

والحمد لله أني لم أكن بمصر، ولم أنزل إليها في ذلك الصيف، وعافاني الله من تلك المحنة التي كانت أقسى من محنة 1954م، والمؤمن يسأل الله العافية، ولا يتمنى البلاء، فإذا وقع استقبله بصبر المؤمنين، وإيمان الصابرين، تاليًا قول الله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النحل: 127، 128).

ولو كنت نزلت في تلك الإجازة لأُخذت كما أُخذ إخواني، وتحقق ما كان يخشاه صهري والد زوجتي، حينما خطبتها، وقال لحماتي أم سامي: أتريدين أن يؤخذ ابنك وزوج ابنتك جميعًا؟ فالحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين.

والواقع أن الأخ سامي والألوف من إخوانه أُخذوا بلا سبب؛ فلم يكن له -كما لم يكن لغيره- أي نشاط، وكان مشغولًا بعمله وبيته لا أكثر من ذلك، ولكن القرار صدر باعتقال كل من اعتُقل مرة أخرى من قبل، سواء سنة 1948 أو 1954 أو ما بينهما.

وكان هذا من صُنع الله للإخوان؛ فالكثير منهم كانوا قد هجروا العمل العام، وشغلوا بشأنهم الخاص، ولم تعد الدعوة أكبر همهم، ولا محور تفكيرهم، وملتقى آمالهم، كما كانت من قبل، كان كثير منهم يقول: نفسي نفسي، لا دعوتي دعوتي، وحسبوا أن هذا سيعفيهم من محن المستقبل، وابتلاءات الزمان، ثم اكتشفوا أن هذا لم يُغنِ عنهم شيئًا، ولم يرُدّ عنهم قليلًا ولا كثيرًا؛ فكان هذا درسًا علّمه لهم القدر.. أنهم جند الدعوة شاءوا أم أبوا، قربوا أم بعدوا، فليحملوها راضين حتى يكسبوا الأجر، بدل أن يحملوها ساخطين وعليهم الوزر.

أما محنة الإخوان في سنة 1965م التي نجانا الله منها، وعلم أن فينا ضعفًا، وما فيها من أهوال وكروب تخر لها الجبال هدًا؛ فحديثنا عنها إن شاء الله نرجئه إلى الجزء الثالث، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

 

انتهى الجزء الثاني من المذكرات