الإفراج عن الأستاذ الهضيبي بعفو صحي:

كان من الأحداث العامة التي تهمني في تلك السنة: إفراج الرئيس السادات عن المعتقلين السياسيين، وكانوا - كلهم أو جلهم - من الإخوان، وأغلق أبواب المعتقلات، وحسب ذلك في سجل حسناته ومنجزاته بلا شك.

ولكنه لم يقف هذا الموقف من المسجونين، الذين حكمت عليهم محاكم الشعب بمدد، منها ما طال، ومنها ما قصر، منها ما كان حكمه عشر سنوات، أو خمسة عشر عامًا، وقد أنهى المدة وخرج. ومنها ما كان محكومًا عليه بعشرين سنة، أو خمس وعشرين سنة «أشغال شاقة مؤبدة». وكان المفروض أن يفرج عن هؤلاء في مناسبات كثيرة؛ لأنه قضى نصف المدة أو ثلاثة أرباع المدة، كما يفرج عن المجرمين العاديين، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل ربما أنهى بعضهم مدة العقوبة، وخرج من السجن إلى المعتقل.

ولكن مما يذكر للسادات: أنه لم يمهل الأستاذ الهضيبي حتى يفرج عنه مع سائر المسجونين في قضايا الإخوان، كما أفرج عن بعض الإخوان كذلك. ففي 15 أكتوبر من سنة 1971م: صدر قرار الإفراج عن الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين، الذي أفرج عنه بعفو صحي.

واستقبل الإخوان ذلك بالفرح والاستبشار، وزاره الكثيرون مهنئين ومجددين للبيعة والعمل لتبصير الأمة، وإحياء الدعوة، وخدمة الإسلام. وكنت في ذلك الوقت في قطر، حتى لقي ربه رحمه الله.

ميلاد ابني أسامة:

وفي 10 فبراير سنة 1972م ولد ابني أسامة. كان ميلاد أولادي السابقين كلهم في أواخر السنة الميلادية (3) في سبتمبر، و(2) في أكتوبر، وواحدة في ديسمبر، أما أسامة فجاء على خلاف المألوف، وولد في الشهر الثاني من السنة. لم يكن بينه وبين شقيقه عبد الرحمن إلا سنة وخمسة أشهر، وبهذا أصبح لي ثلاثة من البنين، وأربع من البنات. ولله الحمد على ما أعطى.

والحقيقة أن معاملتي للأولاد «بنين وبنات»، وكذلك معاملة أمهم: كانت مثالية، فلم نكن ندلل الأولاد إلى حد الإفساد، ولا نشتد عليهم إلى حد القسوة. والتربية السليمة في نظري هي ما كانت بين التدليل المميّع للشخصية، والقسوة المحطمة لها. ولذا نشأ أولادي بحمد الله نشأة سوية، ليس فيها غيرة مفرطة، أو شعور بالظلم، إو إضمار حسد لأخ أو أخت، وما فضلنا ولدًا على بنت، ولا واحدًا على آخر لأي سبب.

ولقد رأينا الناس يدللون الطفل الأول أكثر مما يلزم فيفسدونه، ومثله: الذكر الأول، أو الطفل الأخير. نحمد الله تعالى أننا لم نفعل ذلك أبدًا، فطرة لا تكلفًا، لم نحاب أي طفل على حساب الآخر، بل أشعر - والله - أني أحب الجميع حبًّا متساويًا، وأعتقد أن والدتهم مثلي.

ولكن أسامة الطفل كان يدلل نفسه، ويفرض دلاله على الجميع، ويشعر بأنه أصغر واحد في العائلة، كما يحس أنه آخر العنقود، فيبدو أن الأم قد اكتفت بما آتاها الله من أولاد بلغوا سبعة: أربع بنات وثلاثة بنين. وإن كنت أنا شخصيًّا كنت أتمنى ثامنًا، أسميه: «عبد الله» على اسم أبي، فقد شعرت أخيرًا، أني لم أعط أبي حقه في إحياء اسمه! وكان الذي يشجعني على ذلك: أنّا رُزقنا بأولادنا السبعة، وزوجتي لم تتم الخامسة والثلاثين.

ولكن تربية سبعة أولاد في سنين متقاربة ليست بالأمر السهل، فكان الحق مع أم محمد في الاكتفاء، ونسأل الله أن يعيننا على حسن تربيتهم حتى ينشأوا صالحين في سيرتهم، متفوقين في دراستهم. ومن فضل الله علينا: أن أولادنا جميعًا كانوا يتمتعون بنسبة عالية من الذكاء.

وكان أسامة يريد أن يكبر بسرعة، ليكون له حظ الكبراء، ولكن إذا كان الحظ مع صغر السن قال: أنا أصغركم سنًّا! وكانت أمه تقول له: ادخل نم يا أسامة، فيقول لها: تريدين أن تستريحي مني! وهكذا كانت له مناكفاته ونوادره المحببة.

الحركة التصحيحية في قطر:

وفي 22 فبراير «شباط» 1972م حدث ما سُمي في قطر: الحركة التصحيحية، التي بها انتقل الحكم من الشيخ أحمد بن عليّ بن عبد الله آل ثاني إلى الشيخ خليفة بن حمد بن عبد الله آل ثاني، ابن عم الأمير، وولي عهده ونائبه.

كان الشيخ أحمد أمير قطر رجلًا طيبًا في نفسه، مهذبًا رقيق الحاشية، جوّادًا كريمًا، يلقى من يزوره بهشاشة وبسطة وجه، ولكنه لم يكن متفرغًا للحكم، وحمل أعبائه، وحل مشكلاته، وكان كثير الأسفار والرحلات في مناطق شتى، وكان قد ترك هم الحكم لنائبه وولي عهده.

ولقد شاء قدر الله أن تحدث في أشهر محدودة عدة أحداث، وعدة أخطاء حسبت على الشيخ أحمد؛ عجّلت بنقل الحكم إلى الشيخ خليفة بدون دماء، وبإقرار شيوخ الأسرة الحاكمة.

وكان الشيخ أحمد خارج البلاد، فظل خارج قطر، ولا سيما أنه صهر الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبي الشهير، وزوج ابنته، وله قصر هناك، وأيد جمهور الشعب القطري هذا التحول، وأطلق عليه: «الحركة التصحيحية»؛ نظرًا لأن الشيخ خليفة كان هو المفروض أن يكون هو الحاكم بعد الشيخ عليّ بن عبد الله آل ثاني، الذي تنازل لابنه الشيخ أحمد عن الحكم، فحرم الشيخ خليفة من حقه في تولي الحكم بعده؛ ولهذا عَدُّوا هذه الحركة تصحيحًا لهذا الخطأ.

كان من هذه الأحداث التي سبقت الحركة: غرق الباخرة التي كانت متجهة إلى إيران، وتقل عددًا كبيرًا من رجال الشيخ أحمد وأتباعه، وقد ابتلعتهم مياه الخليج، ولم ينج منهم إلا آحاد قليلة، وكانت هذه السفينة تقل هؤلاء الأتباع وما معهم من أدوات ومتاع لرحلة الصيد أو القنص المنشودة. فهلكت السفينة ومَن فيها قبل أن تصل إلى مقصودها، وحمَّلت جماهير قطر الشيخ أحمد أمير البلاد نتيجة ما جرى.

أضف إلى ذلك تصرفات تتسم بالخفة والطيش من الشيخ عبد العزيز بن أحمد ضد عمه الشيخ خليفة، وقيل: إنه كان يجمع أسلحة، ويهيئ رجالًا، للإعداد لانقلاب على الشيخ خليفة، وطالما شكا الشيخ خليفة من تصرفاته، حتى فاض الكيل، وطغى السيل، فكان لا بد من موقف حاسم يضع الأمور في نصابها، وقد وقفه الشيخ خليفة في إبانه المناسب.

والحق أننا لم نر ولم نسمع أي إيذاء لأولاد الشيخ أحمد أو قرابته وأوليائه، إلا ما أصاب ابنه الشيخ عبد العزيز من الخروج من الوزارة، وكان وزيرًا للصحة، وهذا طبيعي، وبخاصة ما قيل عنه: إنه كان يحضر لانقلاب يطيح بالشيخ خليفة.

وقد اعتقل بعض أتباع الشيخ أحمد فترة قليلة من الزمن، مثل: الأستاذ عبد البديع صقر، ولكنه لم يؤذ في معتقله، ولم توجه إليه أي إهانة، ثم ما لبث أن أفرج عنه.

وقد اعتقل بعض الشباب التابعين للأستاذ عبد البديع، ولم يكن لهم في العير ولا النفير، منهم: علي العسال شقيق الشيخ أحمد العسال، فكلمت قائد الشرطة في ذلك الوقت في شأنهم: الشيخ حمد بن قاسم بن حمد، فأفرج عنهم فورًا.

أرض وقرض من دولة قطر:

في يوم من شهر رمضان في هذه السنة (1392هـ، 1972م)، وبعد درس من دروس العصر، سألني الشيخ خليفة أمير قطر: هل تملك بيتًا في قطر؟ قلت له: يا طويل العمر، أنا أسكن على حساب قطر، قال: يعني بالإيجار؟ قلت: نعم، قال: ألا تحب أن يكون لك بيت تملكه؟ قلت: بلى، ومن ذا الذي لا يحب ذلك؟ قال: وما يمنعك من ذلك؟ قلت - وأنا أضحك - المصريون يقولون في مثل هذه الحالة: العين بصيرة، واليد قصيرة. الأرض وحدها بمبلغ، فضلًا عن البناء والتأثيث.

قال: سآمر لك بأرض وقرض، يساعدك على البناء.

وبعد درس اليوم التالي، قال الشيخ خليفة: وجدنا لك مكانًا مناسبًا جدًّا، في شارع السد، وسآمر عبد الرحمن أبو حميد، مدير إدارة التسجيل العقاري، أن يتصل بك، ويريك المكان، ويرتب كل شيء.

وقد تم كل شيء فعلًا بسرعة، كما قال الشيخ حفظه الله، وتسلمت الأرض، وتسلمت القرض، الذي يعطى لكبار الموظفين القطريين، ويقسط على عشرين سنة، ولكنه لم يكن كافيًا، «كان في ذلك الوقت 350 ألف ريال»، ولم تكن البنوك الإسلامية قد نشأت بعد في قطر، حتى أدخل معها في مرابحة تسدد على عدة سنوات، كما يحدث الآن؛ ولذا لجأت إلى البنك - بنك قطر الوطني - ليقرضني مبلغ ثلاثمائة ألف ريال قطري، وقال البنك: عليك فوائد مقدارها كذا وكذا، فقلت لهم: ألا يمكن الاستثناء من هذه الفوائد؟ فأنتم تعلمون أنها حرام، ولا يمكن لمثلي أن يدخل فيها؟ قالوا: هذا غير ممكن، حسب قانون البنك. قلت: حتى لو جاءكم أمر من الأمير؟ قالوا: الأمير يملك أن يتصرف في هذا بأي طريقة، وقد يتحملها هو.

لذا قابلت الأمير، وقلت له: تعلم أني أحرم الفوائد، فأرجو أن تعفيني من هذا الأمر، قال: سآمر البنك ألّا يطالبك بأي فوائد.

وكانت هذه المنحة تأكيدًا لجنسيتي القطرية التي اكتسبتها بجوازي القطري.

واتفقت مع صديقنا الأخ سالم حسن الأنصاري - ولديه شركة مقاولات - أن يقوم ببناء البيت، وقد كانت المباني في ذلك الوقت تتكلف كثيرًا جدًّا، ومواد البناء باهظة الثمن؛ ولذا تم بناء البيت على قدر فلوسي، مع أن الأخ سالمًا حفظه الله، أكرمني في تقدير التكلفة، ومع هذا لم يكن بالمستوى الذي أتوق إليه؛ لهذا آثرت أن أؤجره ولا أسكنه، ورجح ذلك: أن عليَّ قرضين: قرضًا طويل الأجل، وقرضًا قصير الأجل، وإجارة البيت تساعد في قضاء هذا الدين، ولا سيما أن راتبي كان محدودًا، وقد جمد عند حد معين لعدة سنين، وذلك قبل أن تنشأ جامعة قطر، وأنضم إليها.