كانت محنة الإخوان في مصر عام 1965م، قد بدأت بإعلان الرئيس عبد الناصر في شهر أغسطس من موسكو، بأنه اكتشف تنظيما للإخوان معاديا للثورة، وأنه سيضرب بيد من حديد ولن يرحم ولن يلين!!

 

رْبَّ ضارة نافعة

واقتيد عشرات الآلاف من الإخوان إلى المعتقلات والسجون في أيام معدودات حتى ضاقت السجون والمعتقلات بالأعداد الهائلة الذين جيء بهم من كل مدينة وقرية ... كانت هذه المحنة - على ما فيها من شدة وقسوة ووحشية - تحمل منحة في طيها، والعرب يقولون: ربَّ ضارة نافعة. والصوفية يقولون: كل قدر معه لطف. ومن ظن انفكاك لطفه عن قدره، فذلك لقصور نظره. {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ} [يوسف: 100]، والله عز وجل يقول: {فَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡ‍ٔٗا وَيَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيۡرٗا كَثِيرٗا} [النساء: 19].

 

روح الأخوة والغيرة على الدعوة

وكان من الخير الكثير الذي جاءت به هذه الشدّة: أن أكثر الإخوان الذين يعيشون خارج مصر لأسباب شتى، قد جمعتهم المحنة من تفرُّق، وأحيت فيهم روح الأخوّة بعد همود، وأيقظت فيهم الغيرة على العمل الإسلامي بعد رقود. وقد قال جمال الدين الأفغاني: بالضغط والتضييق تلتحم الأجزاء المبعثرة! كان أول ما جمعهم: التفكير في معونة الأسر المنكوبة من إخوانهم، ثم انتقلوا من هذا الواجب المؤقت، إلى التفكير في إيجاد لون من الترابط الدائم، يجمع بين أبناء الدعوة من المصريين أولا، ثم من إخوانهم في البلاد العربية المختلفة.  

 

إحياء المكتب التنفيذي

وبدأ التفكير في إحياء المكتب التنفيذي القديم، الذي كان يمثِّل الدول العربية أو عددًا منها، إذ إن حركة الإخوان ليست مجرد جماعة مصرية، بل هي حركة إسلامية عالمية، وإن كانت مصرية النشأة. وبدأت لقاءات كانت في أول الأمر يغلب عليها الجانب العلمي والبحثي في شئون الدعوة وقضاياها الفكرية، ومعوقاتها العملية، كما تحدثت عن ذلك في لقاء إستنابول في صيف سنة 1968م. ثم بدأ الأمر يأخذ شكلًا تنظيميًّا، كما كان قبل ذلك. يُدعى من كل بلد واحد يمثل الدعوة فيها. وكنت أحضر ممثلًا للإخوان في قطر، وكنا في أول الأمر مشغولين بوضع خطة للعمل المستقبلي، ليناقشها الأعضاء، فإذا أقرّوها، وضعت موضع التنفيذ.

 

كتابتي خطة العمل المستقبلي للحركة

وكلفني الإخوة أن أقوم بتقديم تصور عام لهذه الخطة، ومحاورها الأساسية وخطوطها العريضة. وأذكر أني قد عكفت على هذا الأمر، ووضعت تصورا لهذه الخطة، في الداخل والخارج: في المجال العلمي، وفي المجال التربوي، وفي المجال الاجتماعي، وفي المجال الاقتصادي، وفي المجال السياسي ... وقسمتها إلى مراحل كل مرحلة تسلم إلى ما بعدها. ومن خصائص هذه الخطة:

1 - أنها علمية، تعتمد على الإحصاء والأرقام، لا على العاطفية والارتجال.

2 - وأنها واقعية، تتعامل مع الواقع كما هو، بلا تهوين ولا تهويل، ولا جريان مع الأحلام.

3 - وأنها مرنة، تستطيع أن تستبدل شيئًا بشيء، ولا تقف جامدة عند تغير المواقف.

4 - وأنها متوازنة، تتبنّى خط الوسطية والاعتدال في كل الأمور.

5 - وأنها استشرافية، تنظر إلى المستقبل وتوقعاته، وتعدّ له ما يناسبه.

 

وقد عرضت هذه الخطة على المكتب أو المجلس، وأخذ يناقشها في جلسة من جلساته، أظنها كانت في المدينة المنورة، وأقرها المجتمعون بصفة عامة، بعد إدخال بعض التعديلات عليها، وتتمم استكمال بعض أشياء، رئي أنها تتم البناء ... ثم في الدورات التالية شغل المجتمعون بأمور إدارية أخرى، ونُسِيت الخطة، كما ينسى كثير من الأمور المهمة، التي يشرع فيها ثم لا تستكمل! ولا أدري ماذا حدث فيها بعد، ولم يكن عندي أي أصل غير المسودة التي قدمتها.

 

لائحة أساسية عالمية

كان من أهم ما شغل المكتب أو المجلس في ذلك الوقت، هو إعداد لائحة أساسية عالمية، فإن لائحة الإخوان التي وضعت في عهد الإمام الشهيد البنا، وأدخلت عليها بعض التعديلات في عهد خليفته الأستاذ الهضيبي، كانت موضوعة للإخوان في مصر. والآن نريد لائحة تلائم هذا الوضع الجديد، الذي يمثل معظم الدول العربية، التي توجد فيها جماعة للإخوان، مثل: الأردن وسوريا ولبنان والعراق والسودان واليمن، وغيرها.

 

تحفُّظ السودان على عضويته في المكتب التنفيذي

وكان السودان له تحفّظ على عضويته في هذا المجلس أو المكتب، لأنه يرى أن هذا يقيد حركته وعمله السياسي، وذلك أن كل بلد له ظروفه الخاصة التي قد لا يشاركه الآخرون فيها، وتحتاج أحيانًا إلى حرية التصرف السريع. والارتباط التنظيمي بمثل هذا المكتب قد يكون قيدا أحيانًا على الحركة.  كما أن السودان لا يريد أن يورط إخوانه فيما قد يراه من سياسات ربما تروق له، ولا تروق لهم.

ولم يكن عند ممثل السودان مانع أن يحضر الاجتماعات، ويشارك فيها، بوصفه مراقبًا لا عضوًا. بل طلب ذلك بالفعل، ووافق المكتب على ذلك، وشارك معنا الإخوة في كل الاجتماعات التي تمت في هذه الفترة، وكان ممثلهم باستمرار الأخ الحبيب، والصديق الكريم ياسين عمر الإمام ظظظ.

 

اختيار المرشد العام لمدة محدودة

وكان من أهم ما اتجه إليه الإخوان في اللائحة الجديدة، هو اختيار المرشد العام للجماعة، والذي يختاره هو مجلس الشورى العام المختار من جميع الأقطار، ويجب أن يختار لمدة محدودة، وليس لمدى الحياة كما كان يرى بعض المشاركين معنا ممن يرون أن تحديد المدة ليس من الإسلام، وإنما جاءنا من الغرب. وهذا ليس بصحيح، فلم يجيء في الإسلام نص يُوجب على الأمة أن تبايع إمامها مدى الحياة، ولا أي مدة محددة فهو متروك لاجتهاد الأمة، تتخذ فيه من الآراء ما ترى فيه مصلحتها. واختيار الخلفاء الراشدين لمدى الحياة: كان للظروف العسكرية التي تعيشها الدولة الإسلامية في ذلك الوقت.

 

وهو - على كل حال من باب «الأفعال» التي ليست ملزمة، حتى إن أفعال الرسول نفسها ليست ملزمة بذاتها، إنما تدل على مجرد المشروعية، ما لم يصاحبها دليل آخر. وقد رأينا الخلفاء الراشدين خالفوا بعض «السنن الفعلية» للرسول صلى الله عليه وسلم ، كما فعل عمر في عدم قسمة الأرض المفتوحة على المقاتلين، اقتداء بقسمة النبي لأرض خيبر، لأن الرسول - كما قال ابن قدامة - فعل ما هو الأصلح في زمنه، وعمر فعل ما هو الأصلح في زمنه، فقد اتبع سنة الرسول في فعل الأصلح.

 

اعتراضي على صيغة القسم

وكان من الأشياء التي اعترضت عليها وقبلها المشاركون «صيغة القَسَم» التي يقسم فيها العضو على الالتزام بمنهج الإخوان، والسمع والطاعة للقيادة في غير معصية. فاقترحت أن تكون «صيغة عهد» لا صيغة قسم، فالشخص يتعهد بدل أن يقسم. وحتى من الناحية الفقهية: صيغة القسم إذا أخلّ بها المسلم وحنث فيها، فلها كفارة: إطعام عشرة مساكين أو صيام ثلاثة ايام إن لم يجد الإطعام. أما صيغة العهد فهي ثابتة لا كفارة لها. وبدل إن كانت صيغة البيعة للمرشد العام، جعلناها بيعة مطلقة، على العمل بكتاب الله وسنة رسول الله، ونصرة الدعوة إلى الإسلام، ونحو ذلك...

 

التنظيم الدولي للإخوان

ومازال هذا المجلس يتقوَّى ويتوسَّع ويضم أعضاء جددًا، حتى اقترح بعض الإخوة - ولا أذكر في أي سنة - أن يطلق عليه اسم التنظيم الدولي أو العالمي للإخوان المسلمين، وأنا آثرت كلمة «العالمي» على كلمة «الدولي»؛ لأن كلمة «الدولي» أشبه بالمؤسسات الرسمية، و«العالمي» أشبه بالمؤسسات الشعبية. ولكن شاعت كلمة «الدولي».

 

اجتماعات المكتب التنفيذي في عدد من البلاد

ظل المكتب يعقد جلساته كل سنة مرة، في أي مدينة يتيسر اجتماعه فيها من مدن العالم العربي والإسلامي، لا يلتزم ببلد معين. وهناك بلاد يستحيل أن يجتمع فيها، وهي البلاد التي تحكمها الديكتاتوريات، ويتسلط عليها أمن الدولة تسلطا مباشرًا، فلا يسمح بمثل هذا اللقاء إلا أن يكون وراء أسوار السجن! هذا إذا سمح لهم اصلا بدخول البلد، وهيهات هيات. من هذه البلاد: مصر وسورية والعراق وتونس وغيرها من البلاد المغلقة.

 

وكثيرًا ما تم الاجتماع في مكة أو المدينة في موسم الحج والعمرة. وقد التقينا مرة في إستانبول: مدينة الجلال والجمال، والبحار والجبال، والماضي العريق، والحاضر الأنيق، والتي جمعت بين الشرق والغرب، حين جمعت بين آسيا وأوربا. وأكثر من مرة في بيروت، ولاسيما في أيام الحرب الداخلية، التي استمرت سنوات بين طوائفه المختلفة، وأهلكت الحرث والنسل، وجرَّت الخراب على لبنان، حتى انطفأت نيران هذه الفتنة المشئومة، وعادت لبنان إلى الهدوء والسلم بعد هذه السنوات العجاف، واجتمع اللبنانيون المختلفون في الطائف، واتفقوا على أن يعيشوا في سلام ووئام، ووضعوا النقاط على الحروف.

 

كان مطار بيروت مفتوحًا في أكثر الأحيان، على رغم ما يجري في الداخل من معارك وصدامات. وهذا ما أتاح لنا أن ندخل بسهولة إلى لبنان، وأن نشاهد بأعيننا آثار الدمار الهائل الذي لحق بهذا البلد الجميل، الذي كان واحة ومنتجعًا للعرب، يجدون فيه جمال الطبعية وجمال الحياة والإنسان وحرية الحركة، وحرية الفكر، وحرية النشر، لا قيود ولا أغلال.

 

والتقينا في عَمَّان، حيث إن للإخوان وجودا رسميا علنيا، وإن كانت أجهزة المخابرات بالمرصاد، وكل أجهزة المخابرات في كل البلاد التي نتقابل فيها، لا ترحِّب بنا، ولا ترغب كثيرًا في وجودنا. ونحن نجتمع يقظين حذرين أن يكون هناك من يراقبنا من بعيد، أو يتنصّت علينا من قريب، فقد بلغت تكنولوجيا التجسس والتلصُّص على الناس، بحيث لا يأمن الإنسان أن يراقب، وهو في غرفة نومه. حتى في حديثه مع أهله فالإنسان في الحضارة الحالية «عريان» مكشوف أمام آليات الحضارة الجبارة التي لا تدع أحدا في حاله.

 

استعفائي من العمل التنظيمي للجماعة

وبعد ذلك رأيت أن أستعفي من العمل بالتنظيمي في جماعة الإخوان، وأن اتحرر من الالتزام بأي عمل رسمي في تنظيم الإخوان، وأن أتفرغ للعمل الإسلامي العام، فوضعي اليوم يقتضي مني أن أكون للمسلمين جميعا، على اختلاف اتجاهاتهم، واختلاف أقطارهم، واختلاف مذاهبهم. هذا مع أني لا أنكر انتمائي لدعوة الإخوان نشأة وفكرًا وولاء. وسأظل أعمل لترشيد مسيرة الإخوان، ضمن مسيرة الصحوة الإسلامية، العامة، وتسديد خطاها، وتحذيرها من المزالق والمضايق ... وهذا لا ينافي أن أنقدها كما أنقد غيرها من الحركات والجماعات. وقد رضي مني الإخوان هذا الموقف الذي يراه كل الراشدين أنفع للإسلام ولأمته، وإن كان بعض رجال الأمن يعتبرون ذلك من باب «توزيع الأدوار». وهؤلاء لو أقسمت لهم بالأيمان المغلظة، أو أتيتهم بكل آية وبينة، لم يصدقوك.

 

دخول التيار السلفي على الإخوان

لم يكن المجلس كله على خط فكري واحدتمامًا، فقد بدأت أفكار جديدة، تدخل على الإخوان بعضها من التيار السلفي الذي يغلب على كثير من المنتمين إليه: التشدد والحرفية، حتى أطلقت عليهم لقب: «الظاهرية الجدد». على عكس منهج شَيْخَي الإسلام ابن تيمية وابن القيم، اللذين يزعمون أنهما من أئمتهم الذين يأخذون عنهم. وأكثر الذين تأثروا بالتيار السلفي: الذين يعيشون في السعودية والكويت، ويظهر ذلك في الموقف من قضايا المرأة والتعددية السياسية والأقليات ونحوها.  

وبعض الأفكار الأخرى رشحات من أفكار الشهيد سيد قطب رحمه الله ، في كتبه: معالم في الطريق، والظلال في أجزائه الأخيرة، وفي الطبعة الثانية من أجزائه الأولى، وفي كتبه التي ظهرت في أواخر حياته رحمه الله . وهذه الأفكار تحمل بذور تكفير المجتمع، والعزلة الشعورية، واستعلاء على الآخرين، ورفض الاجتهاد وتطوير الفقه، إلى آخر هذه الأفكار.

 

عيوب المنهج التربوي الرسمي للإخوان

وكان المنهج التربوي الذي يوضع للإخوان يتضمن بعض هذه الأفكار وتلك، سلفية وقطبية، ولاسيما أن المكلفين بوضع المنهج كانوا في فترة من الفترات هم إخوان الأردن وكثير منهم متعلقون تعلقا شديدا بالأفكار القطبية. ولذلك لم تكن كتبي، أو كتب الشيخ الغزالي، أو مصطفى السباعي، أو محمد فتحي عثمان، وأمثال هؤلاء مما يحسن أن يوضع في صلب المنهج، لأنهم يعتبروننا «عقلانيين» ويسمِّينا بعضهم «معتزلة العصر»! وإن كانوا يدخلون في بعض الأحيان عددًا قليلاً من كتبي، بعضها في المنهج الأساسي، وبعضها في منهج القراءة. ولكن الذي كان يطمئنني حقًّا: أن جمهور الإخوان يقتنون كتبي، ويتلهفون عليها بمجرد ظهورها من المطبعة، فهم قرروها على أنفسهم، وأن لم تقررها السلطة المختصة، وهذا فرق بين الشعبي والرسمي.

 

ومن عيوب هذا المنهج التربوي الرسمي الملزم للإخوان: أنه يوقعهم في التناقض، المكشوف أحيانًا، والمُقنَّع أحيانًا أخرى. فبعض الكتب المقررة عليهم مثل كتبي ترى أنَّ الشورى واجبة، وأن الشورى ملزمة، وأن النزول على رأي أكثرية أهل الحل والعقد واجب ... على حين يرى كتَاب آخر لبعض الدعاة: أن العمل برأي الأكثرية من الأمراض التي دخلت على الحركة الإسلامية، وأن الواجب هو العمل برأي الإمام، وإن خالف الأكثرية، بعد أن يستشيرهم. وبهذا شرّعنا للاستبداد، وأعطينا الحجّة للحكام الذين يقهرون الأمة، ويضربون برأيها عرض الحائط وإن كان الإخوان قد اعتمدوا بعد ذلك إلزامية الشورى، وأقروا مبدأ تعددية الأحزاب.

 

وفي بعض الجلسات دعى القيادي الإخواني القديم الأستاذ محمد فريد عبد الخالق، أحد قدامى الإخوان، ورئيس قسم الطلاب لسنين عديدة، وأحد المقرِّبين من المرشدَيْن الأول والثاني: البنا والهضيبي، وكان له ملاحظات على منهج الإخوان في التربية والتثقيف، وكان متفقًا معي تمامًا، وقد أوصينا بعمل مقترحات لتدخل على المنهج، إلى أن يوضع منهج جديد، يتفادى ما ذكر من السلبيات ويتضمَّن الإيجابيات المنشودة.

 

وأحب أن أعلن هنا بوضوح: أني حين انسحبت من التنظيم الرسمي للإخوان عالميا وإقليميا، لا يعني هذا انسلاخي من الدعوة نفسها، أعني الدعوة إلى الإسلام: عقيدة وشريعة، وعبادة ومعاملة، ودينا ودنيا، وحقا وقوة، ودعوة ودولة. فهذا ما أحيا له، وأموت عليه، وأنذر عمري له. فأنا ابن الدعوة وأخوها وأبوها، وهي مني وأنا منها.

 

شرحي للأصول العشرين

وهذا ما يجعل كثيرًا من الإخوان يعتبرونني واحدًا منهم، وإن أعلنت استقلالي عنهم، بل ربما اعتبرني كثيرون: مفتيهم الأول الذي يأخذون عنه الأحكام، ويفتون بفتواه، وربما اعتبرني آخرون: مُنظِّر الدعوة، الذي يؤصِّل مفاهيمها، ويعمق أفكارها، ويرد فروعها إلى أصولها، ويدلل عليها بالأدلة الشرعية الموثقة، كما يتجلى ذلك واضحا في سلسلة: «نحو وحدة فكرية للعاملين للإسلام» وهي تدور حول «الأصول العشرين» للإمام حسن البنا، وتشرحها شرحًا أصوليًّا فقهيًّا يجمع بين محكمات الشرع ومقتضيات العصر. وقد كنت من قديم شرحت هذه الأصول شرحًا شفهيًّا، مسجّلا على أشرطة «كاسيت» ونشرت ووزعت في أنحاء العالم، ولقيت قبولا عاما.

 

محاولة ترشيحي لمنصب المرشد العام للجماعة

وربما أيَّد هذا: ما يفكر فيه كثيرون داخل الإخوان، وخصوصًا الكبار والقدامى منهم، حين يلحق بربه أحد المرشدين العاملين للإخوان، فيهرع إلىّ من يهرع، يطلبون إلي أن أقبل منصب المرشد العام للجماعة، ولا يسعني إلا أن أ شكر لهم، وأعتذر عن عدم قبولي لعرضهم، اقتناعا مني بأن ما أقوم به من عمل إسلامي عام: أنفع لي وللأمة من تولي منصب المرشد العام. وقد قال لي رفيق العمر الأخ أحمد العسال فعلا في موقف شهده من هذه المواقف: إني أوثر أن تكون مرشدًا للأمة، بدل أن تكون مرشدًا لجماعة بعينها ... قلت: وأنا مستريح إلى هذا، ومطمئن إليه.

 

حدث ذلك عند اشتداد مرض المرشد الثالث الأستاذ عمر التلمساني، وحدث ذلك مرة أخرى بعد أن تولى الأستاذ مأمون الهضيبي منصب المرشد، وقد أرسل إليّ من يكلمني ويقنعني بقبول المنصب، وهو مستعد أن يتنازل عن منصبه راضيا، وكان الذي حمل الرسالة مقتنعا تمام الاقتناع بذلك، وحاول جاهدا أن يزحزحني عن موقفي، حيث إن في هذا مصلحة الدعوة، ومصلحة الأمة... وهو من رجال الفكر والدعوة القادرين على الإقناع، ولا مانع من أن أذكر اسمه الآن، وهو الأخ الصديق المفكر الإسلامي الكبير الدكتور محمد عمارة.

وقد قلت له: ولماذا لا تتولى أنت هذا المنصب يا دكتور؟

قال: أنا لا أصلح له، أنا غريب عن الجماعة. أما أنت فابن الدعوة ورجلها، قضيت فيها شبابك وكهولتك وشيخوختك، وأنت الشخصية الأولى لدى الإخوان، لا يتمتع أحد بالإجماع على حبه وتقديره غيرك، ومنزلتك العالمية اليوم ستساعد في نجاح الدعوة التي أصبح لها وجود عملي في أكثر من سبعين دولة في العالم.

وقد رأيت كثرين من إخواني المقرَّبين يشاركونني الرأي في أن بقائي مرشدًا وموجهًا للأمة كلها: أكثر نفعًا وبركة من تولي منصب المرشد العام للجماعة، منهم - بعد د. أحمد العسال - د. عبد العظيم الديب، ود. عز الدين إبراهيم، ود. محمد سليم العوا، وأ. فهمي هويدي، ود. عز الدين إبراهيم، وكثيرون.

 

وضع التنظيم العالمي أو الدولي اليوم

ولقد علمت بعد ذلك أن وضع هذا التنظيم «العالمي أو الدولي» أصبح في حرج، فقد انتشرت دعوة الإخوان حتى أصبحت في سبعين دولة أ وأكثر. ومن المتعذر أن يجتمع ممثلون لهؤلاء جميعًا، وكثير من البلاد لا تسمح بوجود رسمي للجماعة فيها، وبلاد أخرى لا تسمح بخروج ممثلين للدعوة منها، كما أن بعض البلاد يصعب عليهم أن يلتزموا برأي ربما لا يناسب ظروفهم، فلا غرو أن انفرط عقد التنظيم، ولم يعد له الوجود المنظم المتماسك القوي، كما كان من قبل. والحكيم من يطوّر نفسه وَفق الأوضاع دون تفريط في الأصول.