السؤال: أحيانا ما نسمع بعض العلماء يدعو لعدم تغيير المنكر الكبير ، بدعوى أن هذا من سنة التدرج ، فما هي ضوابط سنة التدرج في تنفيذ أحكام الشرع الحكيم ،مع ذكر الدليل الشرعي ؟

الإجابة:

بسم الله ، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد:

فسنة التدرج من سنن الله تعالى في الكون ، ونحن في حاجة إليها في مجال الشريعة ، لأن التغيير في حياة الناس من أصعب الأمور ، وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة حتى زحزح العقائد الفاسدة في مكة ، ثم كان التشريع الذي استغرق عشر سنوات ، وقد كان لسنة التدرج أثرها في تحريم الخمر والربا وغيرهما ، ولكن لا يعني هذا الخمول والكسل وتأخير الأمر عن حده ، فنحن نحتاج إلى تدرج في تطبيق الشريعة ، يعني لا نعلن التطبيق بقرار فوري ،بل لابد من تهيئة الشعوب وإعداد العدة ، بحماس وإخلاص ، حتى يبقى الأمر ويدوم .

يقول الشيخ القرضاوي - حفظه الله - :

من التيسير المطلوب في الشريعة: مراعاة سُنَّة التَّدَرُّج، جَرْيًا على سُنَّة الله - تعالى- في عالَم الخَلْق، وعالَم الأمر، واتباعًا لمنهج التشريع الإسلامي في فرض الفرائض من الصلاة والصيام وغيرهما، وفي تحريم المُحرَّمات كذلك.

ولعل أوضح مثل معروف في ذلك هو تحريم الخمر على مراحل معروفة في تاريخ التشريع الإسلامي، لا يجهلها دارس.

ولعل رعاية الإسلام للتَّدَرُّج هي التي جَعَلَتْه يُبقِي على "نظام الرِّقِّ" الذي كان نظامًا سائدًا في العالَم كله عند ظهور الإسلام، وكان إلغاؤه يُؤدِّي إلى زلزلة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فكانت الحكمة في تضييق روافده بل ردمها كلها ما وُجِدَ إلى ذلك سبيل، وتوسيع مصارفه إلى أقصى حَدٍّ، فيكون ذلك بمثابة إلغاء للرِّقِّ بطريق التدَرُّج.

وهذه السُّنَّة الإلهية في رعاية التدَرُّج ينبغي أن تُتَّبَع في سياسة الناس عندما يُراد تطبيق نظام الإسلام في الحياة اليوم، بعد عصر الغزو الثقافي والتشريعي والاجتماعي للحياة الإسلامية.

فإذا أردْنا أن نُقيمَ "مجتمعًا إسلاميًّا حقيقيًّا" فلا نتوهم أن ذلك يتحقق بجَرَّة قلم، أو بقرار يصدر من ملك أو رئيس، أو مجلس قيادة أو برلمان.

إنما يتحقق ذلك بطريق التدرج، أعني بالإعداد والتهيئة الفكرية والنفسية والأخلاقية والاجتماعية، وإيجاد البدائل الشرعية للأوضاع المُحرَّمة التي قامتْ عليها مؤسسات عِدَّة لأزمنة طويلة.

ولا نعني بالتدرج هنا مجرد التسويف وتأجيل التنفيذ، واتخاذ كلمة التدرج "تكأة" لتمويت فكرة المطالبة الشعبية المُلِحَّة بإقامة حكم الله، وتطبيق شرعه، بل نعني بها تعيين الهدف، ووضع الخطة، وتحديد المراحل، بوعي وصدق، بحيث تسلم كل مرحلة إلى ما بعدها بالتخطيط والتنظيم والتصميم، حتى تصل المسيرة إلى المرحلة المنشودة والأخيرة التي فيها قيام الإسلام، كل الإسلام.

وهو نفس المنهاج الذي سلكه النبي - صلى الله عليه وسلم - لتغيير الحياة الجاهلية إلى حياة إسلامية، كما بيَّنَّا ذلك في الفصل السابق.

ومن المواقف التي لها مَغْزَى ما رواه المؤرخون عن عمر بن عبد العزيز، الذي يَعُدُّه علماء المسلمين "خامس الخلفاء الراشدين" وثاني العمرين؛ لأنه سار على نَهْج جده الفاروق عمر بن الخطاب: أن ابنه عبد الملك - وكان شابًا تَقِيًّا مُتَحْمِسًا - قال له يومًا: يا أبتِ، مالكَ لا تنفذ الأمور؟ فواللهِ ما أُبالِي لو أن القدور غَلَتْ بي وبكَ في الحقِّ!!

يريد الشاب التقي الغيور من أبيه - وقد وَلاَّه الله إمارة المؤمنين - أن يقضي على المظالم وآثار الفساد والانحراف دفعة واحدة، دون تريُّث ولا أناة، وليكن بعد ذلك ما يكون!

ولكنَّ الأب الراشد قال لابنه: لا تَعْجَلْ يا بُنَيَّ، فإن الله ذَمَّ الخمر في القرآن مرتين، وحرَّمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدعوه جملة، ويكون من ذا فتنة! "انظر الموافقات للشاطبي: 2/94"

يريد الخليفة الراشد أن يُعالِج الأمور بحكمة وتدرُّج، مهتديًا بسُنَّة الله - تعالى- في تحريم الخمر، فهو يُجَرِّعهم الحق جُرْعةً جرعة، ويَمضي بهم إلى المنهج المنشود خُطوة خطوة. هذا هو الفقه الصحيح

والله أعلم