السؤال: قرأت في مجلة إسلامية مقالا لكاتب إسلامي تحت عنوان: هل الإنسان خليفة الله في الأرض؟"، وقد أجاب الأستاذ عن هذا السؤال بالنفي، منكرًا بشدة ما شاع على ألسنة الباحثين المعاصرين وفي كتاباتهم أن الإنسان خليفة الله في الأرض. قائلاً : "ولا شك أن فكرة خلافة الإنسان لله في الأرض مأخوذة عن نظرية الحلول والاتحاد، ونظرية القطب والغوث لغلاة الصوفية".

فهل توافقون على هذا الرأي؟ وهل مما ينافى الإسلام أن نقول: إن الإنسان خليفة الله في الأرض؟ فقد كنا نحسب أن فكرة خلافة الإنسان لله فكرة مسلمة في الدين، ولا حرج في القول بها، حتى قرأنا هذه المقالة فشككنا في الأمر. لذا نرجو توضيح وجهة نظركم في هذه القضية مع الأدلة المقنعة، نفع الله بكم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،

جواب العلامة الدكتور يوسف القرضاوي:

لا ريب أن للموضوع خطرة وأهميته في الفكر الإسلامي القديم والحديث حيث يتعلق بتحديد مكانة الإنسان في نظر الإسلام، وتعيين درجته في سلم الكائنات، وهو أمر تعرض له المتكلمون والفلاسفة والمفسرون والمتصوفون في مناسبات شتي، كما جرى في هذا العصر على ألسنة العلماء والأدباء والباحثين الإسلاميين. حتى أصبح كالحقيقة.. كما أن بعض المستشرقين المتعصبين حاولوا أن ينفثوا سمومهم في هذه القضية مستغلين بعض العبارات ليتهموا الإسلام بالتحقير من شأن الإنسان.

ومن هنا أرى الأمر يحتاج إلى إيضاح لحقيقته وكشف لغوامضه، حتى يكون السائل على بينة من الأمر.

وأود أن أذكر السائل وقبله الكاتب الفاضل أن هذا القول "خلافة الإنسان لله في الأرض" ليس من مبتكرات الأدباء الإسلاميين المعاصرين، وليس أيضًا من مخترعات الغلاة من الصوفية، بل هو مروي عن سادات المفسرين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو أحد الرأيين أو الآراء المذكورة في معنى الخلافة في قوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة)  (البقرة: 30)، ولم يكد يخلو من ذكره كتاب من كتب التفسير في القديم أو الحديث. وأكتفي هنا بمقالين من كتب التفسير القديم:

الأول: ما ذكره ابن الجوزي في تفسيره: فقد ذكر في معنى خلافة بني آدم قولين أحدهما: أنه: خليفة عن الله تعالى في إقامة شرعه، ودلائل توحيده، والحكم في خلقه، وهذا قول ابن مسعود.

والثاني: ما قاله الفخر الرازي: القول الثاني: إنما سماه الله خليفة؛ لأنه يخلف الله في الحكم بين المكلفين من خلقه، وهو المروي عن ابن مسعود وابن عباس والسدي، وهذا الرأي متأكد بقوله: (إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق)  (ص: 26). ا هـ.

وإذا كانت الآيات الكريمة تتحدث عن قصة آدم فإن السياق يدل على أن المرشح للخلافة هو وذريته من بعده، بدليل قول الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)  (البقرة: 30). فإنهم لا يقصدون بقولهم هذا آدم عليه السلام، بل يقصدون به هذا النوع الجديد من الخليقة بوجه عام بما عرفوا من طبيعة تكوينه، أو بقياسه على من سبقه من سكان الأرض، أو بإعلام من الله لهم- على اختلاف الأقوال والاحتمالات في الموضوع.

ولست أريد هنا أن أرجح أحد القولين أو الأقوال في معنى "الخليفة" في الآية الكريمة وإن كان سياق القصة، من إعلان الله لملائكته، مقدم هذا المخلوق الجديد قبل وجوده، وتعاليمه الأسماء كلها، وإظهار تفوقه على الملائكة في اختبار علني، وأمر الملائكة بالسجود لهذا الكائن الفريد، وجعل هذا السجود مرتبًا على قوله: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) وطرد إبليس من رحمة الله، وتجليله باللعنة إلى يوم الدين، حين أبى أن يستجيب لأمر الله بسجود التحية والتكريم لهذا المخلوق - كل هذا قد يجعل النفس أميل إلى أن الإخبار الإلهي للملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة لا يدل على أنه مجرد مخلوق يخلف من كان قبله من سكان الأرض، بل نختار ما قاله السيد صديق حسن خان في تفسيره "فتح البيان" بعد أن ذكر الأقوال في المراد بالخلافة والخليفة: (والصحيح أنه إنما سمي خليفة، لأنه خليفة الله في أرضه، لإقامة حدوده وتنفيذ قضاياه).

ومعروف أن السيد صديق أحد المستمسكين بالسلفية وهو من علماء أهل الحديث المستقلين.

أقول: لست في مقام الترجيح، وحسبي أن هذا الرأي مأثور ومتكرر في مصادر التفسير، ولم يطعن فيه أحد - فيما أعلم - قبل الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله، وإن كان ابن القيم أدنى إلى الرفق والاعتدال في القضية من شيخه. فقد عرض للمسألة في كتابه "مفتاح دار السعادة" وهو يشرح الحديث الذي رواه أبو نعيم وغيره عن كميل بن زياد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فضل العلم وأهله وحملته وفيه: (أولئك خلفاء الله في أرضه ودعاته إلى دينه).

قال: (قوله "أولئك خلفاء الله في أرضه" حجة أحد القولين في أنه يجوز أن يقال: فلان "خليفة الله في أرضه") وساق حجج أصحاب هذا القول من القرآن والحديث، ثم ساق دليل الطائفة التي منعت هذا الإطلاق - وهي التي سنذكرها ونناقشها بعد - ثم قال: (إن أريد بالإضافة إلى الله أنه خليفة عنه، فالصواب قول الطائفة المانعة منها، وإن أريد بالإضافة أن الله استخلفه عن غيره ممن كان قبله، فهذا لا يمتنع فيه الإضافة.. حقيقتها: خليفة الله الذي جعله خلفًا عن غيره. وبهذا يخرج الجواب عن قول أمير المؤمنين "أولئك خلفاء الله في أرضه") ا هـ.

وأنا من أكثر الناس إعجابًا بشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه المحقق ابن القيم، وبالثروة العلمية العظيمة التي خلفاها لهذه الأمة، كما أقدر دوافعهما النبيلة التي جعلتهما ينكران هذه الفكرة "خلافة الله" بعد أن غلا فيها بعض المتصوفة غلوا أفسدها، ولكني أرى أن الأدلة التي اعتمدا عليها في منع القول بخلافة الإنسان لله في الأرض، ليست قاطعة ولا راجحة.

وعمدة أدلتهما هنا أمران:

أحدهما: أن أبا بكر رضي الله عنه حين قالوا له: يا خليفة الله، قال: لست بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حسبي ذلك.

الثاني: أن الخليفة من يقوم مقام غيره... والله تعالى لا يجوز أن يكون أحد خلفا عنه: لأنه لا سمي له ولا كفء، بل هو سبحانه يكون خليفة لغيره. كما في حديث: "اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل".

وبالنظر في الدليل الأول نجده قيل في مقام معين له خصوصية ينفرد بها عن سواه. ذلك هو مقام الإمام الأعظم الذي بويع رئيسًا للدولة بعد رسول الله. مظنة الغلو في مثل هذه الحالة قائمة ومعروفة لدى كثير من الأمم، التي ورث المسلمون ملكهم، وأقربهم الفرس: الذين يضفون على ملوكهم ورؤسائهم نوعًا من التقديس والتأليه، وأبو بكر رضي الله عنه - مع أنه رئيس دولة - صاحب عقيدة يريد لها أن تسود وأن تظل سليمة من التشويه والتحريف، وتخصيصه وحده - دون المسلمين جميعًا - بأنه خليفة الله، يخشى منه أن يكون غلوا في التعظيم الذي ينفرد به الحكام عادة. لهذا رفضه رضي الله عنه، واكتفى بأنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال: "حسبي ذلك" فهذا التعقيب منه يدل على ما ذكرناه. وقد ورد أن أحد الشعراء خاطب أبا بكر بقوله:

أخليفة الرحمن إنا معشر        حنفاء نسجد بكرة وأصيلا

عرب نرى لله في أموالنا       حـق الزكاة منزلاً تنزيلا

وسواء بلغ هذا الشعر أبا بكر أم لم يبلغه، فقد قيل في عصر أبي بكر، ولم ينقل ألينا أن أحدًا من الصحابة أنكره.

وبذلك يبين لنا أن عبارة أبي بكر ليست نصًا في إنكار خلافة الله العامة لكل البشر، لأنها سيقت في مناسبة خاصة لغرض خاص.

ونظير هذا ما روي عن أبي ذر أنه أنكر على معاوية أن يسمى مال الخزانة الإسلامية "مال الله" وأصر على أن يسميه " مال المسلمين " مع أن إضافة المال إلى الله تعالى واردة في القرآن الكريم: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم)  (النور: 33)، ولكنه هنا خشي أن تهون كلمته " مال الله " من حق أفراد الجماعة في المال، فتمتد إليه يد ولي الأمر في غير مصلحة المسلمين أصحاب المال الحقيقيين.

والذي يعنينا هنا أن العبارة، قد تكون جائزة في نفسها، ولكن يأتي اعتبار معقول، يمنع استعمالها في مقام معين.

وبالنظر إلى الدليل الثاني: لا نسلم أن الخلافة عن الله تستلزم أن يكون الإنسان سميًا لله وكفوًا، تعالى الله عن ذلك. فإن الخليفة هو الوكيل والنائب، ولله تعالين يوكل من يشاء من خلقه فيما شاء من أمره. كما وكل ملائكته في بعض شئون خلقه، وكما أناب الإنسان في تنمية المال وإنفاقه، على ما يرضي الله سبحانه مالك المال وصاحبه الحقيقي، قال تعالى: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه)  (الحديد: 7).

قال الزمخشري في تفسير الآية: يعني أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها، وإنما مولكم إياها وخولكم الاستمتاع بها، وجعلكم خلفاء في التصرف فيها، فليست هي بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب أ هـ.

وقد شاع بين جمهور المسلمين حديث قدسي يقول:" المال مالي والفقراء عيالي والأغنياء وكلائي، فإذا بخل وكلائي على عيالي أذقتهم وبالي ولا أبالي" وليس لهذا الحديث سند يعرف، ولكن معناه لا غبار عليه، وتلقيه بالقبول يدل على أن فكرة الاستخلاف في مال الله عميقة الجذور في عقلية المسلمين.

وقد أصبحت هذه الفكرة أساسًا لما عليه المفكرون الإسلاميون في هذا العصر، لتوضيح معالم نظرية الإسلام الاقتصادية.

وابن القيم نفسه بعد أن رجح عدم الجواز بأن يقال: (إن أحدًا وكيل الله؛ لأن الوكيل من يتصرف عن موكله بطريق النيابة، والله عز وجل لا نائب له..) عاد فقال: (على أنه لا يمتنع أن يطلق ذلك باعتبار أنه مأمور بحفظ ما وكله فيه ورعايته والقيام به)  (مدارج السالكين 2/126، 127، ط. السنة المحمدية بالقاهرة).

والخلاصة:

إن القول بالخلافة لله في حد ذاته ليس خطأ ولا خطرًا ولا يؤدي إلى كل هذا الانزعاج، وإن في استطاعتنا أن ننتفع بهذه الفكرة، ونجردها من تحريف الغلاة من الصوفية، ونبرز بها نظرة الإسلام إلى الإنسان، وموضعه الرفيع في هذا الكون، في مقابل النظرات المادية الحديثة التي هبطت به إلى أسفل سافلين، وجعلته من أحفاد القردة، وأقارب الخنازير.

إن الخلافة عن الله توحي بأمور أربعة ليس منها ولا في واحد منها ضرر ولا خطر على الإنسان، بل فيها الخير الكثير لمن تدبرها:

أولها: أن الإنسان ليس مطلق التصرف في هذا الكون يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يسأل عما يفعل، ولا يحاسب على ما يحكم، إنما هو مخلوق مستخلف من خالق الكون وخالقه، موكل بأن يعمره ويتصرف فيه وفق أمر موكله وإرشاد مستخلفه.

ثانيها: أن الله قد أعطاه شرفًا عظيمًا بهذه المنزلة التي خصه بها دون سائر المخلوقات العلوية والسفلية. شرفًا غبطته عليه الملائكة المقربون وعبر عنه الإمام الرازي بقوله: إن الله جعل آدم خليفة له... ومعلوم أن أعلى الناس منصبًا عند الملك من كان قائمًا مقامه في الولاية والتصرف وكان خليفة له... وهذا متأكد بقوله تعالى: (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض...)  (لقمان: 20)، ثم أكد هذا التعميم بقوله: (خلق لكم ما في الأرض جميعا)   (البقرة: 29)، فبلغ آدم في منصب الخلافة إلى أعلى الدرجات، فالدنيا خلقت متعة لبقائه، والآخرة مملكة لجزائه، وصارت الشياطين ملعونين بسبب التكبر عليه، والجن رعيته، والملائكة في طاعته وسجوده والتواضع له، ثم صار بعضهم حافظين له ولذريته، وبعضهم منزلين لرزقه، وبعضهم مستغفرين له.

ثالثها: أن هذا الإنسان المستخلف لا بد أن يكون قد أعطي من الطاقات والمواهب وهيئ له من الأسباب والمعينات والآلات ما يمكنه من القيام بحق هذه الخلافة، وإلا كان استخلافه في هذه الأرض عبثًا يتنزه عنه الإله العليم الحكيم.

ولعلنا نلمح من هذه المواهب موهبة العلم والمعرفة التي برزت في تعلم آدم للأسماء كلها بتعليم الله عز وجل.

كما نجد الوسائل المعينة على مهمة الخلافة في مثل قوله تعالى في الآية السابقة لقصة استخلاف آدم: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا)  (البقرة: 29)، أو في آيات أخرى  مثل (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه). (الجاثية: 13).

رابعها: أن الإنسان الذي لا يقوم بحق هذه الخلافة ولا يرعى أمانتها، لا يستحق أن يحظى بشرف اسمها، وحمل عنوانها، ووجب أن يسحب منه لقب " خليفة الله " فخلفاء الله هم المؤمنون الصادقون المذكورون في قوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)  (الأنبياء: 105).

وأخيرًا فإن في ديار العرب والمسلمين اليوم من المذاهب المنحرفة، والأفكار الهدامة، والعقائد المستوردة، والفرق الباطنية المناوئة للإسلام وأمته - ما هو أولى بأن توجه إلى مقاومته جهود العلماء والكتاب والمفكرين من الغيورين على عقيدة الإسلام، وشريعة الإسلام، وأمة الإسلام.