السؤال: قولان نسمعهما يترددان على الألسن في كثير من المناسبات، يناقض كلاهما الآخر. القول الأول هو: العجلة من الشيطان. والثاني هو: خير البر عاجله. فهل هما حديثان نبويان أم لا؟ وإذا كانا حديثين، فكيف نوفق بينهما؟ وإن لم يكونا فأيهما الصواب، وأيهما الخطأ؟

جواب فضيلة الشيخ القرضاوي:

بسم الله ، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد:

أما القول الأول فهو جزء من حديث بلفظ: (الأناة من الله تعالى، والعجلة من الشيطان).

ومدح الأناة، وذم العجلة، مما استقرت عليه فطر الناس، وأجمعوا عليه قديما وحديثا، حتى قيل في الأمثال السائرة: من تأنى نال ما تمنى.. في التأني السلامة، وفي العجلة الندامة. وقال المرقش:

يا صاحبي تلوما لا تعجلا إن النجاح رهين ألا تعجلا

وقال آخر:

قد يدرك المتأني بعض حاجة وقد يكون من المستعجل الزلل

وقال عمرو بن العاص: لا يزال المرء يجتني من ثمرة العجلة الندامة.

وإنما كانت العجلة من الشيطان: لأنها -كما قال ابن القيم- خفة وطيش وحدة في العبد، تمنعه من التثبت والوقار والحلم، وتوجب وضع الشيء في غير محله، وتجلب الشرور، وتمنع الخيور. وهي متولدة بين خلقين مذمومين: التفريط والاستعجال قبل الوقت. اهـ.

وفي الحديث: (يستجاب للعبد ما لم يستعجل).

أما القول الآخر: "خير البر عاجله" فقال "العجلوني" في "كشف الخفاء":

ليس بحديث، ولكن روي معناه عن العباس رضي الله عنه: (لا يتم المعروف إلا بتعجيله، فإنه إذا عجله هنأه) ومشاع على الألسنة واشتهر: إن الانتظار أشد من الموت!.

على أن "البر" أوسع من مجرد إسداء المعروف، فهو يشمل كل عمل صالح مما يتقرب به المرء إلى الله، أو ينفع به الناس.

والتعجيل بالخير والبر وعمل الصالحات أمر محمود، ندب إليه القرآن والسنة. ففي القرآن الكريم في معرض المدح (أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون). (..ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين)، (فاستبقوا الخيرات)، (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة).

فهذا القول الأخير صحيح في معناه، وليس مناقضا لحديث (العجلة من الشيطان) لأن العقل لا يحكم بوجود التناقض بين قولين أو قضيتين إلا إذا ثبت تنافيهما من كل الوجوه، وعدم التقائهما بصورة ما. أما إذا أمكن تقييد أحدهما بوضع معين أو حالة معينة. فلا تناقض إذن.

وقد نبه المحققون على أن الأناة إنما تمدح، والعجلة إنما تذم بشروط ثلاثة:

أولا: ألا يكون الأمر المراد تنفيذه طاعة ظاهرة لله، فإذا كان كذلك، فمن الخير التعجيل به استباقا للخيرات، ومسارعة فيها كما أمر الله. وقد روى سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التؤدة في كل شيء خير، إلا في عمل الآخرة).

دعا أحد الصالحين غلاما له وهو في الخلاء يقضي حاجته، وأمره أن يتصدق بصدقة على فلان من الناس. فقال له: هلا صبرت حتى تخرج من الخلاء؟! فقال: حضرتني هذه النية. فأحببت التعجيل بها، ولا آمن على نفسي التغير!.

وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث يا علي لا تؤخرهن: الصلاة إذا أتت. والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفؤا).

ولهذا الحديث قصة أخرجها ابن دريد والعسكري: أن معاوية قال يوما وعنده الأحنف بن قيس: ما يعدل الأناة شيء، فقال الأحنف: إلا في ثلاث: تبادر بالعمل الصالح أجلك، وتعجل إخراج نعيك، وتنكح كفء أيمك. فقال رجل: إنا لا نفتقر في ذلك إلى الأحنف قال: لم؟ قال: لأنه عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث.

وذكر الغزالي عن حاتم الأصم قال: العجلة من الشيطان إلا في خمسة، فإنها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إطعام الطعام، وتجهيز الميت، وتزويج البكر، وقضاء الدين، والتوبة من الذنب).

وقيل لأبي العيناء: لا تعجل، فالعجلة من الشيطان! فقال: لو كان كذلك لما قال موسى: (وعجلت إليك رب لترضى).

الثاني: أن يكون مع عدم التثبت والتحري والتبين. أما بعد أن يتبين ويتثبت ويقدم ما يلزم تقديمه قبل العمل من الدراسة والاستخارة والاستشارة، فلا وجه للتريث والإحجام عند ذلك، فقد تنقلب فضيلة الأناة حينئذ إلى رذيلة التواني والتباطؤ. وكل شيء زاد عن حده انعكس إلى ضده، ولهذا قيل: لا تعجل عجلة الأخرق، ولا تحجم إحجام الفرق! وقال الشاعر:

إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا

وفي القرآن الكريم (وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين) ( آل عمران:159).

الثالث: ألا يخاف الإنسان فوت مطلوبه. فإذا كان هناك أمر موقوت بزمن محدود، فلا ينبغي له أن يبالغ في التأني والتثبت، حتى يمضي الزمن المقدر، وتفوته الفرصة المواتية، ثم يعض بعد ذلك بنان الندم حيث لا ينفع الندم، وفي ذلك يقول الراجز:

وانتهز الفرصة إن الفرصة تصير -إن لم تنتهزها- غصة.

وبالله التوفيق.