السؤال: كان الاعتقاد السائد والمستقر في نفسي من عهد الصبا. مما سمعته وتلقنته، ومما قرأته بعد ذلك وطالعته، أن عذاب النار أبدي بالنسبة للكفار الذين ماتوا على كفرهم مصرين، وأن النار لا تفنى أبدا، شأنها شأن الجنة ونعيمها.

ولكني قرأت في بعض الكتب أخيرًا كلمات مقتضبة: أن لشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم رأيًا آخر خالفا فيه جمهور أهل السنة، أو جمهور المسلمين عامة، وهو الذي يقول بأن النار ليست أبدية، وأنها ستفنى يومًا بمشيئة الله تعالى وأمره، وأنها سيأتي عليها زمن لا يكون فيها أحد.

فهل هذا القول المنسوب إلى الشيخين صحيح؟ أو هو من اتهامات خصومهما لهما وتشنيعهم عليهما؟

أرجو بيان ذلك من خلال ما كتباه في كتبهما؛ لا من نقل الآخرين عنهما والله يحفظكم ويجزيكم خيرا.

ت. د. غ

جواب فضيلة الشيخ القرضاوي:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله، وبعد:

فإن الرأي الذي يسأل عنه الأخ الكريم قد نسب إلى الإمامين: ابن تيمية وابن القيم، وقد قرأت ذلك في بعض الكتب، كما قرأه السائل، ولكني مع طول ما قرأت لابن تيمية - لم أعثر عليه في كتبه ورسائله الكثيرة، وقد طبعت المملكة العربية السعودية منها بعض الكتب الكبيرة مثل:" منهاج السنة" ومثل " درء تعارض العقل والنقل"

كما طبعت الرسائل والفتاوى في سبعة وثلاثين مجلدًا، بفهارسها، ولم أجد في شئ منها هذا الرأي لابن تيمية. بل وجدته لتلميذه ابن القيم، ولا أدري سبب الخطأ في نسبته إلى شيخ الإسلام، ولعلهم ظنوا أن ابن القيم لا يقول رأيًا مستقلاً من عند نفسه، إنما آراؤه تأييد وتأكيد لآراء شيخه في الغالب. وربما فصلها وشرحها ودلل عليها أكثر من شيخه، ولكن الواقع أن هذا الرأي إنما هو رأي ابن القيم رحمه الله، وها أنا أنقل خلاصة له هنا من نصوص كتبه، لنتبين موقفه من هذه القضية..

خلاصة ما ذكره ابن القيم في المسألة:

تعرض ابن القيم لمسألة دوام النار وأبديتها في كتابين له:

1 ـ حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح من ص 254 إلى ص 280.

2 ـ شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة التعليل من ص 252 إلى ص 264.

وزبدة ما ذكره في كتابيه يتلخص فيما يلي:

أولاً: ذكر في أبدية النار أو فنائها سبعة أقوال، أفاض القول في سابعها وهو: أن للنار أمدًا تنتهي إليه، ثم يفنيها ربها وخالقها تبارك وتعالى. وقد أيد هذا القول بوجوه عديدة - على لسان أصحابه - منها:

1 ـ أن الله تعالى أخبر في ثلاث آيات عن النار بما يدل على عدم أبديتها:

أ ـ آية سورة النبأ: (لابثين فيها أحقابًا)  (الآية: 23). فتقييد لبثهم فيها بالأحقاب يدل على مدة مقدرة يحصرها العدد، لأن ما لا نهاية له لا يقال فيه: هو باق أحقابًا، وقد فهم ذلك من الآية الصحابة - وهم أفهم الأمة لمعاني القرآن - كما سنذكر بعد.

ب ـ آية سورة الأنعام: (قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم)  (الآية: 128).

جـ ـ آية سورة هود: (خالدين فيها مادامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد)   (الآية: 107).. وقال بعدها في الجنة وأهلها: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ)   (الآية: 108). ولولا الأدلة القطعية الدالة على أبدية الجنة ودوامها، لكان حكم الاستثناء ين في الموضعين واحدًا. كيف؟ وفي الآيتين من السياق ما يفرق بين الاستثناء ين فإنه قال تعالى في أهل النار: (إن ربك فعال لما يريد) فعلمنا أنه تعالى يريد أن يفعل فعلاً لم يخبرنا به، وقال في أهل الجنة: (عطاء غير مجذوذ) فعلمنا أن هذا العطاء والنعيم غير مقطوع عنهم أبدًا - وسنذكر ما قاله الصحابة في الاستثناء.

2 ـ هذا القول منقول عن عدد من الصحابة والتابعين وجلة الأئمة:

فمن الصحابة:

عمر رضي الله عنه قال: "لو لبث أهل النار في النار عدد رمل " عالج " لكان لهم يوم يخرجون فيه".

وابن مسعود رضي الله عنه قال: "ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابًا".

وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه روي عنه نحوه.

وأبو هريرة قال: "أما الذي أقول: إنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد وقرأ: (فأما الذين شقوا..) الآيتين.

وأبو سعيد الخدري قال في آية: (إلا ما شاء ربك): "أتت على كل آية في القرآن، أي آية وعيد".

وابن عباس - في رواية عنه - قال في الآية: (إلا ما شاء ربك): "استثنى الله قال: أمر الله النار أن تأكلهم".

ومن التابعين وأئمة السلف:

الشعبي قال: "جهنم أسرع الدارين عمرانا، وأسرعهما خرابًا".

وأبو مجلز قال عن النار: "جزاؤه، فإن شاء الله تجاوز عن عذابه".

وإسحاق بن راهويه - وقد سئل عن آية هود - قال: "أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن".

3 ـ دل العقل والنقل والفطرة على أن الرب تعالى حكيم رحيم:

والحكمة والرحمة تأبيان بقاء هذه النفوس في العذاب أبد الآباد، وقد دلت النصوص والاعتبار على أن ما شرعه الله وقدره من العذاب والعقوبات في الدنيا، إنما هو لتهذيب النفوس وتصفيتها من الشر الذي فيها، ولحصول مصلحة الزجر والاتعاظ، وقطع النفوس عن المعاودة - وغير ذلك من الحكم - وفي القرآن والسنة ما يدلنا على أن جنس الآلام إنما هو لمصلحة الإنسان (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ)  (التوبة: 120). الخ، (وليمحص الله الذين آمنوا)  (آل عمران: 141).إلخ

ورب الدنيا والآخرة واحد، وحكمته ورحمته موجودة في الدارين، بل رحمته في الآخرة أعظم، فقد ورد في الصحيح: أن رحمته في الدنيا جزء من مائة جزء من رحمته في الآخرة، فإذا كان العذاب في هذه الدار رحمة بأهله ولطفا بهم ومصلحة لهم، فكيف في الدار التي تظهر فيها مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض.

وليس لله غرض في العذاب كما قال تعالى: (ما يفعل بعذابكم إن شكرتم وآمنتم)  (النساء: 147). كما أنه لا يفعله سدي، وإذن فلا بد من حكمة ومصلحة تعود على عباده، وهي إما مصلحة أحبائه وأوليائه بتمام نعيمهم وبهجتهم بما يفعله في أعدائه وأعدائهم، وإما مصلحة الأشقياء ومداواتهم، أو لهذا ولهذا. وعليه، فالتعذيب مقصود لغيره، قصد الوسائل لا قصد الغايات، والمقصود من الوسيلة إذا حصل على الوجه المطلوب زال حكمها. ونعيم أهل الجنة ليس متوقفًا في أصله ولا كماله على استمرار عذاب أهل النار ودوامه، ولو كان أهل الجنة أقسى خلق الله لرقوا لحال أعدائهم بعد طول العذاب. ومصلحة الأشقياء ليست في الدوام واستمرار العذاب، وإن كان في أصل التعذيب مصلحة لهم.

4 ـ أخبر الله تعالى أن رحمته وسعت كل شئ:

وأن رحمته سبقت غضبه، وأنه كتب على نفسه الرحمة، فلا بد أن تسع رحمته هؤلاء المعذبين، فلو بقوا في العذاب إلى غير غاية لم تسعهم رحمته، وهذا ظاهر جدًا، والثابت أن رحمته لا بد أن تنتهي حيث ينتهي العلم كما قالت الملائكة: (ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلمًا). (غافر: 7).

وقد تسمى الله بالغفور الرحيم ولم يتسم بالمعذب ولا بالمعاقب، بل جعل العذاب والعقاب في أفعاله: (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم)  (الحجر: 49، 50). وغيرها من الآيات، فإنه يتمدح بالعفو والمغفرة والرحمة والحلم... إلخ ويتسمى بها، ولم يتمدح بأنه المعاقب ولا الغضبان ولا المنتقم إلا في الحديث الذي فيه تعديد الأسماء الحسنى ولم يثبت.

5 ـ يوضح هذا أن الله لم يخلق الإنسان عبثًا ولم يخلقه ليعذبه:

وإنما خلقه ليرحمه ولكن اكتسب موجب العذاب بعد خلقه له، فتعذيبه ليس هو الغاية، وإنما تعذيبه لحكمة ورحمة، والحكمة والرحمة تأبيان أن يتصل عذابه سرمدًا إلى غير نهاية، أما الرحمة فظاهر، وأما الحكمة فلأنه إنما عذب على أمر طرأ على الفطرة وغيرها، ولم يخلق عليه من أصل الخلقة، لأن الله خلق عباده حنفاء، ولم يخلق له؛ لأنه لم يخلق للإشراك ولا للعذاب. بل خلق للعبادة والرحمة ولكن طرأ عليه موجب العذاب فاستحق العذاب، وذلك الموجب - وهو الكفر - لا دوام له فكيف يكون موجبه دائمًا؟

6 ـ أهل السنة على أنه يجوز تخلف الوعيد:

بل إخلافه كرم وعفو وتجاوز يمدح الرب تعالى به، ويثني عليه به، لأنه حقه، والكريم لا يستوفي حقه فكيف بأكرم الأكرمين؟ واستشهد ابن القيم لذلك بآثار وأشعار. هذا في وعيد مطلق، فكيف بوعيد مقرون باستثناء معقب بقوله: (إن ربك فعال لما يريد)؟ ولهذا قالوا: أتت على كل وعيد في القرآن.

ثانيًا: فند ابن القيم الأدلة التي استند إليها القائلون بدوام النار، وأهمها:

1 ـ الآيات التي دلت على خلود الكفار وتأبيدهم في النار، وقد قال: إن ذكر الخلود والتأبيد لا يقتضي عدم النهاية، والخلود هو المكث الطويل كقولهم: قيد مخلد والتأبيد في كل شئ بحسبه، فقد يكون لمدة الحياة، ولمدة الدنيا. وقد ورد النص بالخلود على بعض الكبائر من الموحدين وقيد في بعضها بالتأبيد، كما في قاتل المؤمن عمدًا: (فجزاؤه جهنم خالدًا فيها)  (النساء: 93). وكما في قاتل نفسه: "فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا".

2 ـ الآيات التي دلت على عدم خروجهم منها: (وما هم بخارجين من النار)  (البقرة 167). (وما هم منها بمخرجين)  (الحجر: 48)، (لا يقضى عليهم فيموتوا)  (فاطر: 36).إلى آخر تلك الآيات قال: فطائفة قالت: إن إطلاقها مقيد بآيات التقييد بالاستثناء بالمشيئة، فيكون من باب تخصيص العموم وكأن هذا قول من قال من السلف في آية هود: أتت على كل وعيد في القرآن.

والذي صححه ابن القيم أن هذه الآيات على عمومها وإطلاقها، فهم باقون فيها لا يخرجون منها ما دامت باقية، ولكن ليس فيها ما يدل على أن نفس النار دائمة بدوام الله لا انتهاء لها، وفرق بين أن يكون عذاب أهلها دائمًا بدوامها، وبين أن تكون هي أبدية لا انقطاع لها، فلا تستحيل ولا تضمحل.

3 ـ الإجماع، قال ابن القيم: وإنما يظن الإجماع في المسألة من لم يعرف النزاع، وقد عرف النزاع فيها قديمًا وحديثًا، كيف وقد نقل عن الصحابة والتابعين التصريح بخلاف ما يدعون؟

ثالثًا: بعد هذا كله مال ابن القيم إلى التفويض في المسألة إلى مشيئة الله فلا جزم بفناء النار، كما لا جزم بدوامها. قال في شفاء العليل: وأنا في هذه المسألة على قول أمير المؤمنين على؛ فإنه ذكر دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ووصف ذلك أحسن صفة ثم قال: ويفعل الله بعد ذلك في خلقه ما يشاء، وعلى مذهب ابن عباس حيث يقول: لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا نارا. ذكره في تفسير قوله تعالى: (قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله)..

وعلى مذهب أبي سعيد الخدري حيث يقول: انتهى القرآن كله إلى هذه الآية: (إن ربك فعال لما يريد)، وعلى مذهب قتادة حيث يقول: (إلا ما شاء ربك): الله أعلم اثنياه: علام وقعت؟، وعلى مذهب ابن زيد حيث يقول: أخبرنا الله بالذي يشاء لأهل الجنة فقال: (عطاء غير مجذوذ) ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار.

والقول بأن النار وعذابها دائمان بدوام الله خبر عن الله بما يفعله، فإن لم يكن مطابقًا لخبره عن نفسه بذلك كان قولاً عليه بغير علم، والنصوص لا تفهم ذلك، والله أعلم.