السؤال: نحب أن نستوضح رأيكم في موضوع اختلفنا عليه ما بين مؤيد ومعارض، وذلك هو موضوع "الماسونية"، فمن قائل: إنها دعوة استعمارية يهودية صهيونية، ومن قائل: إنها دعوة إنسانية، تدعو إلى الحرية والإخاء والمساواة. فهل عندكم ما يلقى الضوء على خبايا هذه الفكرة أو الجمعية؟ وهل هناك حرج شرعًا من الانضمام إليها، والانتظام في عقد أنصارها وأعضائها؟

جواب فضيلة الشيخ:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اتبعه إلى يوم الدين، وبعد..

لا أجدني مضطرًا إلى أن أكشف عن خبايا هذه الفكرة أو الجمعية، وحقيقة نواياها، وما تنطوي عليه من أسرار، وبحسبي أن أضع أمام الأخوين السائلين هذه الحقائق التي لا ريب فيها، ولا خلاف عليها:

أولاً: المسلم إنسان واضح، لا يستخفي في السراديب كاللصوص، ولا يهوى الظلام كالخفافيش، وإنما يحب النور، ويعيش في نور. فهو كما وصفه القرآن {عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (الزمر:22)؛ فهو لهذا لا يقبل دعوة بغير بينة ولا بصيرة ولا برهان؛ لأنه يقدر ذاته، ويحترم عقله الذي وهبه الله. ومن هنا خاطب الله رسوله بقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف:108).

فلا ينبغي إذن للمسلم أن ينتظم في دعوة ليس على بينة من مقاصدها وأهدافها، فربما كانت هذه المقاصد منافية لدينه، أو محظورة في شريعته، كتقديم أعضاء الجمعية على غيرهم، وإن لم يكونوا أهلا، ونحو ذلك.

ثانياً: ليس هناك أدنى حاجة للمسلم إلى الانضمام لجمعية يلابسها الغموض من كل جانب، وتحيط بها الريب والشبهات من هنا وهناك. وقد وضع رسولنا صلى الله عليه وسلم أمام كل مسلم قاعدة للسلوك المأمون حين قال: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، "من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه". وما دام في استطاعة المسلم أن يدع الأمر المختلف فيه إلى أمر متفق عليه، وأن يذر المشكوك فيه إلى المتيقن، بدون حرج له في دينه، أو تضييق عليه في دنياه، فلا ينبغي أن يعدل عن ذلك.

ثالثاً: إن كانت هذه الجمعية تدعو إلى مبادئ الإنسانية. والأخوة العالمية، كما يقال، فلسنا -نحن المسلمين- في حاجة إلى جمعية أجنبية الأصول والمنابع، تدعونا إلى الإخاء والمساواة والحرية. أو تعلمنا المحبة والتسامح. فنحن أساتذة الدنيا في هذه المعاني ونحن دعاتها ومعلموها للناس.

وإن كانت تدعو إلى شئ آخر تكنه صدور زعمائها ومؤسسيها، ولا يطلع عليه إلا خاصة الخاصة، فلسنا نقبل أن نقاد كما تقاد الأنعام، لا تدري أهي ذاهبة إلى المرعى أم إلى القصاب.

والخلاصة: إن كان في هذه الفكرة ما في الإسلام، فقد أغنانا الله بالإسلام، وإن كان فيها ما يخالف الإسلام ، فلا نرضى أن نبيع ديننا بملك المشرق والمغرب.

رابعاً: إن هذه الجمعية غريبة عنا، دخيلة علينا، لم تنبت في أرضنا، ولم تنشئها أيدينا، ولم تصنعها أفكارنا، فقد أنشأها قوم غير قومنا، في دار غير دارنا، أعني أننا -نحن العرب والمسلمين-لم ننشئها، بل أنشأها قوم آخرون من اليهود أو النصارى في بلاد الغرب، لأهدافهم ومآربهم الخاصة بهم .

وقد عرفنا من كتاب ربنا، وأيده منطق التاريخ والواقع، أن هؤلاء القوم يجهدون كل الجهد، لتحويلنا عن طبيعتنا وقبلتنا وعقيدتنا" (انظر في ذلك: "بروتوكلات حكماء صهيون" و "الغارة على العالم الإسلامي" و "التبشير والاستعمار في البلاد العربية والإسلامية" وغيرها)، ولن يرضوا بغير هذا بديلا، وصدق الله العظيم: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (البقرة:120).

خامساً: كل من يدخل هذه الجمعية يلتزم بالسمع والطاعة لأوامرها، مهما تكن طبيعتها، وتنفيذ قراراتها بدون قيد ولا شرط. ومعنى هذا: أن أوامرها فوق أوامر الله جل شأنه وأن قراراتها فوق كل سلطة حتى سلطة الشرع نفسه .

ومن المعلوم من الإسلام بيقين أن مثل هذا الالتزام المطلق أو الأعمى لا يجوز لمسلم، لأنه ضرب من الشرك والتعبد لغير الله. فالذي له الطاعة المطلقة والخضوع المطلق هو الخالق جل وعلا أما من عدا ذلك فطاعته مقيدة بالمعروف، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. حتى الإمام المسئول أو الدولة ذات السلطة الشرعية، التي يجب لها الطاعة والولاء لا يجوز الالتزام بطاعتها في المعصية، كما في الحديث الصحيح: "فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة". وإذن يكون مجرد الالتزام بالطاعة المطلقة لقادة هذه الجمعية السريين حرامًا بينًا، سواء أمروه بمعصية بالفعل أم لا.

سادساً: إن هذه الجمعية تقوم على أساس "علماني". وهذا ما لا ينكره دعاتها. ومعنى "العلمانية": أنهم يؤمنون بعزل الدين عن الدولة، أو فصل الدولة عن الدين. بحيث يكون التشريع لممثلي الشعب وليس لله، وهذه الفكرة قد تقبل في "المسيحية" التي ليس فيها تشريع محدد ملزم، والذي أجاز فيها المسيح لأتباعه أن يدعوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله. أما الإسلام فلا يجيز لأحد أن يدعي حق التشريع لنفسه، فيحل ما حرم الله، أو يحرم ما أحل الله. وإنما يجيز للناس أن يجتهدوا لأنفسهم في ضوء ما شرع الله تعالى. أما الحكم بغير ما أنزل الله فهو ظلم أو كفر أو فسوق، بنص القرآن.

سابعاً: تعمل هذه الجمعية على تحطيم الرابطة الدينية أو-على الأقل- توهين عراها، وتحطيم قواها. فإذا كان الإسلام يشيد بأخوة المسلم للمسلم، ويجعلها من الإيمان {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات:10)، ويجعل رابطة العقيدة فوق رابطة الدم والنسب إذا تعارضتا كما في قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (المجادلة:22)، فإن هذه الجمعية تجعل رابطتها فوق الأديان والقوميات وكل ما يربط الناس بعضهم ببعض.

وبهذه النقاط كلها يتضح لنا أن أي مسلم يعتز بدينه، ويحترم نفسه، ويحرص على إرضاء ربه، لا يجوز له بحال أن يتورط في دخول هذه المتاهات التي إن عرف أولها فلن يعرف آخرها.

أما خبايا هذه الدعوة فقد كتب فيها كتب شتى. لعل من أهمها ما كتبه الجنرال التركي "رفعت أتلخان" وقد نقل إلى العربية من مؤلفاته كتاب "أسرار الماسونية" وفيه -بالوثائق والأرقام من مصادرهم اليقينية- ما يكفي ويشفي، والله أعلم.