د. يوسف القرضاوي

السفر والتنقل جزء من حياة الإنسان، قلما يستغنى عنه الناس في بدو أو حضر. وللإنسان من وراء السفر حاجات وأغراض دينية ودنيوية، فردية، واجتماعية. فهو يسافر لطلب العلم، ولطلب الرزق، ولطلب الأمن، ولطلب الشفاء، ولطلب الثواب بالحج أو العمرة، أو الجهاد، كما يسافر لأغراض علمية واجتماعية مثل زيارة الأقارب والأصدقاء، أو التعرف على معالم البلدان الأخرى، والمشاركة في ندوات أو مؤتمرات، وقد يكون السفر لمجرد ترويح النفس بعد عناء العمل الطويل، وكل هذا مشروع، ولا حرج فيه.

لهذا عني الإسلام بالسفر وجعل له أحكامًا، تقوم على التيسير والتخفيف عن المسافر وتضع له رخصًا وأحكاما شتى، في الطهارة والصلاة والصيام والزكاة، فإن مصرف" ابن السبيل" للمسافر المنقطع عن وطنه وماله، وإن كان غنيًا في بلده.

شرعية الفطر للمسافر

ومن الرخص التي شرعها الإسلام للمسافر: رخصة الفطر في الصيام، وهي ثابتة بالقرآن والسنة والإجماع، ففي القرآن: قال الله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة:185).

وقد أعاد الله تعالى في هذه الآية ما ذكره في الآية السابقة، التي كانت تمثل مرحلة في التشريع ثم نسخت: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين}. وذلك ليؤكد بقاء هذا الحكم، وأنه لم ينسخ كما نسخ حكم التخيير بين الصوم والفطر مع الفدية. أكد القرآن أن المريض والمسافر يفطران ويقضيان عدة من أيام أخر، بعدد الأيام التي أفطراها. وجاءت السنة فأكدت هذا الحكم قولاً وعملاً وتقريرًا.

ففي الصحيحين: عن عائشة أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأصوم في السفر؟ -وكان كثير الصيام- فقال: " إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر" (متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان -684) ، وفي رواية لمسلم: أنه قال: يا رسول الله، أجد مني قوة على الصوم في السفر فهل علي جناح؟ فقال: "هي رخصة من الله تعالى، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" (الحديث -1121 عن صحيح مسلم- كتاب الصوم). وهو قوي الدلالة على فضيلة الفطر

وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد، أفطر، فأفطر الناس (متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان-680) . وعن أبي الدرداء: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، في يوم حار، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم، إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم، وابن رواحة (متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان-685) .

وعن أنس بن مالك: كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر. ولا المفطر على الصائم (متفق عليه، المصدر السابق-682). إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة، وسيأتي بعضها في مناسبته. وأجمعت الأمة بكل مذاهبها على شرعية الفطر للمسافر، حتى ذكر الإمام ابن تيمية: أن من أنكر الفطر للمسافر يستتاب، وإلا حكم عليه بالردة.

وقد ذهب بعض الصحابة والتابعين إلى وجوب الإفطار في السفر، وأن من صام لا يجزئه الصيام، وعليه القضاء، وهو مذهب الظاهرية، واستدلوا بظاهر قوله تعالى: (فعدة من أيام أخر) فدل على أن قضاء أيام أخر واجب عليه لا محالة، والجمهور تأولوه بأن المراد: فأفطر فعليه عدة من أيام أخر. والسنة القولية والعملية والتقريرية تدل عليه، وفيما ذكرناه من الأحاديث ما يكفي. (واستدلوا أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم في شأن بعض الصحابة الذين صاموا في السفر: "أولئك العصاة". وأجاب الجمهور بأنه إنما نسبهم إلى العصيان لأنه عزم عليهم وشدد فخالفوا. واستدلوا كذلك بحديث: "ليس من البر الصوم في السفر".

وأجاب الجمهور بأنه قال ذلك في حق من شق عليه الصوم، حتى كانوا يظللون عليه وإذا قيل: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فقد قال الإمام ابن دقيق العيد: ينبغي أن يتنبه للفرق بين دلالة السبب والسياق والقرائن على تخصيص العام وعلى مراد المتكلم، وبين مجرد ورود العام على سبب، فإن بين المقامين فرقًا واضحًا، ومن أجراهما مجرى واحدًا لم يصب، فإن مجرد ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به، كنزول آية السرقة في قصة رداء صفوان (نيل الأوطار 4 / 305 – 307). وانظر: الإحكام شرح عمدة الأحكام) .

السفر بالوسائل العصرية لا يسقط الرخص الشرعية:

والسفر بالقطارات والسفن البخارية، والطائرات ونحوها من الوسائل المريحة في عصرنا لا يسقط الرخصة التي جاء بها الشرع، فهي صدقة تصدق الله بها علينا فلا يليق بنا أن نرفضها . وقد تفلسف بعض الناس، البعيدين عن الفقه، وزعموا أن السفر الآن، غير السفر في الماضي، فلم يعد سيرًا على الأقدام، ولا ركوبًا للجمال، ولا قطعًا للفيافي، فلا مبرر للرخص المرتبة على هذا النوع من السفر. ونسي هؤلاء أن الأحكام الثابتة - وخصوصًا في أمور العبادات- لا تبطل بالرأي المجرد.

وقد ربطت نصوص الشرع رخصة الإفطار- كغيرها- بأمر ظاهر منضبط، وهو السفر ولم تربطه بالمشقة، لأنها غير ظاهرة ولا منضبطة. على أن السفر-أيا كانت وسيلته- لا يخلو من نوع مشقة، والإنسان إذا لم يكن في داره ومحل إقامته واستقراره، لا يخلو من قلق ومعاناة.

وللسفر في عصرنا متاعب أخرى- عصبية ونفسية- يعرفها الذين يعانون الأسفار، فليست المشقة البدنية هي كل شيء. وفي فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: (يجوز الفطر للمسافر باتفاق الأمة، سواء كان قادرًا على الصيام، أو عاجزًا، وسواء شق عليه الصيام أو لم يشق، بحيث لو كان مسافرًا، في الظل والماء ومعه من يخدمه، جاز له الفطر والقصر) (مجموع فتاوى ابن تيميه (25/210) .

مسافة السفر ومتى يفطر المسافر؟

اختلف الفقهاء في مقدار السفر الذي يوجب الرخص للمسلم المسافر، ومنها: الفطر في الصيام، ومتى يفطر: من مجاوزة عمران البلد، أم من منزل المسافر نفسه؟ وهل يفطر وإن كان قد نوى الصيام وسافر بعد الفجر؟.

والمشهور في فقه المذاهب الآن أن مسافة السفر نحو (80، أو 90) كيلو مترًا. وأنه لا يفطر حتى يجاوز مساكن البلدة. ولكن ابن القيم يقول في (زاد المعاد): (ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تقدير المسافة التي يفطر فيها الصائم بحد، ولا صح عنه في ذلك شيء، وقد أفطر دحية بن خليفة الكلبي في سفر ثلاثة أميال، وقال لمن صام: قد رغبوا عن هدى محمد صلى الله عليه وسلم. (أخرجه أبو داود (2413) وفي سنده منصور بن سعيد الكلبي راويه عن دحية وهو مجهول) .

وكان الصحابة حين ينشئون السفر، يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت، ويخبرون أن ذلك سنته وهديه صلى الله عليه وسلم، كما قال عبيد بن جبر: ركبت مع أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان، فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة. قال: اقترب. قلت: ألست ترى البيوت ؟ قال أبو بصرة :أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ رواه أبو داود وأحمد (أخرجه أبو داود (2412) في الصوم: باب متى يفطر المسافر إذا خرج، وأحمد (6 / 398), والبيهقي (346/4) وفي سنده كليب بن ذهل الحضرمي وهو مجهول، وباقي رجاله ثقات، ويشهد له حديث أنس الآتي فيتقوى به) .

ولفظ أحمد: ركبت مع أبي بصرة من الفسطاط إلى الإسكندرية في سفينة، فلما دنونا من مرساها، أمر بسفرته، فقربت ثم دعاني إلى الغذاء، وذلك في رمضان، فقلت: يا أبا بصرة، والله ما تغيبت عنا منازلنا بعد؟ قال: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقلت: لا قال: فكل. قال: فلم نزل مفطرين حتى بلغنا.

وقال محمد بن كعب: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفرًا، وقد رحلت له راحلته وقد لبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟ قال: سنة، ثم ركب (أخرجه الترمذي-799 و 800 في الصوم: باب من أكل ثم خرج يريد سفرًا، والدارقطني -2 / 187، 188 والبيهقي -246/4، وإسناده قوي، وحسنه الترمذي وغير واحد، ويشه له حديث أبي بصرة المتقدم وحديث دحية بن خليفة عند أبي داود وأحمد وقد تقدم أيضًا، وهو حسن في الشواهد). قال الترمذي: حديث حسن) (زاد المعاد، ط. مؤسسة الرسالة (2/55- 56).ا هـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميه في (الفتاوي):

(وأما مقدار السفر الذي يقصر فيه ويفطر، فمذهب مالك والشافعي وأحمد: أنه مسيرة يومين قاصدين بسير الإبل والأقدام، وهو ستة عشر فرسخًا، كما بين مكة وعسفان ومكة وجدة، وقال أبو حنيفة: مسيرة ثلاثة أيام. وقال طائفة من السلف والخلف: بل يقصر ويفطر في أقل من يومين، وهذا قول قوي، فإنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعرفة، ومزدلفة، ومنى، يقصر الصلاة، وخلفه أهل مكة وغيرهم يصلون بصلاته، لم يأمر أحدًا منهم بإتمام الصلاة. وإذا سافر في أثناء يوم، فهل يجوز له الفطر؟ على قولين مشهورين للعلماء، هما روايتان عن أحمد.

أظهرهما: أنه يجوز ذلك، كما ثبت في السنن أن من الصحابة من كان يفطر إذا خرج من يومه، ويذكر أن ذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نوى الصوم في السفر، ثم إنه دعا بماء فأفطر، والناس ينظرون إليه.

وأما اليوم الثاني: فيفطر فيه بلا ريب، وإن كان مقدار سفره يومين في مذهب جمهور الأئمة والأمة. وأما إذا قدم المسافر في أثناء يوم، ففي وجوب الإمساك عليه نزاع مشهور بين العلماء، لكن عليه القضاء سواء أمسك أو لم يمسك.

ويفطر من عادته السفر إذا كان له بلد يأوي إليه، كالتاجر الجلاب الذي يجلب الطعام، وغيره من السلع، وكالمكاري الذي يكري دوابه من الجلاب، وغيرهم، وكالبريد الذي يسافر في مصالح المسلمين، ونحوهم.. وكذلك الملاح الذي له مكان في البر يسكنه. فأما من كان معه في السفينة امرأته، وجميع مصالحه، ولا يزال مسافرًا فهذا لا يقصر ولا يفطر... (فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية -25 / 211 - 213).ا.هـ.

أيهما أفضل للمسافر: الصوم أم الفطر؟

وقد اختلف الجمهور: أي الأمرين أفضل للمسافر: الصوم أم الفطر؟ فمنهم من قال: الصوم أفضل، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي، وهذا لمن قوي عليه ولم يشق عليه. وحجتهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يصوم في السفر، ولا يأخذ لنفسه إلا بما هو الأفضل، ولأن المرء قد يتغافل عن قضائه، فيدركه الأجل ولم تبرأ ذمته، وأخطأ من استدل بقوله تعالى: (وأن تصوموا خير لكم) لأنه وضع للدليل في غير موضعه.

وقال الأوزاعي وأحمد وإسحاق: الفطر أفضل، عملاً بالرخصة، والله يحب أن تؤتى رخصه، ولقوله في بعض الروايات: " عليكم برخصة الله التي رخص لكم" وفي قصة حمزة الأسلمي: "من أفطر فهو حسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" وبين التعبيرين فرق.

وقال عمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة: أفضلهما أيسرهما عليه. وهو قول وجيه، واختاره ابن المنذر. وقال بعض العلماء: هو مخير بين الصوم والفطر، وهما في حقه سواء. ولعل ما يؤيد ذلك ما رواه أبو داود والحاكم، عن حمزة الأسلمي، أنه قال: يا رسول الله، إني صاحب ظهر، أعالجه، أسافر عليه، وأكريه، وربما صادفني هذا - يعني رمضان - وأنا أجد القوة، وأجدني أن أصوم أهون على من أن أؤخره، فيكون دينا فقال: أي ذلك شئت.

تمحيص وترجيح:

والذي أرجحه هو ما قاله الخليفة الرائد عمر بن عبد العزيز: لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما. فمن كان يسهل عليه الصيام. والناس صائمون، ويشق عليه أن يقضي بعد ذلك، حيث يصوم والناس مفطرون، فالصوم في حقه أفضل، ومن شق عليه الصيام الآن كالمسافر في البر، ونحو ذلك، وسهل عليه القضاء، فالفطر له أفضل. ولكن أرى أن هناك اعتبارات ترجح أفضلية الصوم، وأخرى ترجح أفضلية الفطر، ولا بأس أن نوضحها لما للسفر من أهمية في عصرنا.

متى يترجح الصوم؟

أما أفضلية الصوم فتترجح لمن يخاف على نفسه التشاغل عن القضاء، أو الكسل عنه، فالأحوط له أن يصوم، عملاً بالعزيمة، بالنسبة للمسافر المستريح الذي لا يجد عنتًا ولا مشقة في سفره، ككثير من السفر بالطائرة اليوم، التي لا تصادفها متاعب. وكذلك بالنسبة للمقيم في بلد أثناء السفر، وإن اعتبر مسافرًا، ما لم يكن قائما بأعمال تجهده.

وأيضًا السفر المختلف فيه، كأن يكون سفرًا دون المسافة التي قدرها الجمهور، وقدرت بنحو (90 كيلو مترا)، فمن سافر لأقل من ذلك، يحسن به ألا يفطر، ومثله في الغالب لا يطلق عليه اسم (مسافر). ومثل ذلك الذي حرفته السفر، أو تقتضي السفر باستمرار، كالطيار، ومضيف الطائرة، وربان الباخرة (السفينة) وملاحيها، وسائق سيارة الأجرة، (التاكسي) فهؤلاء وإن جاز لهم الفطر، بوصفهم مسافرين، يفضل لهم أن يصوموا إذا لم يشق عليهم، فربما لا يتيسر لهم أن يصوموا.

متى يكون الفطر في السفر أفضل؟

هناك اعتبارات ترجح أفضلية الفطر للمسافر، منها:

1- أن يكون في الصوم مشقة شديدة، وذلك مثل الذي يسافر عن طريق البر في الصيف ويتعرض للفح الهجير، وكذلك المسافر الذي يركب الطائرة مسافرًا من الشرق إلى الغرب، فيطول عليه اليوم كثيرًا جدًا لاختلاف التوقيت وطول اليوم هناك. فالصوم في هذه الحالة يكره، وربما حرم إذا زادت المشقة إلى حد يضر بالصائم.

وفي هذا جاء الحديث الصحيح الذي رواه جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى زحامًا، ورجلاً قد ظلل عليه، فقال: " ما هذا ؟ فقالوا: صائم! فقال: " ليس من البر الصوم في السفر" (متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان-681) .

ولفظ الحديث إذا أخذ على عمومه يفيد نفي البر عن الصوم في أي سفر، وهو يعني أن فيه إثمًا، ولكن سبب الحديث وسياقه، وجملة الأحاديث الأخرى في الموضوع تدل على أن المراد هو هذا النوع من السفر الذي يشق فيه الصيام مشقة بالغة فليس من البر الصوم في مثله.

2- أن يكون المسافر في جماعة تحتاج إلى خدمات ومساعدات بدنية واجتماعية، يعوق الصوم كليًا أو جزئيًا عن القيام بها، فيستأثر بها المفطرون، ويحرم من مثوبتها الصائمون. فالأولى هنا الفطر للمسافر ليشارك إخوانه في الخدمة، ولا يكون عبئًا أو عالة عليهم.

وروى الشيخان واللفظ لمسلم عن أنس قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمنا الصائم، ومنا المفطر، فنزلنا منزلاً في يوم حار، أكثرنا ظلاً صاحب الكساء (يعني الذي يستظل بكسائه) ومنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصُوَّم، وقام المفطرون، فضربوا الأبنية (أي نصبوا الخيام) وسقوا الركاب. وفي رواية: وأما الذين صاموا فلم يعملوا شيئًا، وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب، وامتهنوا وعالجوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ذهب المفطرون اليوم بالأجر" (متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان-683) .

وإنما ذهبوا بالأجر وحدهم، لأنهم هم الذين قاموا بخدمة إخوانهم لنشاطهم وقوتهم، فبعثوا الركاب، أي إبل الركوب التي حملتهم، فأرسلوها إلى الماء للسقي ونحوه، ومعنى (امتهنوا وعالجوا): أي استخدموا أنفسهم في المهنة والخدمة من التنظيف والطهي ومعالجة ما يحتاجون إليه من الزاد والشراب، ويحتاج إليه دوابهم من العلف والماء.

3- أن يكون في الإفطار تعليم للسنة، وتعريف بالرخصة، كأن ينتشر بين بعض الناس: أن الفطر في السفر لا يجوز، أو لا يليق بأهل الدين، وينكرون على من أفطر في السفر، فيكون الإفطار حينئذ أفضل، وخصوصًا ممن يقتدى به ويؤخذ عنه من أهل العلم والصلاح. بل يتعين هنا الإفطار، قال ابن كثير: (إن رغب عن السنة، ورأى أن الفطر مكروه إليه، فهذا يتعين عليه الإفطار، ويحرم عليه الصيام، والحالة هذه، كما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره عن ابن عمر وجابر وغيرهما: " من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة" (تفسير ابن كثير -1 / 217).ا.هـ.

وأيضًا لحديث: "من رغب عن سنتي فليس مني" (رواه البخاري عن أنس) ، ذلك أن من الواجب أن تظل مراتب الأعمال وأحكامها الشرعية محفوظة بأوضاعها ودرجاتها، كما جاء بها الشرع، فيظل الفرض فرضًا، والمندوب مندوبًا والعزيمة عزيمة، والرخصة رخصة.

ولا يجوز أن يعتقد الناس المندوب فرضًا أو العكس، كما لا يجوز أن يعتبروا الرخصة ممنوعة، أو واجبة، وإذا حدث شيء منها، فعلى أهل العلم أن يعالجوه بالعلم والعمل، والمراد بالعلم: البيان والبلاغ بالقول مشافهة أو كتابة، وبالعمل: أن يدع العالم المقتدي به النافلة في بعض الأحيان، حتى لا تعتقد فريضة وأن يحرص على الأخذ بالرخصة حتى لا يهملها الناس فتموت.

4-  أن يكون في رفقة أخذوا بالرخصة جميعًا، وأفطروا، ويسوءهم أن ينفرد بالصيام دونهم، فلا يحسن به أن يصوم وحده، لما في ذلك من الشذوذ عن الجماعة من ناحية، ولما في ذلك من خشية دخول الرياء على نفس الصائم، أو اتهامه به من ناحية أخرى. ويتأكد ذلك إذا كانوا مشتركين في النفقة، ومن عادتهم أن يتناولوا وجباتهم مجتمعين، ويشق عليهم انفراد بعضهم بالأكل فطورًا وسحورًا. وفي الحديث: " يد الله مع الجماعة".

5- أن يكون الأمير قد أمر بالإفطار، رفقًا بهم، ورعاية لحالهم، فيستحب أن يطاع في ذلك، لتظهر الجماعة في صورة أسرة واحدة، موحدة المظهر والمخبر، فإذا شدد في ضرورة الإفطار، وألزم به، وجبت طاعته في ذلك، وحرمت مخالفته، واعتبر ذلك معصية.

وفي ذلك جاء حديث جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء، فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب... فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام! فقال: " أولئك العصاة، أولئك العصاة".

وفي رواية: فقيل له: إن بعض الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء (رواه مسلم في الصيام -2 / 785)... الخ. ويبدو من الروايات أنه أمرهم أولاً بالإفطار، فلم يسارعوا إليه أخذا بالعزيمة فدعا بالقدح وشرب، ليكون لهم أسوة، فاجتمع الفعل والقول معًا، فلهذا سمي من تخلف عن الإفطار بعد ذلك: (العصاة) .

6- أن يكون المسافر في حالة جهاد ومواجهة ساخنة مع العدو، وقد حمي الوطيس والتهبت المعركة، والفطر أقوى للمجاهدين، وأعون لهم، على ملاقاة العدو، ومصابرته، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا، بل قد يتعين الفطر هنا إذا كان الصوم يضعف المجاهدين، أو يقلل من قدرتهم. فإذا أمر القائد بالإفطار كان الفطر عزيمة، وكان الصيام مظنة الإثم.

روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام قال: فنزلنا منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم". وكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر. ثم نزلنا منزلاً آخر، فقال: " إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا " وكانت عزمة، فأفطرنا، ثم رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر (صحيح مسلم في الصوم -789/2، الحديث-1120) .

هل يجوز الفطر في الجهاد من غير سفر؟

وهنا تُعَنَّ مسألة، وهي حالة الجهاد من غير سفر، كما إذا حاصر العدو بلدًا مسلما فأهله يقاتلون ويقاومون وهم في عقر دارهم، فهل لهم أن يفطروا إذا كان في الفطر قوة لهم على عدوهم؟ عرض لذلك المحقق ابن القيم في (الهدي النبوي)، وذكر في ذلك قولين للعلماء، أصحهما دليلاً: أن لهم ذلك، وهو اختيار ابن تيمية، وبه أفتى العساكر الإسلامية لما لقوا العدو بظاهر دمشق، ولا ريب أن الفطر لذلك أولى من الفطر لمجرد السفر، بل إباحة الفطر للمسافر تنبيه على إباحته في هذه الحالة، فإنها أحق بجوازه، لأن القوة هناك تختص بالمسافر، والقوة هنا له وللمسلمين.. ولأن مشقة الجهاد أعظم من مشقة السفر، ولأن المصلحة الحاصلة بالفطر للمجاهد أعظم من المصلحة بفطر المسافر ولأن الله تعالى قال: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} [الأنفال: 60] والفطر عند اللقاء، من أعظم أسباب القوة.

والنبي صلى الله عليه وسلم قد فسر القوة بالرمي (روى مسلم (1917) عن عقبة بن عامر الجهني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول:" {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي"). وهو لا يتم ولا يحصل به مقصوده إلا بما يقوي ويعين عليه من الفطر والغذاء، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة لما دنوا من عدوهم: "إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم" وكانت رخصة ثم نزلوا منزلاً آخر فقال: "إنكم مصبحو عدوكم، والفطر أقوى لكم فأفطروا" فكانت عزمة (فأفطرنا) (رواه مسلم -1120 في الصيام: باب أجر المفطر في السفر إذا تولى العمل وأبو داود -2406 في الصوم: باب الصوم في السفر من حديث أبي سعيد الخدري). فعلل بدنوهم من عدوهم واحتياجهم إلى القوة التي يلقون بها العدو، وهذا سبب آخر غير السفر، والسفر مستقل بنفسه ولم يذكره في تعليله ولا أشار إليه، فالتعليل به اعتبار لما ألغاه الشارع في هذا الفطر الخاص، وإلغاء وصف القوة التي يقاوم بها العدو، واعتبار السفر المجرد إلغاء لما اعتبره الشارع وعلل به.

وبالجملة: فتنبيه الشارع وحكمته، يقتضي أن الفطر لأجل الجهاد أولى منه لمجرد السفر، فكيف وقد أشار إلى العلة، ونبه عليها، وصرح بحكمها، وعزم عليهم بأن يفطروا لأجلها، ويدل عليه، ما رواه عيسى بن يونس، عن شعبة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم فتح مكة: "إنه يوم قتال فأفطروا" (رجاله ثقات، كما قال محقق الزاد). تابعه سعيد بن الربيع، عن شعبة. علل بالقتال، ورتب عليه الأمر بالفطر بحرف الفاء، وكل أحد يفهم من هذا اللفظ أن الفطر لأجل القتال ا.هـ (زاد المعاد (2/53-54) ط. الرسالة، بيروت) .

.......................

* من كتاب "فقه الصيام" لفضيلة العلامة.