السؤال: في ذاتِ يوم ملتُ بخاصرتي على مرآة سيارة عاكسة جهة اليسار؛ فأصاب المرآة بعض الضرر، ولكني لم أبالِ، وذهبتُ عنها، ولكني في منتصف الطريق صحا ضميري، واستعذتُ بالله من الشيطان الرجيم، بعد أن رأيتُ أني ارتكبتُ ذنبًا، فعدتُ من فوري لأراجع صاحب السيارة وأعوِّضه عن قيمة التلف الذي أصاب مرآة سيارته، ولكن للأسف لم أجده ولم أجد سيارته، فقد غادر المكان، ومنذ ذلك الحين وأنا متألم في داخل نفسي، وكلما تصدقتُ قلتُ: اللهم ضع أجر هذه الصدقة في ميزان حسنات الرجل الذي أصبت مرآة سيارته يوم القيامة، حتى توفيه حقه مني، فإذا تصدقتُ بما يعادل قيمة التلف حسب ظني؛ فهل يعاقبني الله أم يقبل مني ذلك ويعفو عني؟ وهل هذا التصدق يجزئ عن ذنبي مع استغفاري وندمي؟

جواب فضيلة الشيخ:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:

شكر الله للأخ السائل، فالمؤمن رجّاع إلى الحق، يتوب من قريب، إذا ارتكب شيئًا سرعان ما يستيقظ ضميره، فالله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 135)، ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (الأعراف: 201).

المُتَّقون ليسوا معصومين من الخطأ والخطيئة، ليسوا أنبياء مُقرَّبين، ولا ملائكةً مُطَهَّرين، هم بشرٌ من البشر، وقد يقع المُتَّقي في المعصية، والفرق بينه وبين غيره: أنه سريعُ اليقظة، وسريعُ الأوْبَة إلى الله عزَّ وجلَّ، ويتذكر سريعًا وقوفه بين يدي ربه، وأنه سيحاسب على النقير والقطمير؛ فيبصر الحق، وتدعوه بصيرته للتوبة والأوبة، ويصبح هو القاضي الذي ينتصف من نفسه. والأخ إن أصاب مرآة السيارة، وأنّبه ضميره، فغيره قد يُصيب إنسانًا، ثم يتركه ويجري، وهذه ليست مروءة، ولا رجولة، ولا إسلامًا، ولا إيمانًا، ولا إنسانية.

والإسلام يوجب على الإنسان إذا أتلف شيئًا لأخيه عليه عوضه، يغرم له قيمته، وأن تغرم ما أفسدت في الدنيا خير من أن تُطالب به في الآخرة، فليس ثّم درهم ولا دينار، ولا ريال ولا جنيه ولا دولار؛ وإنما هي الحسنات والسيئات، فعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رحم الله عبدًا كانت لأخيه عنده مَظْلَمة في عِرْض أو مال أو جاه، فاستحلَّه قبل أن يُؤخَذَ وليس له ثَمَّ دينارٌ ولا درهم، فإن كانت له حسنات؛ أُخذ من حسناته، وإن لم يكن له حسنات؛ وضع من سيئاتِ صاحبه على سيئاته". (1)

وأقول للأخ السائل الذي حاول أن يعوض صاحب السيارة عما أفسده فلم يجده: إن عليه أن يتصدق بثمن هذا الخطأ عن صاحب السيارة. وقد روي أن ابن مسعود اشترى جارية بسبعمائة درهم، فإما غاب صاحبها، وإما تركها، فنَشَدَه حَوْلًا، فلم يجدْه، فخرج بها (أي: بالدراهم) إلى مساكين عند سُدَّة بابه، فجعل يقبض ويعطي ويقول: اللهم عن صاحبها، فإن أتى، فمني وعليَّ الغُرْم.

وأحب أن أنبه هنا إلى أن الله لا يقبل توبة تائب حتى يؤدي للعباد حقوقهم، أو يستحلهم منها، بل إن الشهادة في سبيل الله تُكفِّر عن الشهيد خطاياه إلا الديون، إلا حقوق العباد، والإنسان لا ينبغي له أن يستهين أبدًا بحقوق العباد، ولو كان شيئًا قليلًا، فعن أبي أمامة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه؛ فقد أوجب الله له النار، وحرَّم عليه الجنة"، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: "وإن قضيبًا من أراك". (2)

قضيب من أراك من حق أخيك يُحرِّم عليك الجنة، فما بالك بمن يأكلون أموال الناس بالباطل، آلاف وعشرات الآلاف ومئات الألوف من الديون على أناس ولا يدفعونها لأصحابها، وما بالك بأكل أموال الناس ظلمًا، نهبًا، أو اختلاسًا، أو رشوة، أو بأي طريقة من الطرق، كل هذا لا يجوز، الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (النساء: 29)، ويقول عز وجل: {وَلَا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَاكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 188).

.....

(1) رواه مسلم في الإيمان (137)، وأحمد (22239)، والنسائي في آداب القضاة (5419)، عن أبي أمامة.

(2) رواه ابن ماجه في سننه باب من حلف على يمين فاجرة ليقتطع بها مالًا، حديث رقم (2335).