د. يوسف القرضاوي

مقدمة

من فضائل ثقافتنا أنها لا تضيق بالتجديد، بل تؤمن به، وتفتح ذراعيها له سواء أكان تجديداً في الدين أم تجديداً في الحياة.

وكيف لا نؤمن بالتجديد وهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول بصريح العبارة مبشراً أمته "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". فليس لقائل أن يقول : كيف يجدد الدين وهو نصوص محكمات وآيات كريمات وأحاديث شريفات؟ إن تجديد الدين بمعنى تجديد الإيمان به وتجديد الفهم له والفقه فيه، وتجديد الالتزام والعمل بأحكامه وتجديد الدعوة إليه.

عرف تاريخ أمتنا مجددين من أمثال عمر بن عبدالعزيز الذي جدد سنن الخلفاء الراشدين بعد اندراسها والشافعي الذي وضع علم أصول الفقه، والغزالي الذي أحيا الله به علوم الدين وابن تيمية وابن القيم وابن الوزير وولي الله الدهلوي وغيرهم.

وتجديد الشيء ليس معناه أن تزيله، وتنشئ شيئاً جديداً مكانه، فهذا ليس من التجديد في شيء. تجديد شيء ما أن تبقي على جوهره ومعالمه وخصائصه ولكن ترمم منه ما بلي، وتقوي من جوانبه ما ضعف، كما لو أردت تجديد جامع أثري أو قصر أثري فلابد أن تحافظ عليه وعلى خصائصه وروحه ومادته ما استطعت. ولكن تجدد من ألوانه ما ذهب، ومن بنائه ما وهي وتحسن من مداخله وتجمل الطريق إليه .. الخ.

تجديد الدين

تجديد الدين لابد أن يكون من داخله وبأدواته الشرعية، وعن طريق أهله وعلمائه لا بالإغارة عليه ولا بالافتيات على أهله ولا بإدخال عناصر غريبة عنه وفرضها عليه عنوة. وإن كنا نرى الكثيرين في العصر الحاضر قد أقحموا أنفسهم على الدين، وزعم كل منهم أنه مجدد الملة، وشيخ الإسلام، وإمام الزمان. فمنهم من يقرأ القرآن قراءة جديدة معاصرة تلغي قراءة الأمة طوال أربعة عشر قرناً، فهو يلغي تراثها كله، ويلقيه في سلة المهملات، ويبدأ من الصفر، لا يعتمد على حديث مرفوع، ولا على أثر موقوف على صحابي ولا على قول صحيح عن تابعي، ولا على رأي مأثور عن إمام في اللغة أو إمام في الفقه أو إمام في التفسير.

هو وحده حجة الزمان، وما عداه جهل وبهتان، ثم يأتي بأي تفاسير وآراء ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يقوم عليها برهان. والعجب أن هذا المدعي لا يحسن أن يقرأن آية قراءة صحيحة، ليس فقط لأنه لا يحفظ القرآن بل لأنه لا يعرف مرفوعاً من منصوب، ولا فاعلاً من مفعول.

ومنهم من يريد أن يلغي الفقه كله، فقه الصحابة، وفقه التابعين، وفقه الأئمة المتبوعين، وغير المتبوعين، وأن نضرب عرض الحائط بهذه الثروة التشريعية والحقوقية الهائلة، التي لا توجد لدى أمة من الأمم، والتي اعترف بفضلها وقيمتها وسعتها العرب والعجم، والشرق والغرب، ونوهت بها المؤتمرات الدولية للقانون في لاهاي وفي باريس وفي غيرهما.

يأتي شخص لا يحسن أن يقرأ صفحة من كتاب في أصول الفقه مثل الرسالة للشافعي أو البرهان لإمام الحرمين، أو المستصغي للغزالي أو المحصول للرازي، أو الموافقات للشاطبي أو من كتاب في الفقه مثل بدائع الصنائع للكاساني، أو الذخيرة للقرافي أو المجموع للنووي أو المغني لابن قدامى، ويقول لنا ارموا بهذا الفقه فهو الذي أخركم وهو الذي جمدكم وما ذنب الفقه وما ذنب الأمة إذا كان هذا الشخص لا يحسن أن يقرأه وأن يفهمه وأن يستفيد منه؟، وما ذنب الفقه إذا كانت الأمة لا تحسن الاستفادة من كنوزه وتوظيفها في اجتهاد جديد يراعي تغير الزمان والمكان والإنسان؟.

ومنهم من يريد أن نعرض عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن في هذه الكتب أحاديث ضعيفة وأحاديث موضوعة، أو أحاديث لا أصل لها، وأن من المحدثين من عطلوا العقل في مقابل النقل، ومن ناصروا الجمود التقليدي في مقابلة الاجتهاد والتجديد.

عيب هؤلاء ..

إن عيب هؤلاء أنهم لم يغوصوا في أعماق ثقافاتنا،ولم يعرفوا ما بذلت هذه الأمة في سبيل الحفاظ على تراث نبيها، وأن الله هيأ لعلم النبوة من نفى عنه تحريف الغالبين، وانتحال المبطلين، وتأول الجاهلين.

وعيب هؤلاء أنهم لم يعرفوا أمتهم، ولم يقدروها قدرها، حسبوا أنها أمة بلهاء، وأن علماءها من المغفلين، الذي تروج عليهم الأباطيل ويخدعهم السراب، وجهلوا أن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، هذا ما أثبته القرآن وما أيدته السنة وما صدقه التاريخ.

أما القرآن فهو يقول (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون)، الأعراف : 181، فهذه الآية باقية ما بقيت الحياة، وبقي الناس، وكما قال تعالى (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين) الأنعام : 89.

وأما السنة فقد استفاضت الأحاديث الصحاح عن عدد من الصحابة لا يتصور أن يتواطأوا لا هم ولا من روى عنهم على الكذب على رسول الله . كل هذه الأحاديث تبشر الأمة بأنه "لا تزال طائفة منها قائمة على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" .

وتسمى هذه الطائفة عند العلماء (الطائفة المنصورة)، فهذه طائفة تمثل صمام الأمان للأمة، تعلم الجاهلين، وترد الشاردين، وتقوم المنحرفين حتى تقوم الساعة.

وأما التاريخ، فقد صدق القرآن العزيز وصدق السنة المطهرة، ولم يخل عصر من علماء يقاومون البدع ويحاربون الباطل، كما قال علي رضي الله عنه "لا تخلو الأرض من قائم لله بالحجة"

وكما قال شوقي رحمه الله:

إن الذي خلق الحقيقة علقما  **  لم يخل من أهل الحقيقة جيلاً

ولكنّ هؤلاء المجددين المزيفين جهلوا القرآن وجهلوا السنة وجهلوا التاريخ. وهؤلاء وأمثالهم هم أدعياء التجديد في عصرنا، ولكنهم للأسف لهم صوت مسموع، ولواء مرفوع. إنهم الذين سخر منهم أديب العربية والإسلام مصطفى صادق الرافعي حين قال عن أمثالهم : إنهم يريدون أن يجددوا الدين واللغة والشمس والقمر.

وهم الذين سخر منهم أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته عن الأزهر فقال:

لا تحذو عصابة مفتونـــــة  **  يجدون كل قديم أمراً منكراً
ولو استطاعوا في المجامع أنكروا  **  عمرا من مات من آبائهم أو عمراً
من كل ساع في القديم وهدمــه  **  وإذا تقدم للبناية قصـــراً
وافي الحضارة بالصناعة رثــة  **  والعلم نزرا، والبيان مثرثرا

إننا نؤمن بالتجديد إذا كان تجديداً حقاً، ونرحب بالمجددين إذا كانوا مجددين صدقاً، أما هؤلاء الذين ذكرنا نماذج لهم، فإن ما دعوا إليه لا يدخل في باب التجديد، بل هو من باب الهدم والتبديد.

إننا نرفض هؤلاء المبددين بقدر رفضنا دعاة (التقليد) و (التجميد) الذين يريدون أن يبقى كل قديم على قدمه، ولا يرحبون بأي اجتهاد جديد أو فكر جديد، شعارهم : ما ترك الأول إلى الآخر شيئاً .. وليس في الإمكان أبدع مما كان.

نحن نرفض الذين يريدون أن يجرموا على الناس أن يفكروا بعقولهم، وأن يجتهدوا لزمانهم، كما اجتهد السابقون لزمانهم، ونرى أن هؤلاء الجامدين يسيئون إلى أنفسهم، وإلى الدين، الذين يزعمون أنهم يتكلمون باسمه، وهذا الدين ليس فيه رجال كهنوت، ولا اكليروس، إنما فيه علماء قادرون راسخون مؤهلون لأن يردوا فروعه إلى أصوله، وأن يأتوا البيوت من أبوابها، ويستقوا المياه من منابعها النقية.

وقد ذكر الأمير شكيب أرسلان في كتابه (لماذا تأخر المسلمون؟) : إن الدين إنما ضاع بين جاحد وجامد، فالجاحد يضلل الناس بجحوده، والجامد يفتنهم بجموده.