د. يوسف القرضاوي

مقدمة

وجه إليّ بعض الأخوة المسلمين الذين يعيشون في أوروبا هذا السؤال: ما مدى إمكانية التقريب بين الأديان (الإسلام والنصرانية مثلاً)؟ وهل الدعوة لمثل ذلك جائزة؟ سمعنا أن بعض شيوخ الأزهر أسهموا في ذلك. نرجو أن تلقوا الضوء على هذه القضية المهمة.

وكان جوابي بعد حمد الله تعالى: إن التقريب بين الأديان كلمة تطلق، ويراد بها أكثر من معنى، أو مفهوم، بعضه مرفوض، أو يجب أن يرفض، وبعضها مقبول، أو لا بأس أن يقبل.

المفهوم المرفوض للتقريب بين الأديان

فأما المعنى أو المفهوم المرفوض للتقريب بين الأديان، فهو الذي يقصد به إذابة الفوارق الجوهرية بين الأديان المختلفة بعضها بعضاً، كما بين (التوحيد) في الإسلام (والتثليث) في النصرانية، وما بين (التترية) في العقيدة الإسلامية (والتشبيه) في العقيدة اليهودية.

ومن نتائج ذلك، اختلاف النظرة إلى المسيح عليه السلام، بين المسلمين والنصارى، فالنصارى على اختلاف فرقهم ومذاهبهم يعتبرون المسيح إلهاً أو ابن إله، أو ثلث إله، أو عضواً في شركة ثلاثية من الآلهة: الأب والابن وروح القدس.

والمسلمون ينظرون إلى المسيح بوصفه رسولاً من أولي العزم من الرسل، أنزل الله عليه الإنجيل، فيه هدى ونور وموعظة للمتقين، وآتاه البينات، وأيده بروح القدس، وعلمه الكتاب والحكمة، ومنحه من الآيات الكونية والمعجزات الحسية، ما لم يؤت غيره من الرسل.

وذكر القرآن الكريم هنا من الآيات ما لم يذكر في الإنجيل، مثل أن يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله، ومثل المائدة التي أنزلت من السماء، وسميت باسمها (سورة المائدة).

ولكن المسيح، مع هذا، بشر رسول، وعبد رسول، دعا الناس إلى عبادة الله، لا إلى عبادة نفسه، كما قال الله تعالى (لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون) النساء، 172.

وقال سبحانه وتعالى (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، وأمه صديقة، كانا يأكلان الطعام) المائدة 75، ومن ضرورة أكل الطعام: الإفراز، فكيف يكون مثله إلها؟

ومن هنا خاطب القرآن الكريم النصارى، بقوله (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إنما الله إله واحد وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً) النساء 171.

كما أن من الفوارق الأساسية بين المسلمين وأهل الكتاب، أن كتاب المسلمين (القرآن) محفوظ من كل تغيير وتبديل، بضمان الله تعالى ووعده الذي لا يخلف (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر 9، ولا عجب أن يحفظه عشرات الألوف من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، حتى إن الأعاجم ليحفظونه ما يخرمون منه حرفاً، وأكثرهم لا يعرفون معنى كلمة مما يحفظونه.

بخلاف التوراة والإنجيل، اللذين قامت الأدلة على وقوع التحريف فيهما، بالحذف والزيادة والتغيير، وهذا لم يقله علماء المسلمين وحدهم، بل قاله كثيرون في عصرنا الحديث من علماء الغرب أنفسهم، من يهود ونصارى على اختلاف نحلهم.

وهذا التحريف قد أدى إلى تغيير صفات الألوهية في التوراة التي يؤمن بها الفريقان: اليهود والنصارى جميعاً، حيث وصف الإله بما لا يليق بكماله: من الجهل والعجز والحسد والندم، كما يتجلى ذلك في (سفر التكوين)، من أسفار التوراة الخمسة، وهذا فارق جوهري بيننا وبين القوم من يهود ومسيحيين، فنحن نصف الله تعالى بكل كمال، وننزهه عن كل نقص، وهم لا يبالون أن يصفوا الله بنقائض البشر.

وأدى هذا التحريف لذلك إلى تغيير صورة النبوة الهادية فوصف الأنبياء الكرام، والرسل العظام بما لا يليق بكمالهم البشري، حيث هيأهم الله تعالى ليحملوا رسالته وهدايته إلى البشر (الله أعلم حيث يجعل رسالته) الأنعام 124.

ولهذا نؤمن نحن المسلمين بعقيدة "عصمة الأنبياء" من الخطايا والرذائل، التي تتنافى مع تكليفهم هداية البشر، وتنفر الناس منهم، وتجعلهم عرضة للانتفاد (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) البقرة 44.

فلا يجوز التقريب بين الأديان بمحاولة مفتعلة وممجوجة لتذويب الفوارق الجوهرية في ما بينها، فلا نحن نقبل هذا،  ولا هم يقبلونه.

ولهذا نرى أن كل دعوة تقوم على أساس التنازل عن أمر من الأمور الجوهرية في الدين، سواء أكانت في العقائد أم في العبادات، أم في أمر الحلال والحرام ونحوه من أمور التشريع الأساسية للفرد أو الأسرة أو المجتمع، إنما هي دعوة مرفوضة شرعاً.

المفهوم المقبول للتقريب بين الأديان

وأما المفهوم المقبول للتقريب بين الأديان، وخصوصاً السماوية منها، فيراد به التقريب بين أصحاب الأديان في ضوء الحقائق التالية:

1)) الحوار بالحسنى، فنحن، المسلمين، مأمورون من ربنا وبنص قرآننا، بجدال المخالفين بالتي هي أحسن. وهذا الجدال أو الحوار بالتي هي أحسن هو إحدى وسائل الدعوة التي أمر بها القرآن الكريم في قوله تعالى (ادع إلى سبيل ربك بحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) النحل 125. فالموافقون لك في الدين تدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة، أي بما يقنع العقول، وما يحرك القلوب والعواطف، والمخالفون يجادلون بالتي هي أحسن.

بمعنى أ،ه لو كانت هناك طريقتان للحوار: طريقة حسنة، وطريقة أحسن منها وأجود، فالمسلم مأمور أن يستخدم الطريقة التي هي أحسن وأمثل. وقد اكتفى القرآن الكريم، مع الموافقين بأن تكون الموعظة حسنة، ولم يرض مع المخالفين إلا أن يكون الجدال بالتي هي أحسن.

وقد نص القرآن الكريم، على ذلك في خصوص أهل الكتاب، فقال تعالى (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم) العنكبوت 46.

ومن أجل ذلك أفضل أن يكون عنوان الدعوة "الحوار بين الأديان" وليس "التقريب" لأنها تفهم خطأ والتركيز على القواسم المشتركة.

2)) التركيز على القواسم المشتركة بيننا وبين أهل الكتاب، ولهذا جاء في تتمة الآية السابقة في مجادلة أهل الكتاب (وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون).

ففي مجال التقريب والحوار بالتي هي أحسن، ينبغي ذكر نقاط الاتفاق، لا نقاط التمايز والاختلاف.

وهناك من المسلمين المتشددين من يزعم أنه لا توجد بيننا وبين اليهود والنصارى أية جوامع مشتركة، ما دمنا نحكم عليهم بالكفر، وأنهم حرفوا وبدلوا كلام الله تعالى.

وهذا فهم خاطئ للموقف الإسلامي من القوم. فلماذا أباح الله تعالى، مواكلتهم ومصاهرتهم؟ وكيف أجاز للمسلم أن تكون زوجته وربة بيته وأم أولاده كتابية؟ ومقتضى هذا، أن يكون أجداد أولاده وجداتهم، وأخوالهم وخالاتهم وأولادهم من أهل الكتاب؟ وهؤلاء جميعاً لهم حقوق ذوي الرحم وأولي القربى.

ولماذا حزن المسلمون حين انتصر الفرس، وهم مجوس يعبدون النار، على الروم، وهم نصارى أهل الكتاب؟ حتى أنزل الله قرآنا يبشر المسلمين بأن الروم سينتصرون في المستقبل القريب (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) الروم 4-5، كما جاء في أول سورة الروم.

وهذا يدل على أن أهل الكتاب، وإن كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، أقرب إلى المسلمين من غيرهم من الجاحدين أو الوثنيين.

3)) الوقوف معاً لمواجهة أعداء الإيمان الديني، ودعاة الإلحاد في العقيدة، والإباحية في السلوك، من أنصار المادية، ودعاة التعري، والتحلل الجنسي، والإجهاض، والشذوذ الجنسي، وزواج الرجال بالرجال، والنساء بالنساء.

فلا مانع أن نقف مع أهل الكتاب في جبهة واحدة، ضد هؤلاء الذين يريدون دمار البشرية، بدعاواهم المضللة، وسلوكياتهم الغاوية، وأن يهبطوا بها من أنق الإنسانية إلى درك الحيوانية (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) الفرقان 43-44.

وقد رأينا الأزهر ورابطة العالم الإسلامي، والفاتيكان، يقفون في (مؤتمر السكان) في القاهرة، سنة 1994، وفي مؤتمر المرأة في بكين، سنة 1995، في صف واحد، لمواجهة دعاة الإباحة.

4)) الوقوف معاً لنصرة قضايا العدل، وتأييد المستضعفين والمظلومين في العالم، مثل قضية فلسطين والبوسنة والهرسك، وكوسوفا، وكشمير واضطهاد السود والملونين في أميركا وفي غيرها، ومساندة الشعوب المقهورة ضد الظالمين والمستكبرين في الأرض بغير الحق، الذين يريدون أن يتخذوا عباد الله عباداً لهم.

فالإسلام يقاوم الظلم، ويناصر المظلومين، من أي شعب، ومن أي جنس، ومن أي دين.

والرسول صلى الله عليه وسلم، ذكر حلف الفضول الذي شارك فيه في شبابه في الجاهلية، وكان حلفاً لنصرة المظلومين، والمطالبة بحقوقهم، ولو كانت عند أشراف القوم وسراتهم.

وقال عليه الصلاة والسلام: "لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت".

5)) ومما ينبغي أن تتضمنه هذه الدعوة: إشاعة روح السماحة والرحمة والرفق في التعامل بين أهل الأديان، لا روح التعصب والقسوة والعنف.

وهذا يتفق مع قول الله تعالى إلى رسوله (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). وقوله عليه الصلاة والسلام "إنما أنا رحمة مهداة". وقوله "إن الله يحب الرفق في الأمر كله". ووقوفه صلى الله عليه وسلم عندما مروا عليه بجنازة، فقام لها واقفاً. فقالوا: إنها جنازة يهودي؟ فقال "أليست نفساً؟