جاء لزيارة قبر الصحابي "عبد الله بن الحارث" المدفون في "صفط التراب":

يوم الجمعة القادم يبلغ شيخنا فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي التاسعة والسبعين، فهو من مواليد 9 سبتمبر 1926، وأحرص على الاتصال به في هذا اليوم قائلا: كل سنة وأنت طيب.. فيشكرني من قلبه، ولا يعاتبني أو يقول لي: عيب دي بدعة.. وكل بدعة ضلالة! بل يعتبر هذه المكالمة التليفونية لفتة لطيفة مني.

صدق أو لا تصدق.. القدر وحده هو الذي دفع بالعالم الجليل إلى الأزهر وعمه الشيخ أحمد الذي تولى تربيته منذ الصغر بعد وفاة والده مبكرا لم يكن راغبا في التعليم الأزهري لابن أخيه، والسبب أن أبناء الأزهر في قريته صفط التراب بمحافظة الغربية كانوا بعد تخرجهم يجلسون على المصاطب "بلا شغلة ولا مشغلة"، فلم يحب أن يلحق بهم رغم أن هذا الولد الصغير يوسف عبد الله القرضاوي كان قد حفظ القرآن الكريم كله في الكتاب وأظهر نبوغا وتفوقا، لكن فرص العمل أمام علماء الأزهر كانت محدودة جدا... كان العم يريد أن يبدأ ابن أخيه حياته العملية بمحل للخردوات والأشياء التي تباع للناس مما تحتويه البقالات عادة... يبدأ صغيرا ثم يكبر، أو يتعلم حرفة مثل الخياطة فكل الناس محتاجون إليها ولا تتكلف أكثر من ماكينة الخياطة وهذه يمكن تدبيرها بعون الله.

يقول الشيخ يوسف القرضاوي: كل هذه المقترحات لم تجد عندي أذنا صاغية، فلم أكن مستريحا لأي منها؛ فهي لا تتفق مع طبيعتي وتطلعاتي.

ويضيف قائلا: بقيت أنتظر فرج الله لا أعمل شيئا إلا الذهاب إلى الحقل أحيانا مع عمي وأبناء عمي، وأنا لا أحب الفلاحة ولا أميل إليها؛ ولهذا كانوا يعدونني فلاحا خائبا مقارنة بغيري من أبناء جيراننا الفلاحين.

ومن الوقائع التي حدثت في تلك الفترة من حياته أن شركة مصر للغزل والنسيج كانت قد أنشأت مصنعها منذ سنوات قليلة في مدينة المحلة الكبرى وبناء على إلحاح من ابن خالته الذي يكبره بعدة سنوات تقدم للعمل هناك مع غيره من أبناء القرية. ويقول العالم الجليل: ذهبت مع قريبي هذا الذي يعمل بالمصنع وأنا أتمنى من كل قلبي أن يرفضوني!! وبالفعل حدث ما كنت أتمناه وكنت سعيدا جدا لأنهم قالوا لي: أنت لا تصلح، وبالطبع غضب ابن خالتي وحملني مسئولية عدم اختياري! والحقيقة أنني لم أفعل شيئا، ولكن الله تعالى صرفهم عني لحكمة يعلمها.

وظهر الشخص المجهول في الوقت المناسب:

نحن الآن في سنة 1938م.. وعمر بطل حكايتنا 12 سنة. وكان وضعه معلقا منذ شهور بسبب إصراره على إكمال تعليمه بالأزهر ورفض الأهل لذلك. ويقول الشيخ يوسف القرضاوي: في يوم من أيام الصيف كنت جالسا مع عمي وأولاده في الحقل تحت شجرة من أشجار الجميز نستعد لتناول غدائنا، ومر علينا شيخ يلبس جبة وعمامة لا يعرفه أحد منا، ويبدو غريبا علينا وأخبرنا أنه جاء لزيارة قبر الصحابي عبد الله بن الحارث المدفون في قريتنا، وطلب شربة ماء وبعد أن ارتوى قال له عمي: يا سيدنا الشيخ نريد أن تختبر هذا الشيخ الصغير ابننا، وكان يقصدني، سأله الضيف الغريب: هل هو ابنك؟ فرد نعم.

وبالفعل اختبرني في القرآن من أوائله وأوسطه وأواخره فوجدني أحفظه حفظا كاملا، كما رآني أحسن تجويده وتلاوته.

وبعد ذلك وجه الحديث إلى عمي وقال له: ما اسمك؟ قال: أحمد قال: يا عم أحمد هذا الولد يجب أن يذهب إلى الأزهر. حرام ألا يتعلم في الأزهر... لماذا لا تقدم له هناك؟.

قال عمي: يا سيدنا الشيخ، نحن أناس فقراء والأزهر طريقه طويل، ومع هذا يتخرج العلماء منه ولا يجدون عملا.. وعلماء بلدنا قاعدون بلا عمل!

قال الشيخ يا عم أحمد، أنت رجل فلاح، وإذا بذرت في الأرض بذرة فهل تضمن أن تنمو البذرة حتى تخرج الثمرة؟ قال لا.

تساءل الشيخ: ألم يحدث في بعض السنوات أن أكلت الدودة زرعك؟.

رد عمي: حدث ذلك بالفعل.

الشيخ: هل امتنعت بعدها عن الزرع؟.

قال عمي: لا .. إنني أؤدي واجبي والباقي على الله.

قال الشيخ: أحسنت أن تؤدي واجبك والباقي على الله، ثم سأله من جديد: يا عم أحمد، هل تعرف ما الذي سيحدث لك بعد أسبوع أو حتى غدا؟.

قال عمي: المستقبل بيد الله ولا أعلم الغيب، قال الشيخ: إذا كنت لا تعلم ماذا سيحدث لك غدا لأن المستقبل بيد الله، فعليك أن تؤدي واجبك تجاه ابنك، ثم تترك مستقبله لصاحب التدبير.

وبدا عمي في طريقه إلى الاقتناع. وسألني الشيخ: هل تكفيك عشرة قروش في الشهر؟.

قلت له على الفور: تكفيني خمسة!! بل إنني مستعد أن أعيش على "العيش والدقة".

ويقول الإمام الجليل الدكتور يوسف القرضاوي: وبعد هذا اللقاء بدأت الأمور تتحرك في اتجاه ما كنت أريده، وأخيرا التحقت بالمعهد الديني بطنطا.

ويضيف قائلا: العجيب أن هذا الشيخ المجهول لم أره بعد ذلك أبدا ولا أعرف اسمه، ولو كنت ممن يبالغون في إثبات الخوارق والكرامات شأن الكثيرين المنتسبين إلى الإسلام! لقلت: هذا ملاك من السماء جاء في صورة رجل ليحل الله على يديه مشكلتي ثم اختفى، لكن الواقع أنه إنسان من بني آدم ساقه الله ليصنع به قدره وفق سنته التي لا تتبدل.

........
- نُشرت هذه المقالة بصحيفة الدستور المصرية، بتاريخ 4 سبتمبر 2005.