أكرم كساب*

إن القرضاوي لو لم يلق ربه بغير ما أخذه مِن حسنات مَن تطاول عليه أحسب أنه سيلقى ربه بخير كثير .

( 1 )

ليس أهنأ للعبد , ولا أروح لقلبه من أن يعيش بين الناس سليم الصدر , نقي القلب , غافراً للناس طيشهم , متناسياً إساءتهم , هذا ما عرف به الشيخ القرضاوي طيلة حياته , وهذا ما أقر به من عايشه .

وقد حاول البعض أن يستغل عفو الشيخ القرضاوي وسماحته , وقد ظنوه ضعفاً من الشيخ أو عجزاً , وما حسبوه عفواً وصفحاً , وما علموا أن الشيخ يبتغي بهذا الأجر من الله .

والشيخ القرضاوي في هذا إنما يقتدي بالأئمة الأعلام والعلماء العظام , وقد سبقه سلطان العلماء وبائع الأمراء العز بن عبد السلام حين طلب منه السلطان أن يجعله في حل مماوقع بينهما من جفوة ، وقال : يا عز الدين اجعلني في حل وادع الله لي وأوصني وانصحني . فقال العز : أما محاللتك فإني في كل ليلة أحالل الخلق , أبيت وأنا ليس لي عند أحد مظلمة , وأرى أن يكون أجري على الله , ولا يكون لي على الناس عملاً بقواه تعالى : ] فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [ الشورى: 40 ، وأن يكون أجري على الله ولا يكون على خلقه أحب إلي .

وقد أوذي الإمام أحمد وأدخل السجن , وأصابه ما أصابه في فتنة " خلق القرآن " المعروفة , فلما انكشفت المحنة , وسألوه عمن آذوه , فسامح فيما كان من حقه هو , لا ما كان من حق الله عز وجل . وقال كلمته المعبرة : ماذا ينفعك أن يدخل أخوك النار؟ فهو يريد أن يسامحهم حتى لا يدخلوا النار بسببه .

وبين الفينة والأخرى يخرج متطاولون لينالوا من الشيخ ، وليس معنى ذلك أني أدعي العصمة للشيخ - ولكني أحسبه والله حسيبه - في كل أرائه واجتهاداته لا يبتغي إلا وجه الله تعالى ، وهو في كل ما ذهب إليه من أراء واجتهادات بين الأجر والأجرين ، وهو في هذا إما أنه أصاب فهو مأجور ، أو أخطأ فذنبه إن شاء الله مغفـور .

وقد علق الشيخ حفظه الله على تطاول البعض عليه : فلما برزت هذه العداوات التي ليس لي نصيب في تحريكها , حمدت الله تعالى عسى أن يكتب لي بعض الأجر بما يصيبني على ألسنة هؤلاء وأقلامهم , فإن المؤمن يثاب رغم أنفه على ما يصيبه من هم وغم وأذى , حتى الشوكة يشاكها , يكفر الله بها من خطاياه , وما أكثر خطاياي التي تحتاج إلى تكفير , ولا سيما أني متصدق بعرضي لكل مسلم يؤذيني , إذا لم يكن خائناً لله ورسوله , عميلاً لأعداء الأمة وأعداء الإسلام .

وكثيراً ما ردد الشيخ ما قاله الإمام الشافعي قديماً:

عداتي لهم فضل علي ومنة  **  فلا باعد الرحمن عني الأعاديا

فهم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها  **  وهم نافسوني فارتقيت المعاليا

وقد أوضح الشيخ ذلك على رؤؤس الأشهاد في كلمته التي ألقاها في حفل تكريمه بجائزة الشخصية الإسلامية بدبي عام 2000 م فقال : أما الفئة القليلة التي حاولت في المدة الأخيرة أن تقذفني بالحجارة من يمين وشمال , وأن تشوش على مسيرتي , فلا يسعني إلا أن أدعو الله لهم أن يهدينا وإياهم , ويصلح بالنا وبالهم , وقديماً قالوا : رضا الناس غاية لا تدرك . وقال الشاعر :

ومن من الناس يرضي كل نفس  **  وبين هوى النفوس مدى بعيد

( 2 )

في بعض الأوقات يؤثر الإنسان السلامة لنفسه , حرصاً على البقاء , أو خوفاً على الرزق ؛ وإن استساغ الناس هذا الأمر , فإن للدعاة موقفاً مغايراً , ورأياً مخالفاً .

والشيخ القرضاوي يعرف بالوضوح كل الوضوح وخصوصاً في المواقف الحاسمة التي تحتاج إلى بيان ، وتنتظر الأمة فيها أن تسمع كلمة العلماء .

إنه لا يحب في المواقف الحاسمة اللف ولا الدوران , ولا يلجأ إلى التميع ولا الإرجاء , ولكنه يعلنها صريحة وإن كلفه الأمر ما كلفه مردداً قول أمير الشعراء :

قف دون رأيك في الحيـاة مجاهداً  **  إن الحيــاة عقيدة وجهاد

وعلى نحو ما قال الشاعر:

فإمـــا حياة تسر الصديـق  **  وإمــا ممات يغيظ العدا

إن الوضوح من الشيخ في المواقف الحاسمة مطلوب لأنه عالم من علماء الأمة , وإذا لم يظهر العلماء بمواقفهم الحـاسمة فعلى الدنيا السلام , وقد قال القائل :

يا أيها العلماء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد ؟

إن الشيخ القرضاوي لا يسعه السكوت إذا احتاج الموقف إلى الكلام , ولا يسعه الصمت إذا احتاج الموقف إلى حديث , ولا يسعه التنحي إذا احتاج الموقف إلى مواجهة , وكثيراً ما ينتظر الناس كلمة الشيخ في هذه المواقف الحاسمة .

( 3 )

والحق أن الدعوة إلى الله تعالى تحتاج إلى رجال تتفتأ الشجاعة من جوانبهم , يصدعون بكلمة الحق أينما كانوا , وقد ضرب الدعاة على مر التاريخ أمثلة رائعة في قول كلمة الحق , ولن ينسى التاريخ سعيد بن جبير و أحمد بن حنبل و ابن تيمية و سيد قطب , وستظل مواقف هؤلاء الدعاة مصابيح هادية للدعاة على مر العصـور .

ولله در "الغزالي" رحمه الله حين قال : الدعاة الموظفون لحراسة الإسلام هم جيش للدفاع عن الإيمان , يشبه الجيش الموكل بحراسة الأمن , فإذا لم يكن الداعية المسلم شجاعاً , مطيقاً لأعباء رسالته , سريعاً إلى تلبية ندائها , جريئاً على المبطلين , مغواراً في ساحاتهم , فخير له أن ينسحب من هذا المجال , وألا يفضح الإسلام بتكلف ما لا يحسن من شئونه .

إن الرجال الذين جعلوا من أنفسهم لكل عرف شائع , وقانون قائم , ورضوا بأن يحرقوا البخور بين يدي الحكام لا ينبغي أن يكونوا في عداد الدعاة , وهيهات هيهات أن يكونوا في صفوف العلماء .

وقد نشأ الشيخ القرضاوي من صغره على الشجاعة وقول الحق وقد حفظ الدعاة من شعره :

تالله ما الطغيـان يهـزم دعـوة  **  يومــاً وفي التاريخ بر يمينـي

ضع في يدي القيد ألهب أضلعي  **  بالسوط ضع عنقي على السكين

لن تستطيع حصار فكري سـاعة  **  أو نزع إيمـاني ونـور يقينـي

فالنور في قلبي وقلبي في يــدي  **  ربي .. وربي نــاصري ومعيني

سأعيش معتصمــاً بحبل عقيدتي  **  وأمـوت مبتسـماً لميادينـي

وللشيخ القرضاوي مواقف خالدة أبدى فيها جرأته وأظهر فيها وجه الحق , ولا أدل على ذلك من معارضة الشيخ الظاهرة والمعلنة في أجهزة التلفاز وعلى مرأى ومسمع من الناس لمؤتمر السكان الذي أقيم في القاهرة وكذلك مؤتمر الدوحة الاقتصادي , وفي برنامجه الأسبوعي في قناة الجزيرة القطرية " الشريعة والحياة " وجه إليه أحد المشاهدين سؤالاً عن رأيه في مؤتمر الدوحة الاقتصادي ومؤتمر السكان السابق بالقاهرة , أعلنها الشيخ صراحة بأنه يعارض هذه المؤتمرات , بل أعلن الشيخ ذلك من فوق مسجد عمر بن الخطاب بالدوحة وهي خطبة تذاع على الهواء مباشرة في التلفزيون القطري.

بل إن للشيخ موقفاً يكتب بحروف من ذهب في سجل التاريخ , وذلك حين زار شيمون بيريز رئيس الوزراء الإسرائيلي الدوحة , فعارض الشيخ هذه الزيارة من على منبر مسجده , بل قالها صريحة أنه على الذين صافحوا بيريز ووضعوا أيديهم في يده أن يغسلوا هذه الأيدي سبع مرات إحداهن بالتراب , وقد كان من بين المصافحين كبار المسؤولين في الدولة.

وجرأة الشيخ ظاهرة في كتبه , واضحة في فتاويه , بينة في كلماته , جلية في خطبه , واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار , ولهذا كان للشيخ كما كان لغيره من الدعاة المخلصين موقفاً حازماً في أزمة الخليج , فقد أعلن الشيخ رفضه الحازم لاحتلال العراق للكويت , لكنه في المقابل أعلن رفضه التام للاستعانة بالجيوش الكافرة في حرب العراق.

والشيخ لا يفتأ أن يتحدث عن موقف الحكام الضعيف المتخاذل , تجاه مصالح الأمة , والانصياع الكامل من حكام الأمة للغطرسة الأمريكية , وفي اجتماع المؤتمر الإسلامي في الدوحة العام الماضي 2001م أعلن الشيخ أن حكام العرب والمسلمين يلعنون أمريكا بقلوبهم لكنهم لا يقدرون أن يعلنوا ذلك بأفواههم، خوفاً على عروشهم ، وحرصاً على كراسيهم.

( 4 )

والحق أنه كان لجماعة الإخوان المسلمين فضل عظيم على الشيخ القرضاوي أقرّ به هو في كثير من كتبه ؛ وكان من أثر الجماعة على الشيخ أن نقلته من الالتزام الفردي إلى الالتزام الجماعي , ومن الإسلام التعبدي إلى الإسلام الشمولي , وكانت أحداث القرن العشرين التي مني بها العالم الإسلامي كفيلة بأن تحرك الصخر في وجه كل حاكم ظالم , وطاغية متكبر.

ولئن كان من العلماء من آثر السلامة لنفسه فسكت عن الجهر بالحق , ومنهم من ساير الحكام رغبة أو رهبة , ومنهم من اعتزل الحياة السياسية متأثراً بالنزعات الصوفية , فإن نشأة القرضاوي جعلته لا يسكت عن قول الحق , ولا يفتأ أن يبصر الناس بما لهم من حقوق عند الحكام , وما على الحكام من واجبات للمحكومين.

وكان وجود القرضاوي وغيره من الدعاة في مشارق الأرض ومغاربها نسمة عليلة من نسمات الرجاء التي هبت على قلوب اليائسين , وومضة من ومضات النور التي أضاءت دياجير الظلام , وسوطاً من سياط الحق سلطه الله على ظهور الطغاة الظالمين.

ولعل هذه الجبهة هي التي كلفت الشيخ وإخوانه البلاء الكثير، والحق أن هذا البلاء كان ولابد ؛ فإن طريق الدعوات ليس مفروشاً بالورود ؛ ولكنه محفوف بالمخاطر والمخاوف.

( 5 )

وللشيخ كلمات قوية وجهها إلى الحكام ترى متناثرة في كتاباته وخطبه , في شعره ونثره، من هذه الكلمات:

1- يجب أن يؤمن حكامنا بأنهم يعيشون في أوطان الإسلام , ويحكمون أناساً مسلمين , ومن حق كل قوم أن يحكموا وفقاً لعقيدتهم , وأن تأتي دساتيرهم وقوانينهم معبرة عن معتقداتهم وقيمهم وتقاليدهم , وأن تصاغ مناهج التربية والتعليم وفقاً لها , وأن تسير أجهزة الإعلام والثقافة في اتجاه حمايتها وتثبيتها ونشرها , وأن توضع السياسات الاقتصادية والاجتماعية والداخلية والخارجية في إطارها , وفي خدمة أهدافها.

أما أن يدعوا الإسلام ويرفضوا حكمه , ويعرضوا عن قرآنه وسنة نبيه , ويتنكروا لشعائره وشرائعه , فهذا ما لا يقبله عقل، ولا يرضاه دين.

2- ويقول واصفاً العسكريين منهم : إن الانقلابات كثيراً ما تقذف إلى سدة الحكم بأناس ليس لهم " هوية " تعرف , ولا سوابق تذكر , ولا تاريخ يعلم . يقفزون فجأة من الظلام إلى الأضواء , وعلى الشعوب أن تسلم لهؤلاء " المجهولين " قياد حياتها , والتصرف في أخطر شئونها، والبت في قضايا مصيرها.

3 - في مقابلة صحفية أجرتها جريدة الوطن السعودية مع الشيخ وجهت إليه سؤالاً : لديكم أربع رسائل هامة فلمن تريد توجيهها ؟ فذكر الشيخ رسالة إلى الحكام : إلى حكام المسلمين الذين ولاهم الله المسؤولية ينبغي عليهم أن يشعروا بمسئوليتهم تجاه رعيتهم وأن يتقوا الله فيهم وأن يتخذوا شريعته مصدر تشريعــهم.

4- وفي أحداث الانتفاضة وجه الشيخ أيضاً إلى حكام العرب كلمات قوية في خطبة الجمعة جاء فيها : هؤلاء الحكام هل لهم أذان تسمع ؟ وإذا كانت لهم آذان فهل لهم قلوب تتوجع ؟ وإذا كانت لهم قلوب فهل عندهم عزائم تتشجع ؟ وإذا كانت لهم عزائم فهل عندهم سيوف سوف تشهر .

5- وفي إحدى اجتماعات القمة العربية وجه الشيخ رسالة إلى القادة المجتمعين قال فيها : لماذا لا تستردون ثقتكم بأنفسكم , ألا تعيدون إلى الجامعة حيويتها , لماذا لا يقف حكام العرب وقفة الرجال الأبطال كما تنتظر منهم شعوبهم وكما نحسه من نبض الشارع العربي .

6- وفي خطبة نارية ألقاها الشيخ بتاريخ 7 / 3 / 2003 م خاطب الشيخ قادة العرب بعد اجتماع طارئ للجامعة العربية، وآخر لمنظمة المؤتمر الإسلامي جاء فيها:

كنا نريد من القادة العرب أن يقولوا لأمريكا: لا، لا نستطيع أن نقدم لكم أي تسهيلات ولا أن نفتح لكم بحرنا ولا برنا ولا جونا، لأن ديننا يحرم علينا تحريماً قاطعاً أن نعينكم على إخواننا، ديننا يوجب علينا أن نكون معهم لنحاربكم، فإذا عجزنا عن ذلك فأقل ما يجب علينا أن لا نقدم تسهيلات لغزوهم ، كان عليهم أن يقولوا هذا، أن يقولوا لا . كنت أريد من قادة العرب أن يقولوا لأمريكا:لا، لا نستطيع ذلك لأن عروبتنا وديننا وإسلامنا لا يجيز لنا ذلك، ونخشى أن نفتضح أمام شعوبنا، أن تنكشف سوءاتنا، أن يبصق الناس في وجوهنا أن يلعننا التاريخ ونكون سبة لأولادنا وأحفادنا حين يقولون: هؤلاء الذين ساندوا الأمريكان في ضرب إخوانهم، إنها لعنة التاريخ، كنت أود من قادة العرب أن يقفوا هذا الموقف ولكن قادة العرب – إلا من رحم ربك، وقليل ما هم – إذا تكلموا مع الأمريكان اصطكت أسنانهم وارتعدت فرائصهم وارتعشت أجسامهم ولم يستطيعوا أن يقولوا شيئاً، لم يستطيعوا أن يقولوا لا.

ولكن يبدو أن قادة العرب ما عادوا يحملون قلوباً ذكية ولا أنوفاً حمية، ولا عزائم أبية، ولا سيوفاً عربية، أصبح حكام العرب كما قال المثل (ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل)،
]كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم[.

كنت أريد هذا من العرب، أن يقفوا ضد الأمريكان ومعهم الحق، والحق يقويهم ويرفع رؤوسهم ولكن القادة لم يفعلوا ذلك.

7- وفي خطبة الجمعة التي ألقاها بتاريخ 21 مايو 2004بعد مجازر شارون في رفح وغيرها من قرى و مدن فلسطين وجه كلاماً إلى حكام العرب الذين سيجتمعون غداً في تونس وكان مما قاله :

هل نجد أحداً يتحمس ويغار ؟ هل نجد من يقول أدافع عن هؤلاء ؟ ومن ؟ العرب ؟ زعماء العرب ؟ قادة العرب ؟ حكام العرب الذين سيجتمعون غداً في تونس ؟ هل هؤلاء الذين سيحمون فلسطين ويحمون رفح ؟ إننا لم نر أحداً احتج بقوة ؟ لم نجد من صرخ في وجه إسرائيل ، بل رأينا الصمت ، رأينا الشياطين الخرس ، رأيناهم في صمت القبور، هذا ما رأيناه عند العرب للأسف ولا ندري ماذا سيفعلون غداً في قمتهم ؟ هل ستكون مثل القمم الأخرى ؟ أم سيقولون شيئاً جديداً؟ أغلب الظن أن العهد بهم هو هو، هل يحيون من موات ؟ هل يجتمعون من شتات؟ هل يستيقظون من سبات؟ هيهات هيهات!

( 6 )

كثيرون هم الدعاة , وأرض الله لا تخلو من داعية إلى الله بحق وصدق , يرفع عن الناس جهلهم , فيعلم جاهلهم , ويرد شاردهم , ويهدي حائرهم , يجمع قلوبهم على الهدى , وأعمالهم على التقى , ونياتهم على خير العمل وعمل الخير.

ولكن القلة القليلة هي التي تكتب لها العالمية , فلا تقف أمام دعوتهم حدود مصطنعة , أو حواجز طبيعية , ولا تقتصر دعوتهم على إقليم معين , أو جنس خاص , أو طائفة محددة , أو طبقة معينة , أو قوم محدودين.

والشيخ القرضاوي من هذا الطراز العالمي , الذي لم يقبل لنفسه أن يتقوقع في بلده الأم مصر , ولم يرض أن يحبس نفسه في قفص الإقليمية , أو يترهب في دولة بعينها تاركاً آفاق العالم الرحبة بجواره تبحث عن قارورة الدواء ومضخة الإطفاء , ومن هنا فقد انطلق الشيخ القرضاوي إلى العالمية بدعوته منذ أمد بعيد.

ولهذا لم يكن غريباً أن ترصد الصحافة العالمية بل والجهات الأجنبية خطوات الشيخ وأخباره.

وقد انطلق الشيخ القرضاوي إلى العالمية مبكراً وكانت هناك عوامل وأسباب دفعت بالشيخ إلى العالمية أهمها:

1- طبيعة الدين : حيث أن هذه الرسالة المحمدية بطبيعتها رسالة عالمية ليست لطبقة ولا لجنس ولا لون ولا دولة ولكنها للعالم كله ] وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [ الأنبياء 107 .

2- انتماء الشيخ مبكراً لجماعة " الإخوان المسلمون " : حيث غرزت الجماعة في نفس شبلها وداعيها روح العالمية لهذا الدين , لقد قامت الجماعة يوم أن قامت لتؤكد عالمية الإسلام , ووحدة بلاده الإسلامية , ولتعلن أن التخوم الأرضية والحدود الجغرافية حدود مصطنعة , صنعت في غير ديارنا , وأريد لها أن تمزق وحدتنا.

ولقد نشأ الإخوان على اعتبار أن كل شبر فيه مسلم يوحد ربه هو وطن لهم , وقد عبر عن ذلك القرضاوي بقوله:

يـا أخي في الهند أو في المغرب  **  أنا منك أنت مني أنت بي

لا تسل عن عنصري عن نسبي  **  إنـه الإسلام أمي وأبـي

إخوة نحن به مؤتلفون

وقال في قصيدة أخرى:

أنا للنــــاس كل الناس لا كســــواي عرقي

وكل الأرض أوطــــاني شمــــال أو جنوبـي

وكل النـــــاس إخواني شرقـــــي وغربـي

3- أزهرية الشيخ: حيث أن الأزهر لا يعد جامعة محلية بل هو جامعة عالمية تضم بين أحشائها من كل أجناس الأرض، فقد خالط الشيخ في الأزهر أجناساً شتى جعلته يمعن النظر في هذه الأجناس وقضاياها.

4- استقرار الشيخ في قطر : وفيها وجد الشيخ الجو الملائم للدعوة إلى الله تعالى وقد أحسن الشيخ استغلال هذه الفرصة , وكما قيل إن الفرصة لا تأتي إلا لمن يستحقها , فلم يلبث الشيخ بعد سنوات معدودة أن انطلق إلى العالمية.

5- استخدام الشيخ الوسائل العصرية الحديثة : فبينما رأينا بعضاً من الدعاة يقاطع أجهزة الإعلام قائلاً بحرمة دخول جهاز التلفاز داخل البيوت , وجدنا على العكس تماماً الشيخ القرضاوي لا يرى سبباً لحرمة التلفاز , أو يرى سبباً مقنعاً يدعو إلى مقاطعة هذا الجهاز الفعال , وكم رأينا برامج الشيخ التلفزيونية وخصوصاً برنامج " الشريعة والحياة " وكذلك " المنتدى " وجدنا لها أثراً فعالاً.

كما استخدم الشيخ الشبكة العالمي "الإنترنت" وذلك من خلال موقع " إسلام اون لاين" وكذلك "موقع القرضاوي".

6- اهتمام الشيخ بقضايا الأمة المصيرية : كقضية فلسطين وأفغانستان وكشمير والعراق.

7- تبني الشيخ منهج التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة .

( 7 )

ولقد جرت عالمية الشيخ في دعوته كثيراً من العدوات , فلم تكن عداوة الشيخ عداوة محلية قاصرة على بني جنسيته , أو بني العروبة، بل تجاوزت هذه العداوة كل الحدود ؛ والمتابع لأخبار الشيخ يرى المتطاولين على الشيخ من كل جهة , فتارة من صغار العلم وأنصاف المتعلمين , وتارة من علماء السلطة وفقهاء السلطان , وثالثة من أعداء الإسلام ودعاة العلمانية , ورابعة من أصحاب الكراسي وذوي السلطان , ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تجاوزه بكثير ليصل إلى دول تصف نفسها بحرية الرأي وتنادي بالديمقراطية ومن هذه الدول :

1- أمريكا : حين منعت الشيخ من الدخول إلى ديارها وكانت حجة القوم أن الشيخ في آخر زيارة له إلى أمريكا خطب خطبة في ولاية " شيكاغو " أشاد الشيخ فيها حركة حماس .

2- فرنسا : حيث فوجئ العالم في يوم 5 / 5 / 1995 م بقرار من وزير الداخلية الفرنسي وقتها " شارل باسكوا " بمصادرة كتاب " الحلال والحرام " ونشر القرار في الجريدة الرسمية الفرنسية واعتبر القرار أن تداول الكتاب في فرنسا شأنه أن يتسبب في أخطار للأمن العام , نظراً لنبرته المعادية للغرب .

وقد أثار هذا القرار حفيظة المسلمين في فرنسا , وقاد اتحاد المنظمات الإسلامية حملة قوية ضد هذا القرار , وتجاوب الإعلام الفرنسي مع القضية , حتى أن أحد الكتاب الفرنسيين كتب في جريدة " ليموند " يدافع عن الكتاب وينوه بما فيه من سماحة , كما أن اتحاد الناشرين الفرنسيين قال : إننا سنطبع الكتاب بالفرنسية ونوزعه رغم أنف وزارة الداخلية.

ولم يلبث وزير الداخلية أن تراجع عن قراره وبعث مستشاره إلى عميد مسجد " باريس " يطلب منه أن يلتمس الإفراج عن الكتاب , حفظاً لماء الوجه , وذهب الوزير إلى مسجد "باريس" وأعلن أنه سيلغي هذا القرار ووصفه بأنه قرار إداري سخيف.

3- إسرائيل : وقد كتب رجالها عن دور الشيخ في الانتفاضة كما أجر حوارات تلفزيونية عن دور الشيخ , ومنهم من دعا إلى اعتقال الشيخ وآخرون دعوا إلى اغتيال الشيخ.

4- فرنسا : والتي منعت الشيخ من دخولها عند افتتاح الكلية الأوربية للدراسات الإسلامية .

( 8 )

وأخيراً : يا شيخنا فإن للدعوة ضريبة ، وقد تعلمنا ذلك منك فاصبر واحتسب . ألست أنت القائل :

ومن تكن برســـول الله قدوته كـــانت خلائقه روحاً وريحاناً

والقائل:

من اهتدى بهدى الأخيار كان  **  على خير وســـار وعين الله ترعاه

.........

* السكرتير العلمي والخاص لفضيلة الشيخ القرضاوي