محمد عبد القدوس

وطدت نفسي علي الكتابة في موضوع الساعة.. أقصد الانتخابات المصرية، لكن قلمي كان له رأي آخر!! أصر علي الكتابة عن كنز ثمين موجود في قطر، وتري روائعه في أكثر من مكان بعالمنا الإسلامي.

قلت في نفسي: لكن هذا الموضوع يمكن تأجيله.. هناك ما هو أهم.

رفض القلم هذا المنطق، فالمناسبة التي تتعلق بالكنز كانت يوم الجمعة الماضي.. وغير معقول تجاهلها دون تناولها خاصة وأنك ستسعد الكثيرين بالحديث عنها.

واستسلمت لهذا الرأي بعدما أقنعت نفسي بأن العديد من الأقلام ستكتب عن انتخابات مصر، ولكن قلة نادرة يمكنك أن تعدها علي أصابع اليد الواحدة هي التي تعرف أن فضيلة الشيخ العلامة يوسف القرضاوي بلغ التاسعة والسبعين من عمره قبل يومين فهو من مواليد التاسع من شهر سبتمبر سنة 1926 أي أنه قد أتم التاسعة والسبعين من عمره المديد.. ألا يستحق الكتابة عنه؟ وأيهما له الأولوية.. هل عالمنا الجليل أم الانتخابات الرئاسية المصرية التي شابتها العديد من الشوائب؟؟ أظن أن القارئ سينحاز إلي إمام عصره.

والشيخ الدكتور يوسف القرضاوي لا يحرص علي الاحتفال بعيد ميلاه، وأسارع إلي القول إن ذلك من منطلق الزهد فقط، وليس لأنه أمر مكروه أو مرفوض من الناحية الدينية، وهو يقول دوما: البدعة هي التي تتعلق بالدين، بابتداع أمور ليست فيه.. ولم يقل أحد إن الاحتفال بعيد ميلاد فلان أو علان مناسبة دينية ولذلك فإنني أحرص علي الاتصال بشيخي الجليل في يوم مولده قائلا له: كل سنة وأنت طيب .. وأراه يسعد بهذه المكالمة، ويمزح معي، ولم يقل لي يوماً: عيب ما تفعله خاصة وأنك من الإخوان !! بل العكس هو الصحيح، شكرني علي تلك المبادرة الرقيقة بحد تعبيره.. وأيضاً هكذا كان الشيخ الغزالي، رحمه الله، من قبل.. رأيت أسرته أكثر من مرة، تحتفل بعيد ميلاده، وهو بالمناسبة ولد في ذات الشهر- سبتمبر وتحديداً في اليوم الثاني والعشرين منه، وكنت أراه سعيداً ومبتهجاً وحوله أبناؤه وأحفاده في يوم مولده.

وإذا عدنا إلي إمام عصره فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي تجد أن هناك أسباباً عدة تدفعك إلي الإعجاب به واحترامه وتقديره.

إنه يمثل مدرسة الوسطية الإسلامية في أجمل معانيها وهي جامعة عريقة ممتدة، ومن أبرز من تخرجوا منها في عصرنا الحديث.. الشيخ محمد عبده، ومحمد رشيد رضا، والإمام الشهيد حسن البنا، وله تلاميذ من العلماء أبرزهم الشيخ محمد الغزالي، والشيخ السيد سابق رحمهما الله، ولا ننسي الكاتب الكبير الدكتور محمد عمارة، وغيره من المفكرين المبدعين الذين ينتمون إلي إسلامنا الجميل.

وإذا سألتني عن المقصود من الوسطية الإسلامية قلت لك إنها تعني الوسط بين التشدد الديني من ناحية والعلمانية الغربية من جهة أخري.. وهناك في الحياة الشخصية للداعية الكبير الشيخ يوسف القرضاوي ما يدل علي ذلك.. بناته مثلاً حصلن علي أعلي الشهادات من أمريكا وانجلترا، وهن ملتزمات متدينات.. يعني وسطية في أجمل معانيها تجمع بين التدين والاستفادة في الوقت ذاته من حضارة أوروبا وأمريكا.

والسبب الثاني الذي يدفع عشاق الإسلام إلي الإعجاب بالإمام الجليل أنه عالم مجاهد، مدافع صلب عما يراه حقاً.. يعيش هموم المسلمين وقضاياهم ولذلك تراه مكروهاً جداً من أكثر من جهة! فالمتعصبون المسلمون يرفضون آراءه ويعتبرونه متساهلاً! وإسرائيل تري فيه العكس، فهو عند الصهاينة متشدد ومتعصب، من أكثر العلماء عداء لبني إسرائيل! وأمريكا ترفضه، وهو حالياً ممنوع من دخول أراضيها! وكذلك تراه غير مرحّب به في العديد من الدول العربية والإسلامية! وهذه التناقضات كلها تجاهه بين الرفض من التشدد الإسلامي والصهيوني والأمريكي والعربي تؤكد أنه علي الطريق الصحيح، ويمثل الوسطية التي يرفضها المتعصبون والعلمانيون، وفي مقابل ذلك يلقي تقدير واحترام ومحبة ملايين المسلمين.

وثالث هذه الأسباب أنه عالم موسوعة، فهو خطيب من الطراز الأول، وكاتب له مكانة رفيعة بين أصحاب الأقلام، تجاوزت مؤلفاته أكثر من مائة كتاب شملت ميادين إسلامية عدة، يأتي علي رأسها الدعوة إلي الله. وتحت هذا العنوان عشرات من الموضوعات، وكذلك تراه متخصصاً في الاقتصاد، وكتابه عن الزكاة عبارة عن موسوعة حصل بها علي الدكتوراه، وهي أفضل ما كُتب في تاريخ الإسلام كله في هذا المجال، وله كتابات عدة كذلك في العدالة الاجتماعية والنظام السياسي الإسلامي، وكل ما يتعلق بشئون الدولة، وتراه كذلك فقيهاً من الطراز الأول، فالشريعة هي تخصصه الأصلي، لكنه اهتم كذلك بالسنّة النبوية وبرع فيها، ومصدره الأول في علمه القرآن الكريم ومن كتاب الله يستمد علمه وإجاباته علي تساؤلات المسلمين في شتي مجالات الحياة.

وعندما تجد عالماً موسوعة وفي ذات الوقت مجاهداً يجهر بالحق بشجاعة ودون أن تغريه الدنيا أو يخشي طاغية أو مستبداً، فاعلم أنه كنز حقيقي، ولذلك لم يكن في عنوان مقالي أي مبالغة عندما قلت: في قطر كنز عمره 79 سنة.. وإحدي مشاكل المسلمين التي لا تخطئها عين، قلة الكنوز التي يملكونها في هذا المجال!! أليس كذلك؟

.......

- المصدر: صحيفة الراية القطرية، 12 سبتمبر 2005.