منذ عقود مضت كان الناس يتحلقون حول الشاشة الفضية على امتداد ساحل الخليج العربي يرقبون إطلالة الشيخ عبر الأريالات البسيطة التي تتلقف موجات تلفزيون قطر المثقف والأمي التاجر والكادح فلاحا ومزارعا المرأة والرجل الصغير والكبير كانت إطلالته لها معنى خاص في ذلك الزمن كان حدث اليقظة الإسلامية لا يزال في طليعته في الخليج والناس لم يعتادوا على هذا الخطاب الذي يملأهم روحا وعقلا يكشف لهم حقائق منيرة ومبادئ عظيمة في دينهم العظيم لم يكن للخطاب الفكري في منطقة الخليج حضور قوي وكانت أجواء الخطاب الديني تنحصر غالبا في الوعظ أو الأحكام المشددة التي يتلقاها الناس فتنفر بعض القلوب من ذلك الخطاب ويفتقد الناس راية أصيلة هادية منيرة لهم في زمن الزحف الجديد للفكر الغربي عقيدة وسلوكا الذي يدفعهم بترغيب وترهيب لهجرة دينهم.

وحين خرج الشيخ للناس وجدوا فيه ضالتهم وشعروا بأن هذا الإمام بات يجدد لهم دينهم الذي ارتضى لهم ربهم وأصبحوا يشعرون بالنصر بعد أن سيطرت عليهم أجواء الهزيمة لم تكن هزيمة 67 عسكرية وحسب ولكنها ارتدت إلى العمق العربي إحباطا من حصاد الهشيم ولذلك حين تلقى الخطاب الإسلامي الناس وأشعرهم بيقظة الضمير قدم لهم خطابا مدعما بالحجة قبل العاطفة يفيض بالإحساس والشعور رابطا رؤيته بمشروع الإسلام الحضاري وكان الشيخ راية التجديد لهذا الخطاب والمتحدث باسمه دون منازع.

كان الشيخ يطوف بالعالم يبشر بالرسالة الخالدة يرشد ويهدي ويحاجج من لا بد من محاججته فيعلوا الحق به دون نياح أو عويل وبأخلاقيات عالية ويرشد بها الشباب والشابات وهي كذلك لا تزال حية فينا بصماته حينا من الدهر.

لم يكن الشيخ في رابطته بالفكر الإسلامي مدرعا بهياكل إدارية بل الفكر كانت لديه مساحة حرة خالدة بخلود الرسالة وان احترم ذلك النظام الإداري واحترمه أهله الذي كان يرى في الشيخ في الزمن القديم متمردا عليه ولا يتحمس كثيرا لنشر فكره وحين دارت الدوائر على ذلك النظام الإداري لم يجد أولئك المختلفون معه إلا الشيخ قد كان لهم راية وعلما يذب عن أشقاء الفكر وشركاء المشروع وهم يركنون إليه فلا يجدون إلا فارس الهيجا في زمن الجحود والتصدي فيلوذ الناس به وحق لهم أن يلوذوا.

كان الشيخ ولا يزال كلما نزل بالمسلمين نازلة أو حين تعرض لهم فتنة من عدوهم أو من نوائب الدهر التفت الناس إلى ضميره الحي فوجدوه حيا كما تعودوا أيقظ من لم يستيقظ وبعث الفكرة ونظم الصفوف وحرك الهمم فأشرق به البعث الإسلامي وانتصبت رايته وهل وجد الناس يدا أجل من يده لحمل الراية.

كان الخطاب المسيطر على جيل الوعي الإسلامي خطاب المفاصلة والمواجهة وقليل من الإدراك لمعاني التسامح والانفتاح والحوار فأخذ الشيخ بيد ذلك الجيل يمسح على قلبه ورأسه ويتفهم حالة المواجهة التي يعيشها من الأجواء المحيطة و بعث فيه روح الرشد والمحبة للناس والمجتمع فرشد به الجيل ورحل به إلى بر الأمان فأصبح به المجتمع في محبة ووئام كرهها العدو ووكلاؤه واستفزتهم.

كان الشيخ ولا يزال متسامحا حبيبا خلوقا يبشر ولا ينفر يجمع ولا يفرق تعلم منه الجيل خطاب الوحدة وسمع منه تعاليم المحبة وكراهية الكراهية تؤوب إليه القلوب كل القلوب حين تقصده فترتاح له وترتاح به يؤانسها فكرا ويرشدها هديا.

وحين تهب العواصف وتستباح كرامة الإسلام وحرمة إنسانه له شأن آخر وخطاب آخر خطاب كمرجل ثورة ولكنها ثورة راشدة لا شطط فيها تقف عند حدود الله ولا تضيع حدود الخلق التي أرشد إليها الحق فيبعث الشيخ في العالم الإسلامي الجريح أخوة الدين ووحدة الهوية والمصير ويثير نخوة العربي ومروءته وقبل ذلك وبعده واجبات العالم والإمام بعد أن ضيع كثير من أولئك العلماء حق الله وحق الناس وأصبح الشيخ في قلة من أمثاله هو رائدهم بلا شك ينتصر للإسلام وينتصر به المسلمون.

كان الشيخ إمام الجامع الأكبر وشيخ الأزهر الشريف لكن دون تعيين فقد انتخبته قلوب المسلمين وأكفهم دعاء وتزكية وما ضره ألا تخلع عليه الألقاب أو أن تنعته واشنطن بالتشدد.

علمنا الشيخ أن نحاور دون أن نبيع مبادئنا وأن نسعى للوحدة والاجتماع بكل ما نستطيع وأن نتنازل ما دام التنازل في سبيل الأمة وأن نتشدد ما دام التشدد لمصلحتها وحماية هويتها.

نعم لم يكن الشيخ معصوما وجدد آثار الأئمة المجددين قبله وزاد من وعيه الخاص ولكن به نشر الله كثيرا من فضلهم وعلمهم وبه وحد الناس رأيهم وهل تأبى عن ناقد بصير يرشد لفكرة أو يوجه لخطأ طُمر في معالمه العظيمة وراياته الرشيدة وكم وكم يا سيدي فهل نحصي محاسنك أم نعد تخاذلهم إن لم نقل خيانة بعضهم.

واليوم ثقل الجسد بتلك الروح العظيمة وما ثقلت روحه عن حملها وتطاول الأقزام عليه فهاأنذا أرصد مثقفي المار ينز برعاية واشنطن ومثقفي الباسيج برعاية طهران ومعهم نفر من سفهاء الأحلام ينتمون للأمة ولا ينتمون يحملون على الشيخ قد قبح منطقهم ووقح حوارهم وقد ضاق بهم الفضاء بعد أن نبت الزرع وأينعت الثمرة بل وقطف حصاده فأصبح يغيظ به المستبدين عربا وعجما ويطيش عقول الرويبضات وما أكثرهم بعد أن ارتفعت راية الرشد الإسلامي وحضارة الأمة به والأمة تهتف لسيدي الإمام العلامة يوسف القرضاوي بخ بخ ربح البيع ربح البيع سيدي فلا نامت أعين الجبناء.

ـــــــــــــ

- نشرت هذه المقالة في جريدة الشرق القطرية بتاريخ 19/ 2 / 2006م.