في إحدى ليالي رمضان في عقد الثمانينيات أكرمني الله مع مجموعة من الأصحاب، وكنا طلبة في الجامعة، أن نعتكف في أحد المساجد في الدوحة، وكان الشيخ القرضاوي من عادته أن يزور بعض المعتكفين في بعض المساجد في رمضان، وقد كان حظنا في تلك الليلة أن يزورنا الشيخ. جلس الشيخ وتحلقنا حوله وأخذ يحدثنا بحديث استجمع به قلوبنا، فكأنها أوعية اجتمعت تحت يده ليملأها كيفما شاء.

وفي ختام حديثه دار نقاش وأسئلة، فقام أحد الزملاء المعتكفين فسأله قائلاً: يا فضيلة الشيخ، ألا ترى أن أسلوب العنف والتفجير مجدٍ مع الحكومات "العميلة"؛ حيث إنه يوجعها ويجعلها في مأزق مع شعوبها؛ وهو ما يضطرها إلى الرضوخ والإذعان إلى مطالب الإسلاميين.

وقد كانت أحداث التفجير في بداية اشتعالها في الثمانينيات في مصر قبل اشتعالها في الجزائر وأوربا.

فما كان من الشيخ إلا أن احمر وجهه وغضب وقال بحزم: إن هؤلاء وأمثالهم إنما هم أناس متسرعون، يريدون أن يطفئوا شيئا في أنفسهم وحسب، ويهملون ما قد يترتب على ذلك من مفاسد عظيمة للإسلام. ثم أخذ الشيخ يفصل حول ذلك بنفس الحزم والقوة حتى وقع في قلب الجميع خطأ ذلك الفعل.

قال لي الأخ نفسه صاحب السؤال بعد سنين طويلة: إن حزم الشيخ وقوة منطقه في تلك الليلة هي التي جعلته -بفضل الله- يبتعد عن خط التفجيرات، وقد كان أحد المقتنعين بجدواها.

يا هل ترى كم منع الشيخ من أمثال هذا الشاب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من الانخراط في سلك العنف باسم الإسلام؟!!.

يا هل ترى ما الذي يجعل الشيخ القرضاوي في ذلك الوقت، وهو من هو في مكانته العلمية والاجتماعية والدولية، أن يتواضع ويزور بضعة عشر شابا يعتكفون في مسجد، في الوقت الذي يأنف فيه كثير ممن نعتبرهم (مشايخ) أن يجتمع أو يتكلم أو يخطب في مسجد يحضره أقل من 500 شخص؟!.

وبعد الدرس قام الشيخ وصلى بنا إماما صلاة التهجد، قرأ فيها ما تيسر له من سورة التوبة، والشيخ صوته جهوري وترتيله ليس كترتيل القراء الجيدين، ولكن من يصلي وراءه يعرف جمال وحلاوة تلك الصلاة وتلك التلاوة.

لا زلت أذكر صوته وهو ساجد في تلك الليلة يقول: "اللهم اغفر زلتي، واغسل حوبتي، واقبل توبتي، واستر عورتي، وثبت حجتي، واسلل سخائم صدري".. اللهم استجب.

ـــــــــــــــــــ

* نشرت هذه المقالة فى جريدة الشرق بتاريخ 1- 2-2006.